مدارات

عالم الاجتماع والسفير الأممي جان زيغلر... حول نقاط الضعف والقوة في الأمم المتحدة

رشيد غويلب
جان زيغلر عالم اجتماع ،وعضو سابق في البرلمان السويسري، والمقرر الخاص للجنة الحق في الغذاء التابعة للأمم المتحدة ، ومستشار لدى لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة. احتفل في 19 نيسان بعيد ميلاده الـ 83 . يعتبر زيغلر نفسه شيوعيا وفق تقاليد كارل ماركس وكومونة باريس. نشرت اخيرا جريدة "نويز دويجلاند"، القريبة من حزب اليسار الألماني، حوارا مطولا معه حول طبيعة المنظمة العالمية ونقاط ضعفها وقوتها. في ما يلي أهم الموضوعات التي تناولها زيغلر.
في توصيف الأمم المتحدة
في البداية لابد من عرض تاريخي موجز: في آب 1941 ، التقى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل على متن البارجة "اوغستينا" قبالة سواحل نيوفاوندلاند وفي خضم عاصفة عنيفة. وفي وثيقتهما "ميثاق الأطلسي"، ظهرت لأول مرة تسمية "الأمم المتحدة". اسم جميل. كان ذلك قبل معركتي ستالينغراد والعلمين. ولم تلح في الأفق بعد بارقة امل. والوحش النازي يهيمن على القارة الأوروبية. ورجلا الدولة الحكيمان يقولان" "اذا انتصرنا على الفاشية سنقيم نظاماً عالمياً جديداً". وحدث هذا بعد أربع سنوات في سان فرانسيسكو.
اعلان موسكو 1943 وبعده كانت الركائز الثلاث التي ينبغي للنظام العالمي الجديد الارتكاز عليها: اولا، يجب ان يختفي البؤس من العالم - عدالة اجتماعية لعموم الكوكب. ثانيا، يجب ان تختفي الحرب من العالم - ضمان امن جماعي ينبغي ان يضمن ذلك. وثالثا، حقوق الإنسان المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة الصادر في 10 كانون الأول 1948 .
وجميع هذه الركائز كانت هشة، فلم يجر تحقيق العدالة الاجتماعية، ولا حتى الحق في الحصول على الغذاء. وان فضيحة عصرنا هي مجازر الجوع اليومية. والعالم يتقبل ببرود، ان يجوع في كل 5 ثوان طفل تحت سن العاشرة. و قرابة مليار ، من اصل مجموع سكان العالم البالغ 7,3 مليار، هم اشقاء لجوع دائم. والارقام في تصاعد مستمر. ووفق تقرير الغذاء العالمي، يستطيع العالم تغذية 12 مليار انسان، اي قرابة ضعف سكان العالم الحاليين. ان الجوع يمثل ابادة جماعية، يضاف الى ذلك الحروب الكثيرة. وصورة حقوق الانسان تبدو بالشكل التالي: وفق تقارير منظمة العفو الدولية فان 67 بلدا من مجموع الدول الاعضاء في الامم المتحدة البالغ 193، يمارسون التعذيب،بضمنها الولايات المتحدة الأمريكية.
حق النقض «الفيتو»
الأمم المتحدة تتفرج لانها مشلولة في سوريا، دافور، غزة، وفي بلدان أخرى. ويعود ذلك لحق النقض . على البارجة اوغستينا قال روزفلت: "سوف ننشئ منظمة عالمية ديمقراطية بالكامل، لكل دولة صوت واحد". الصين التي يبلغ عدد سكانها 1,3 مليار لها صوت واحد،ونفس الحق تتمتع به فانواتو التي يبلغ عدد سكانها 55 الفا. واجاب تشرشل: "هذا غير ممكن. لقد وصل هتلر الى السلطة عبر الانتخابات، ثم فرض قانون التفويض عبر البرلمان (الرايخشتاغ). الأمر بحاجة الى كوابح طوارئ". وكان كابح الطوارئ هذا حق النقض. القوى المنتصرة الخمسة في الحرب العالمية الثانية، التي تتمتع بالعضوية الدائمة لمجلس الأمن المؤلف من 15 عضوا يجب ان يكونوا دائما متفقين. في الحالة السورية استخدم السفير الروسي حق النقض 8 مرات- دائما عند مناقشة تدخل الامم المتحدة، ان كانت قوات حفظ السلام، او توفير ممرات للمساعدة الانسانية،او مناطق لحظر الطيران.
