مدارات

الاتحاد الكويتية: الاستفادة من دروس التحالفات السابقة أهم متطلبات نجاح أي عمل سياسي مشترك*

في مواجهة نهج الانفراد بالسلطة والعبث بالنظام الانتخابي شهدت الكويت خلال العامين الأخيرين أكثر من محاولة لتوحيد مواقف القوى السياسية المعارضة لهذا النهج ولتنسيق جهودها وذلك عبر إقامة صيغ مثل "الجبهة الوطنية لحماية الدستور وتحقيق الإصلاحات السياسية" و"ائتلاف قوى المعارضة"... ومن جانب أخر، وفي سياق مختلف وضمن محاولات العناصر السلفية بزعامة محمد هايف الانفراد بقيادة الحراك الشعبي تشكّل على نحو متزامن مع ذلك الائتلاف ما يسمى "تنسيقية الحراك".
ومن الواضح أنّ هذه المحاولات للصيغ الجبهوية والائتلافية والتنسيقية المختلفة لم تصمد طويلاً وسرعان ما اضمحل بعضها أو انحل أو هو في طريقه إلى الاضمحلال والانحلال... حيث يعود ذلك إلى عوامل موضوعية تتصل بالواقع السياسي وتناقضاته وسرعة تبدلاته، بالإضافة إلى عوامل أخرى ذاتية تتصل بالأطراف المكوّنة لهذه الصيغ الجبهوية والائتلافية والتنسيقية وإمكانية انسجامها في عمل مشترك، بالإضافة إلى مدى قدرة هذه الصيغ نفسها على الاستمرار ومواصلة دورها.
فعلى سبيل المثال وجدنا أنّ "الجبهة الوطنية لحماية الدستور وتحقيق الإصلاحات السياسية"، التي تشكلت في سبتمبر من العام 2012 ، قد عجزت عن أن تصمد أمام تحديات الواقع الذي تشكّل بعد انتهاء الجولة الأولى من معركة التصدي لمرسوم الصوت الواحد في ديسمبر من العام ذاته, ناهيك عن نقطة ضعفها الرئيسية المتمثلة في كونها جبهة مشكّلة من شخصيات وناشطين أفراد وليس من تيارات وكتل ومجاميع... فيما كان واضحاً منذ البداية أنّ "ائتلاف المعارضة" الذي تأسس في مارس 2013 يعاني من تناقضات كامنة وأخرى ظاهرة بين أطرافه المتباينة فيما يتعلق بعدم جدية التزام بعضها بمطالب الإصلاح الديمقراطي وتهافته الفاضح على العودة السريعة إلى المشاركة في الانتخابات، بالإضافة إلى القصور السياسي لبعض أطرافه وعجزها الذاتي، خصوصاً أنّ بعضها مجرد لافتات وأسماء من غير مضامين، هذا إلى جانب عدم وضوح تعامل معظم أطراف هذا الائتلاف مع المسائل الملتبسة، ما دفع التقدميين إلى تقليص مشاركتهم فيه وقصرها على عضوية "الجمعية العمومية" التي لما تنعقد بعد الإعلان عن التأسيس، بل أنّه حتى محاولة إحياء هذا الائتلاف التي تم الإعلان قبل أكثر من ثلاثة أشهر عبر طلب مشاركة الأطراف المكوّنة له في تقديم مرئياتها لإصدار رؤية مشتركة للائتلاف لم تتحول إلى واقع ملموس... هذا إلى جانب عنصر مشترك عانت منه كل من "الجبهة" و"الائتلاف" وهو التباين في الحسابات والمصالح والتفاوت في ترتيب الأولويات... أما ما كان يسمى "تنسيقية الحراك " فقد تخلّى معظم أطرافها عملياً عن الحراك الشعبي المعارض لنهج السلطة واندفع نحو المشاركة في الجولة الانتخابية الثانية لمرسوم قانون الصوت الواحد لاعتبارات طائفية وتحت ذريعة تحصين مرسوم القانون بحكم المحكمة الدستورية. ولكن ما يعنينا الآن أنّ هناك دعوات جديدة يطرحها بإلحاح بعض الشباب المتحمس، ومنهم شباب تقدميون، عبر حملات للتغريد على شبكة تويتر تحثّ القوى السياسية على الإسراع في تشكيل ما أسموه "الكتلة التاريخية" لتبني مشروع اكتمال النظام الديمقراطي البرلماني... وهذه الدعوات تعبّر عن رغبة الشباب في تغيير الواقع السيئ الذي تعيشه البلاد وتطلّعهم إلى انطلاق حركة موحدة للإصلاح الديمقراطي.
ومن الواضح أنّ هؤلاء الشباب قد استعاروا مفهوم "الكتلة التاريخية" من المفكر والقيادي في الحزب الشيوعي الإيطالي انطونيو غرامشي ، الذي دعا في النصف الأول من القرن العشرين إلى قيام "كتلة تاريخية" لحشد أوسع القوى والطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية والنخب الثقافية والمجاميع الاقتصادية الإيطالية لمواجهة الفاشية بعد إدراكه استحالة أن يتمكن حزب واحد أو جبهة من الأحزاب من التغلّب عليها، أي بمعنى قيام "كتلة تاريخية" واسعة ذات أهداف استراتيجية وليس مجرد إقامة تحالف سياسي مرحلي، مع ما يقتضيه ذلك من التوصل إلى توافق تاريخي فيما بينها وليس الاكتفاء بتحقيق تعاون وقتي.
