مدارات

في الذكرى المئوية لثورة أكتوبر العظمى .. قاطرة تاريخ القرن العشرين (2) / د. صالح ياسر

الأزمة الثورية تنضج روسيا على طريق الثورة البرجوازية الديمقراطية
كانت الأزمة الثورية تنضج بوتيرة سريعة وعمّت حركة الإضرابات أهم مناطق البلاد الصناعية. كما ظهرت بوادر التمرد الثوري في صفوف الجيش. هكذا كان الوضع السياسي في روسيا قبيل ثورة شباط 1917.
في شباط 1917 اندلعت في روسيا الثورة البرجوازية الديمقراطية، التي دخلت التاريخ كأول ثورة شعبية مظفرة في عهد الامبريالية، مؤججة عمليات الصراع الطبقي التي أدت لاحقا الى انتصار ثورة اكتوبر العظمى.
وفي اليوم التالي بدأ الإضراب السياسي العام يتحول الى انتفاضة مسلحة. وفي هذا اليوم أطلقت قوات الشرطة النار على المتظاهرين مما أسفر عن مصرع العشرات. ورغم تأكيد قوات الشرطة على عودة النظام والهدوء الى العاصمة فقد أدى هذا العمل الى إثارة مقاومة قسم من قوات حامية بتروغراد، وباتت وحداتها تنتقل الى جانب الثورة. وفي مساء 27 شباط انظم الى الجماهير الثائرة 60 ألف جندي. وفي مساء اليوم ذاته أصبحت العاصمة كلها عمليا في أيدي الثوار.
كان لدى الملكية في تلك الأيام قوى فعلية للصراع، تضم الجنرالات والضباط الرجعيين والبوليس والدرك. وحظي القيصر بتأييد الإقطاعيين وقمة البرجوازية التجارية الصناعية. غير أن تناسب القوى الطبقية لم يدع له فرصة الاحتفاظ بالسلطة، ولم يكن بإمكان الحكم الاستبدادي أن يخمد الثورة وأن يخفف مداها بأية إصلاحات.
في يوم 27 شباط/فبراير، تشكلت من ممثلي الأحزاب والتكتلات البرجوازية لجنة مؤقتة لمجلس الدوما، استمرت في محاولاتها لإنقاذ الملكية. وعندما اتضح نهائيا أن على مجلس الدوما أما أن ينحاز الى الثورة وأما أن يقضي على نفسه بالهلاك مع الحكم الاستبدادي أعلن رئيسه قرار اللجنة المؤقتة القاضي بالاضطلاع بتشكيل الحكومة، خوفا من أن يعلن سوفيت بتروغراد نفسه سلطة جديدة.
من المعلوم أن حركة الجماهير كانت قوية الى حد أنها امتلكت بنية تنظيمية خاصة بها، تمثلت بمجالس (سوفييتات) مندوبي العمال والجنود والفلاحين يسندها حراس حُمر مدججون بالسلاح. وهكذا شهدت روسيا منذ شباط 1917 نظام ازدواجية سلطة فعلية. ففي وجه الحكومة المؤقتة التي تقف على رأس جهاز دولة برجوازية في حالة تفكك بطيء كان هناك شبكة من السوفييتات تبني سلطة دولة عمالية يوما بعد يوم. ولكن عندما اندلعت ثورة شباط وتمت الإطاحة بالحكم القيصري وصعد تحالف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة بقيادة الجنرال كيرنسكي إلى السلطة، فانه بدلا من أن تسعى تلك الحكومة إلى تحقيق السلام وتوفير الخبز لأبناء روسيا، سعت إلى الاستمرار بسياسة الحرب وبقيت تتمسك بالأحلاف العسكرية.
وهكذا خابت مجددا آمال الملايين من الجنود الروس الرابضين في جبهات القتال تحت رحمة المدافع وشبح الموت والمرض والجوع، وخاب أملهم في تحقيق الصلح وذلك بذريعة الدفاع عن الوطن ومقدسات الأمة الروسية!.
وفي الوقت الذي كان فيه الصراع على أشده بين الضواري الاستعمارية المتصارعة من أجل حصص البرجوازية في كل من البلدان المتحاربة من المستعمرات لإعادة تقسيم العالم وفق المصالح العليا للقوى "الظافرة" في تلك الحرب المجنونة، وعندما كانت مختلف الحكومات البرجوازية المتحاربة مصممة على مواصلة الحرب وإلحاق المزيد من الدمار والأذى بشعوبها وكل شعوب العالم الأخرى، قرر البلاشفة بقيادة (لينين) صد بربرية الأنظمة الرأسمالية وحربها الوحشية وإسقاط حكومة الحرب التي كان يقودها (كيرنسكي) لتحل محلها حكومة العمال والفلاحين الثورية. وعلى هذا الطريق قاموا بتجميع القوى ونظموا صفوف الجماهير من جديد، داعين الطبقات الثورية داخل المجتمع الروسي للالتفاف حول البرنامج الثوري للحزب البلشفي.