والإدارات الأميركية تنفذ ضربات جوية، دون التشاور مع الأمم وتنشر أكاذيبها الصارخة. واكثر من هذا: في قطاع غزة، هناك 1.8 مليون انسان محاصرون داخل 365 كيلومترا مربعا، ويعانون من الجوع ونقص الأدوية. الأمم المتحدة غير ممثلة لا في المناطق الفلسطينية المحتله ولا في القطاع. والفيتو الأمريكي يحمي جرائم حرب الاسرائلين. وفي دافور في غرب السودان، حيث تدور منذ 13 عاما حرب اهلية، لا حضور للامم المتحدة، لان الصين متمسكة بحق الفيتو. ان 11 في المائة من النفط الذي تستورده الصين يأتي من هذه المنطقة.
«خط للأمل الضيق»
الأمل موجود دائما حتى وان كان اصغر من اي وقت مضى. ويشير زيغلر الى عنوان احد كتبه "خط للأمل الضيق".عندما غادر كوفي عنان منصبه بعد عشر سنوات من ممارسة مهامه كامين عام للامم المتحدة، ترك وصية تتضمن خطة لاصلاح المنظمة الدولية. نصت على عدم استخدام حق النقض بعد الآن، لأنه غير مؤثر في الصراعات، التي تمارس فيها جرائم ضد الانسانية، التي عرفت بدقة في النظام الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية.
لقد استقرت خطة كوفي عنان في ادراج المكاتب السفلى ولاتزال موجودة هناك. وادراج مكاتب الأمم المتحدة عميقة جدا. ومنذ اشهر عدة تفكر مجموعة من الخبراء باخراج خطة عنان من الأدراج وتحديثها. لان الحرب في سوريا، والحرب في دارفور، واستمرار تساقط شهداء الشعب الفلسطيني لا نهاية لها من دون تدخل الأمم المتحدة، ومن دون دبلوماسية متعددة الأطراف. لقد أظهرت الأطراف المتحاربة، على مر السنين، عدم قدرتها على التفاوض مع بعضها البعض. الأمم المتحدة وحدها قادرة على حل النزاعات وانهاء المجازر. وفي هذه الاثناء تعاني البلدان التي تملك حق الفيتو من انعكاس الصراعات. لأنها تنتج الإرهابيين الذين يمارسون القتل في باريس ونيس وبروكسل وبرلين ولندن وموسكو وسانت بطرسبورغ وستوكهولم.
ليس هناك مراقبة مكتملة. والارهاب يهدد الجميع. والأمر مرتبط بالناس، بغضب المجتمع المدني. وليس هناك اغماءة في الديمقراطية. فعلى سبيل المثال "القانون الاساس" (الدستور الالماني) سلاح بيد المواطنات والمواطنين الالمان لاجبار الحكومة الاتحادية، التي تمثل الشعب صاحب السيادة لفترة محددة، للعمل من أجل خطة كوفي عنان. وهذا هو الأمل.
ملف اللاجئين
لقد انشأت الأمم المتحدة، باقرارها الاتفاقية العالمية للاجئين في عام 1951، حقاً عالمياً جديداً للانسان، الحق في اللجوء لجميع الملاحقين لاسباب دينية، سياسية، او عنصرية. وما تقوم به الحكومة الهنغارية، والسلوفاكية يتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين. رئيس الحكومة الهنغارية فكتور اوربان يغلق الحدود بكميات هائلة من الأسلاك الشائكة، ويلقي بالنساء والرجال والأطفال في السجون، لمجرد أنهم يطلبون اللجوء. ويفعل الشي نفسه ميلوش زيمان في براغ. وليس اقل ودا حكومات بولونيا، رومانيا، وبلغاريا. لكن عندما يوقف رئيس المفوضية الأوربية جان كلود يونكر دفعات التضامن، يعود اوربان الى رشده، وتختفي الأسلاك الشائكة.ولكنهم جميمعا متواطئون في دراما اللاجئين.
ويمكن تدمير عصابات المهربين غدا. ولكن اوربا تعيش وهم ان يؤدي انتشار الحديث عن تصاعد عدد الذين يموتون غرقا، الى الحد من تدفق اللاجئين. ان الذين يقصفون يوميا، ويواجهون خطر التغييب في السجون والتعذيب، والذين لا يملكون ما يسد رمقهم، ليس لديهم ما يمنعهم من ان يجربوا حظهم في الغرب البعيد. ان سياسة اللجوء الأوروبية تمثل جريمة ضد الإنسانية.
