مدارات

صَفْحَة منِ السِيرَة : المَحَطّة الأخِيرة !/ يوسف أبو الفوز

"وداعتك لاخر محطة قلوبنا تروح وياك
وداعتك ما تحله دنيا ولا عمر بلياك"
ما هو سر تعلق الشيوعيين العراقيين بحزبهم، وتمجيدهم لشهدائه؟ أهو تعلق صوفي؟ اهو تأثيرات عائلية كما يقول البعض؟ ام ان هناك امور اخرى غائبة عن بال المتابع؟ هل الشيوعيون حقا من طينة خاصة؟ بماذا يختلفون عن غيرهم من المناضلين؟ و... !! ان بالامكان الاسترسال في طرح الاسئلة بدون توقف، لانها تتوالد من بعضها البعض في دوائر وشبكة محيرة ، لكن ليس من العسير التوصل الى اجوبة واضحة.
لم يأت الشيوعيون من كوكب اخر، انهم ابناء هذا المجتمع، هذا الوطن، العراق، وجاؤا من مختلف قومياته واديانه وذوي انحدارت طبقية مختلفة، لكن الغالب فيهم هو ابناء العوائل الكادحة والمتوسطة. ان الراحل ابو كاطع ـ شمران الياسري (1927 ـ 1981) ، وفي احدى مقالاته ، سمى الشيوعيين بـ"ملح الارض"، ولم يخالف الواقع بذلك، لانهم ناس عاديون مثل غيرهم، لكن لا يمكن تصور العراق من دونهم. أن حزبهم ، مثل نخل العراق، دائم الخضرة، شامخا ، مثمرا رغم كل عوداي الدهر، تمتد جذوره عميقا في تربة البلاد وقلوب ابناء شعبه .
يوما في سبعينات القرن الماضي، قال القائد الشيوعي والكاتب السياسي رودني اريسمندي (1913 ــ 1989)، من الاورغواي: "نحن الشيوعيين لسنا نوعا خاصا من البشر، نحن من الطبقة العاملة ومن هذا الشعب ونحن بالنتيجة مواطنون عاديون مرحون ومتواضعون مغرمون بالحياة ومسراتها، مغرمون بزوجاتنا واطفالنا، بالسلام وبدفء الصداقة، بالغيتار والاغاني وبالنجوم والازهار". والشيوعيون العراقيون، جزء من هذا الكلام. أن الشيوعيين العراقيين يحبون الحياة ويعشقون نسائهم ويحبون المعرفة والفن ومرحون وجادون، وأيضا يرتكبون الاخطاء مثل غيرهم من الناس .. ان الحزب الشيوعي العراقي مؤسسة سياسية اجتماعية، لها قوانينها وضوابطها الداخلية ، وبابها مفتوح امام كل مواطن ضمن هذه الضوابط ، فليس غريبا ان نجد احيانا بين صفوفه بعض من يسئ لعضوية الحزب ويخرق نظامه وتقاليده. وليس غريبا ان يكون هناك حتى متخاذلين وخونة، ولكن هؤلاء يشكلون افرادا يمكن تشخيصهم بسرعة وعزلهم وتبقى الصورة المعروفة للشيوعيين التي تجعل الآخرين يشيرون إليهم بالأصابع كمناضلين واجهوا الصعاب وتحملوا عسف اعتى الانظمة لاجل مستقبل شعبهم ووطنهم وقدموا قوافل من الشهداء جعلت غيرهم يسمون حزبهم بـ "حزب الشهداء". فهم مرتبطون بقضية شعبهم وحقوقه وطموحاته، وعلمتهم مباديء حزبهم وسيرة الشهداء والمناضلين الايثار بكل شيء لاجل ذلك، والتمسك بارفع القيم الحياتية مما يجعل الاخرين يعتبرونهم طينة خاصة. فلا مكان للفاسدين في صفوف الحزب الشيوعي، و هيئات الحزب صارمة في التعامل وفق النظام الداخلي والاعراف التي ولدت خلال سنوات العمل الطويلة.