فهل يدرك الشباب المتحمس، الذي يطرح الدعوة إلى "الكتلة التاريخية دلالة هذا المفهوم الذي استعاروه من غرامشي بكل تبعاته الفكرية والسياسية؟... أم أنهم يقصدون الدعوة إلى إقامة كتلة سياسية تتفق على تحقيق هدف الوصول إلى النظام الديمقراطي البرلماني، وهي شيء مختلف تماماً عن "الكتلة التاريخية"؟! قد لا نكون مغالين عندما نرى أنّ استعارة الشباب لهذا المفهوم لم تتم بناء على دراسة وبحث معمقين، بل يبدو أنها نتيجة حماس شبابي وحسن نيّة، وهو حماس مفهوم، بل مطلوب، ولكن الحماس وحده من دون تفكّر وتدبّر لبعض المفاهيم والمصطلحات خارج سياقها وبمعزل عن الواقع الموضوعي قد يتحوّل إلى اندفاع يقود نحو اتجاه خاطئ يبدد الطاقات ويثير الخلافات ويؤدي إلى نتائج عكسية.
صحيح أنّ الحاجة الموضوعية قائمة لبناء حركة شعبية واسعة لتحقيق الإصلاح الديمقراطي ، ولكن لابد من أن تتأسس مثل هذه الحركة المأمولة على تحليل ملموس للواقع بكل تناقضاته وإمكاناته واتجاهات حركته وطبيعة القوى الفاعلة فيه... فهناك في المجتمع الكويتي طبقات وفئات وقوى لها مصلحة موضوعية في تحقيق الإصلاح الديمقراطي، ولكن هناك في المقابل طبقات وفئات وقوى ليست لها مصلحة في ذلك، وهناك من جانب ثالث أطراف مترددة بين هذا وذاك بحكم تذبذب مصالحها... وكذلك أيضاً هناك أطراف ذات وجهة فكرية وسياسية منسجمة إلى النهاية مع مطالب الإصلاح الديمقراطي، بينما هناك أطراف أخرى تكتفي من الديمقراطية بالانتخابات والبرلمان وممارسة الحريات السياسية، فيما ترفض الإقرار بالطابع المدني للدولة وتدعو إلى فرض الوصاية والقيود على الحريات الفكرية والشخصية... وبالتالي فإنّه لا أساس واقعياً لإقامة ائتلاف أو تشكيل جبهة تجمع هذه الأطراف المتعارضة للعمل المشترك من أجل تحقيق الإصلاح الديمقراطي.
وغير هذا وذاك، فإنّه من المهم قبل تأسيس أي تحالف جديد أن يتم إجراء مراجعة تحليلية نقدية صريحة وموضوعية للمحاولات السابقة التي تعثّرت لإقامة "جبهة الدفاع عن الدستور" أو "ائتلاف المعارضة" للاستفادة من الدروس وتجنّب السلبيات وعدم تكرار الأخطاء، ولا يصح إطلاقاً القفز على ذلك بابتداع تسمية مختلفة أو تجربة صيغة بديلة واستعجال إقامتها تحت الضغط والإلحاح، مهما حسنت النوايا. إنّ التقدميين الكويتيين ليسوا في وارد الانفراد بالعمل، ولا هم من دعاة النزعة الانعزالية ، بل أنّ تاريخهم شاهد حيّ على مباد ا رتهم الملموسة وأدوارهم الواضحة في تشكيل التحالفات والجبهات والائتلافات، بدءاً من مشاركة حزب اتحاد الشعب في تأسيس "التجمع الديمقراطي " في العام 1978 مع القوى القومية التقدمية، مروراً بإنشاء "المنبر الديمقراطي " في العام 1991 بوصفه ائتلافاً موحداً للوطنيين والديمقراطيين والتقدميين والعمل في صفوفه حتى العام 2010 ، وصولاً إلى الدور البارز للتقدميين الكويتيين في تشكيل "الجبهة الوطنية لحماية الدستور" في العام 2012 بل وقيادتها، بل حتى المساهمة النشطة في وضع اللبنات الأولى لقيام "ائتلاف المعارضة" في شهر مارس من هذا العام... وبالتالي فإنّ هناك دروساً تعلمناها، وبعضها كان قاسياً، تفرض علينا عدم التسرّع في إقامة صيغ جديدة للعمل السياسي المشترك من دون توافر أسسها الموضوعية والذاتية على أرض الواقع وضمان الحدّ الأدنى من متطلبات نجاحها... وغير ذلك عبث لن نشارك فيه.
"هيئة التحرير"
*افتتاحية " الاتحاد" لسان حال الحركة التقدمية الكويتية ، العدد 17 تشرين الأول 2013