تحشيد القوى وخوض المعارك لتحقيق الهدف الاستراتيجي
يساعد تحليل هذه التجربة والخبرة التي تراكمت على فهم جوهر التكتيكات المستخدمة آنذاك لتطوير الثورة وترقيتها والتغلب على الصعوبات العملية التي واجهتها أثناء تحشيد القوى وزجها في معارك متواصلة لتحقيق الهدف الاستراتيجي.
لنعاين كيف جرت التطورات.
في 25 شباط أصدرت لجنة بطرسبورغ لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا (البلاشفة) منشورا جاء فيه " إن أمامنا فترة من الكفاح، ولكن النصر المحقق لنا! على الجميع الانضواء تحت راية الثورة الحمراء.... كل أراضي الملاكين العقاريين للشعب! تسقط الحرب! تحيا الاخوة بين عمال العالم اجمع!" وهكذا دوّت كناقوس ضخم دعوة البلاشفة للنضال الحازم من اجل الإطاحة بالحكم المطلق. وراح إضراب عمال بتروغراد يتحول الى إضراب عام، ثم الى انتفاضة مسلحة ضد القيصرية.
وفي مساء 27 شباط 1917، وكما سبق القول، انضم ما يزيد عن ستين ألفا من جنود حامية بتروغراد الى جانب العمال. وعمت الانتفاضة في هذا اليوم كل أنحاء بتروغراد تقريبا. وكان هذا اليوم هو يوم انتصار ثورة شباط البرجوازية الديمقراطية.
هكذا، إذن، كان للتاريخ منطقه الخاص. ففي الأول من آذار/مارس تحطمت سلطة الحكومة القيصرية نهائيا. وفي ليلة 8 آذار وضع آخر حاكم روسي مستبد، ليس بإرادته قطعا، توقيعه على وثيقة التنازل عن العرش. وهكذا سقطت الملكية العاجزة عن مقاومة هجوم الثورة، تحت ضربات الجماهير الشعبية.
وفي حديثه عن تكتيك أيام ثورة شباط أشار (لينين) الى انه التكتيك الثوري الاشتراكي الوحيد الحقيقي. لقد سقطت الملكية المطلقة التي استعبدت روسيا قرونا عديدة. لكنها لم تسقط من تلقاء نفسها كما يؤكد بعض المؤرخين المعاصرين، بل كان من الضروري إيجاد قوة تيسّر للجماهير إنجاز هذه المهمة وتحويل وعيها العفوي الى فعل منظم. وكانت البروليتاريا الروسية بقيادة حزبها البلشفي هي هذه القوة التي حركت الجماهير العريضة نحو النضال حتى تحقيق الهدف ومن دون أي تردد ومهما بلغت الصعوبات. وهكذا انتصرت الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا.
تقررت قضية السلطة في البلاد في الصراع بين معسكرات سياسية كبرى: الملكية القيصرية، البرجوازية الليبرالية والقوى الديمقراطية. ودخل في معسكر الحكم الاستبدادي، الذي كان في حالة أزمة بنيوية عميقة، الإقطاعيون النبلاء وكبار الموظفين البيروقراطيين والضباط.
- كان المعسكر الليبرالي الذي وقف على رأسه حزب الديمقراطيين الدستوريين (الكاديت) يسعى الى السلطة ليس لإنهاء القيصرية، بل كان له هدف آخر يتمثل في دعم النظام الإقطاعي الرأسمالي بملكية دستورية. فقد كان من الملائم تماما للبرجوازية الروسية حدوث انقلاب غير واسع في القصر. ويعني هذا أن المعسكر الليبرالي كان يأمل، عن طريق استبدال قيصر بآخر، تشكيل حكومة يشارك فيها ممثلوه لتحقيق ثلاثة اهداف مهمة:
• السعي للحصول على فرص واسعة لتوظيف رأس المال؛
• وترك الأراضي في حوزة الإقطاعيين؛
• والاستمرار بالحرب حتى تتحقق الأهداف الإمبريالية.