باعتباره المقرر الخاص للجنة الحق في الغذاء التابعة للأمم المتحدة ، ومستشارا لدى لجنة حقوق الانسان في الأمم المتحدة، طرح زيغلر في اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة في 2005 وفي اجتماع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في جنيف مقترح: مالفرق في ان يموت للانسان من الجوع او تمزقه قذيفة، فالنتيجة واحدة. وتلقى بعد ايام اتصالا هاتفيا من الأمين العام الحالي للامم المتحدة انطونيو غوتيريس، الذي كان يشغل حينها منصب المفوض السامي لشؤون اللاجئين. وبعد تقديم الشكر طلب منه سحب مقترحه فورا مضيف "الا تعلم بوجود ملايين من اللاجئين بسبب الجوع؟". ونتيجة لاصرار زيغلر على حاجة لاجئي الجوع الى حماية اجاب غوتيريس : " اذا قمت بذلك فانك تدمر اتفاقية اللاجئين".
ويمكن اعادة مخاوف غوتيريس الى احتمال ان تؤدي مفاوضات دولية جديدة بشان اتفاقية اللجوء، في ظل تصاعد دور القوى المحافظة الى الحد من حق اللجوء او حتى تصفيته. والوضع لم يتحسن منذ 2005 . قوى اليمين اصبحت اكثر تأثيرا، لنشير الى الجبهة القومية في فرنسا، انها حركة سيئة جدا، فاشية وعنصرية. وبالمناسبة ان مؤسس الجبهة ووالد زعيمتها الحالية ماري لوبان، كان ظابطا للتعذيب خلال حرب الجزائر.
ويدعو زيغلر الى تقييم العاملين في المنظمات الانسانية، الذين يساهمون في حل النزاعات او تجاوز الكوارث، ويطالب باقامة نصب لابرزهم، ومنهم التونسي الدالي بلقاسمي من سيدي بوزيد، المدينة التي انطلق منها الربيع العربي في كانون الأول 2010. لقد كان رئيس مكتب برنامج الغذاء العالمي في إسلام آباد عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان. حينها حدثت مجاعة رهيبة، لأن فوضى عارمة سادت اقتصاد البلاد بسبب الغزو. ورغم تحذيرات الجيش الأمريكي والأخطار الجدية، قاد الدالي قافلة مساعدات من 18 شاحنة عبر ممر خيبر إلى جلال أباد. ويعود له الفضل في انقاذ آلاف من الأفغان. لقد كان رجلا شجاعا ومرحا.
نجاحات الأمم المتحدة
للأمم المتحدة ايضا نجاحاتها : برنامج التغذية العالمي الذي ابقى على سبيل المثال في العام الفائت 91 مليون انسان على قيد الحياة. المثال الآخر: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نظم الأمين العام للأمم المتحدة المصري بطرس بطرس غالي، في عام 1993 المؤتمر الثاني لحقوق الإنسان منذ مؤتمر باريس في عام 1948. لتوحيد الحقوق المدنية والسياسية من جهة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة اخرى، في اعلان اممي جديد، ولتحقيق لغة انسانية مشتركة بين الجانبين، بعد ذوبان الجليد بين الشرق والغرب. الولايات المتحدة رفضت المشاركة في التصويت، وترفض حتى اليوم الاعتراف بـ"بيان فيينا" الذي ينظم، بين امور اخرى، الحق في الغذاء.
«رائع ان تكون سويسريا»
وفي ختام الحوار يصف جان زيغلر وطنه باعتزاز واضح:
سويسرا بلد رائع. تبلغ مساحته 42 الف كيلومترا مربعا، ستة في المائة منها فقط صالحة للسكن. وأنا مواطن جمهورية جنيف، التي تأسست منذ 1536. سويسرا بلد مجنون تماما.لقد رفع بلدي الحصانة البرلمانية عني، لأنني قد قاضيت مراكز المال ومؤسساته. تعيش سويسرا على نزيف العالم الثالث. وهي ثاني أغنى دولة في العالم، وفقا لحصة الفرد من الدخل. وليس لديها مواد خام. مادتها الخام هي الأموال الأجنبية. لكني نشأت هناك، و أمضيت طفولة سعيدة في أسرة متوسطة، وتمتعت بالتعليم والحريات. وتمكنت من تمثيل الاتحاد السويسري في الأمم المتحدة، على مدى السنوات الـ17 الماضية. ورأيت جميع أنحاء العالم. انه امتياز.