يتداول الناس قصصا كثيرة، عن سجناء عاديين، سجنوا لاحكام بسبب جنايات مختلفة، وعاشوا مع الشيوعيين في السجون ، وحين غادروا جدران السجن اكتشف الناس ان هناك تغييرا للافضل حصل مع بعضهم ، بل وان البعض منهم انخرط في النضالات الوطنية . كيف يتحول سجين عادي ، سارق وربما قاتل ،الى انسان صالح، انسان افضل؟ هل ثمة سحر خاص يملكه الشيوعيون للتاثير على الناس؟ كان الشيوعيون حريصين على ان يكونوا قدوة للاخرين في سلوكهم العام. في التكاتف والشعور بالمسؤولية تجاه الاخرين، وفي السجون فتحوا صفوفا لمحو الامية والتثقيف والتوعية وكان سلوكهم العام معيارا اساسيا يقتدي به الاخرون. وكان للشيوعيين العراقيين في مدينة السماوة، من اعضاء تنظيم "اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي"، وخصوصا الطلبة منهم، في مطلع سبعينات القرن الماضي، تجربة مثيرة مع بعض الافراد من الشباب، الذين ينظر لهم المجتمع بدونية او حذر كبير، وربما يعتبرون من هوامش المجتمع . من هؤلاء الشيوعيين اذكر الشهيد زهير عمران موسى (1954 ـ 1983)، الشهيد جبار خضير عباس ( 1956 - 1982 ) واخرين. وفي البال احد شباب المدينة الذي كان يعتبره البعض شقيا، لكن الشيوعيين حاولوا تفهم ظروفه الحياتية، ورصدوا في داخله الاشياء الطيبة المطمورة، ودرسوا امكانية التأثير عليه، فالتفوا حوله بخطة عمل مثابرة . وسرعان ما توقف عن حل خلافاته بالعراك والسكين التي كانت لا تفارقه قبل ذلك، وشجعوه للتوجه للعمل ليكسب رزقه بنفسه، وسرعان ما نال احترام الناس وتزوج وكون عائلة. سُئل هذا الشخص عن السر الذي جعله يتغير ويكون انسانا اخر فكانت اجابته بأنه اقتدى بسلوك الشيوعيين واحبهم واراد ان يكون مثلهم . وتروى عنه ايضا حكاية طريفة بأن احد شرطة امن المدينة سأله يوما مستغربا بعد ان رصد تغيرا في سلوكه: " اشو لا عركات لا شكاوي ضدك، شنو بس لا صاير شيوعي؟" فاجابه : " شيوعي ما صرت بعد، يجوز اصير فد يوم ، بس لأول مرة أشوف عقلك يشتغل تمام ويقودك لاستنتاج صحيح !".
في الحلقات الحزبية الاولى كان المنظمون يأكدون لنا نحن الشباب الصغار بانه لابد ان يكون الشيوعيون مثالا وقدوة في سلوكهم امام الناس ليكسبوهم. وتعلمنا ان الحديث عن حقوق المراة والمساواة والاستشهاد بالاقوال والنصوص لساعات لا تكسب احدا، بقدر ما يؤثر عليه سلوك الشيوعي مع زوجته وامه واخته.
وطوال عمره النضالي، اوجد ومارس الحزب الشيوعي العراقي تقاليد مراجعة سياساته وبرامجه وتجديدها بما يتلائم والتطورات في المجتمع العراقي والعالم ، ويكاد يكون الحزب السياسي العراقي الوحيد ، الذي يعلن مشاريع وثائق مؤتمراته للجماهير لمناقشتها، وليستقبل الملاحظات كي يدرسها مؤتمر الحزب ويدققها المندوبون. وفي اغلب مؤتمراته هناك فقرة خاصة لمراجعة سياسة الحزب واداء قيادته ومراجعتها، وحيث تنتقد الاخطاء بكل صراحة لاجل تقويمها . وهذا الامر بدوره ينعكس على هيئات الحزب واعضاء الحزب، فممارسة النقد والنقد الذاتي اصبحت تقليدا راسخا في حياة الشيوعيين وعمل مختلف الهيئات، وصارت تعززه الديمقراطية الحزبية يوما بعد اخر.
تُعلم مدرسة الحزب الشيوعي اعضاءها بان على الشيوعي ان يكون شجاعا في مواجهة اخطائه، ان يتعض منها ليكون بأداء افضل . فالشيوعي انسان واذ يمكن ان يخطئ فان عليه ان يتجاوز خطأه ويتعض منه . ان سائق السيارة الماهر لأجل ان يتقدم للامام دائما عليه اجادة استخدام المرآة في السيارة لمراقبة الجوانب والخلف. مما جعل الحزب مدرسة نضالية ليس على الجانب السياسي والفكري بل والاجتماعي ايضا. ان الشيوعي علمته التجارب ان يكون انسانا يتطلع للافضل دائما، وان يعالج الحواشي الرخوة ـ على حد تعبير المناضل عزيز محمد ـ في شخصيته، وان يصلبها بالعمل والتعلم من الاخرين ليكون حقا نموذجا متميزا "تحلف الناس براسه " ..
من هنا ، فان الحزب الشيوعي العراقي مؤسسة مدنية تتآزر فيها العقول النيرة والنفوس الخيرة والطاقات ، لاجل مصلحة الاخرين . ويزداد تمسك الشيوعيين بحزبهم لادراكهم انه ذو نهج صالح لاجل عموم الناس وبهدى من مبادئه يفتدي الشيوعي الآخرين بنفسه، وقصص ومأثر الشيوعيين المقاتلين الانصار لاتعد ، في تضحية العديد منهم بانفسهم لاجل انقاذ رفاقهم ، مما يجعل عموم الشيوعين يتمسكون ببعضهم البعض، بتعاطف كبير، و هم فخورون دائما بحزبهم ورفاقهم، مدركين ان قطار الحزب يسير بهم الى محطة الوطن الحر والشعب السعيد!