واستنادا الى الملاحظات السابقة يمكن القول بأن المصالح الطبقية البرجوازية الروسية كانت تتناقض بعمق مع النضال الشعبي من اجل الديمقراطية وضد الحرب، حيث كان هؤلاء الليبراليون يخشون التحولات الديمقراطية مثل خشيتهم من الموت. واستنتج (لينين) من الطابع المعادي للثورة بوضوح، الذي اتخذه مسلك هذا المعسكر، استحالة إنجاز المهام المنتصبة عن طريق التحالف بين البرجوازية والبروليتاريا، ومن هنا احل محل ذلك فكرة التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.
- أما المعسكر الديمقراطي فقد وضع أمامه مهمات مغايرة تماما. وقد كانت شعارات البلاشفة تدور حول: جمهورية ديمقراطية، يوم عمل من ثماني ساعات، مصادرة أراضى الإقطاعيين. ومن جهة أخرى فقد كان حزب البلاشفة هو الوحيد الذي وقف ضد الحرب العالمية الأولى منذ لحظة انطلاقها، وربط موقفه هذا بالإشارة الى أن المخرج الوحيد من هذه المجزرة هو توجيه كل القوى الديمقراطية والسلاح في كل بلد ضد المسؤولين عن الحرب، أي الملكيّات والبرجوازية الإمبريالية. ودخل في المعسكر الديمقراطي البروليتاريا والفلاحون، أكثر الطبقات جماهيرية في البلاد، والفئات الوسطى في المدينة والمثقفون الديمقراطيون وبينهم الطلبة.
ازدواجية السلطة.... ما العمل؟
أحدثت ثورة شباط ديناميكية سياسية جديدة واصطفافات جديدة وتناقضات جديدة تعبر جميعها عن ميزان القوى الجديد. هنا ظهر ازدواج السلطة في كل أنحاء روسيا نتيجة للإطاحة بالقيصرية.
جاء ازدواج السلطة ثمرة أسباب اقتصادية/اجتماعية/سياسية عميقة. ولم يكن هذا بحسب (لينين) "سوى مرحلة انتقالية من تطور الثورة، وعندما تعدت هذه الثورة حد ثورة برجوازية ديمقراطية عادية ولكنها لم تصل بعد الى دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الخالصة"(1) .
كانت ثورة شباط البرجوازية الديمقراطية انعطافا كبيرا في تاريخ البلاد، حرّك كل فئات المجتمع، واستهوى العمل السياسي ملايين من الناس الذين لم تكن السياسة في الماضي تخطر ببالهم.
عندما اندلعت ثورة شباط كان (لينين) ما يزال في المهجر (في سويسرا). وقد تطلب الوضع السياسي الجديد من حزب البلاشفة قضيتين مهمتين:
1. التقدير الدقيق للموقف في البلاد.
2. تحديد استراتيجية وتكتيك البلاشفة في المرحلة الجديدة.
هنا انطرحت مسألة اختيار التكتيكات الملموسة للتعامل مع الوضع الملموس الجديد.
فكما هو معروف، اعتبر (لينين) أن اختيار الطبقة العاملة وحزبها هذا الشكل للنضال أو ذاك هو أهم مسألة للتكتيك. ولا يمكن حل هذه المسألة مسبقا، في هدوء المكاتب، ولا يعطى الجواب عنها إلا:
- تطور الحركة نفسها؛
- ومراعاة الخبرة التي كدستها الجماهير؛
- وأخيرا، الظروف الوطنية الملموسة.
في حديث له مع (وليم بول) أحد مؤسسي الحزب الشيوعي البريطاني ملخصا ممارسة المعارك الثورية، قال (لينين): " إن ميدان النشاط الكفاحي هو أفضل مكان لاختبار آرائنا النظرية. والاختبار الحقيقي بالنسبة للشيوعي هو فهمه كيف وأين ومتى يحول ماركسيته الى فعل"(2) .
ولم يكتف (لينين) بهذا التحديد بل أضاف إليه أطروحة مهمة أخرى وفحواها ما يلي: "ينبغي لنا أن نتذكر أن كل حركة شعبية تتخذ أشكالا متنوعة الى ما لا حد له، صانعة على الدوام أشكالا جديدة، نابذة الأشكال القديمة، محدثة تعديلات أو تركيبات جديدة من الأشكال القديمة والجديدة. وواجبنا أن نشترك بنشاط في هذه الصياغة لأساليب النضال ووسائله"(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 31، ص 155.
2- لينين، المؤلفات الكاملة، المجلد 37، موسكو 1970، ص 249.
3- لينين، روح المغامرة الثورية، دار التقدم، موسكو 1975، ص 12.