مدارات

في الذكرى المئوية لثورة اكتوبر العظمى .. قاطرة تاريخ القرن العشرين (6) / د. صالح ياسر

كيف تعامل حزبنا مع الانهيار الذي حصل؟
مثل قوى عديدة، رأى حزبنا أن التجارب المشار إليها ملك البشرية. وتقع على عاتقنا مهمة البحث في دلالات التفاعلات والتطورات الناجمة عن انهيارها، خاصة وان لها انعكاسات متعددة على واقع بلادنا وحزبنا. ومن هذا المنطلق سعينا لتحليل الظاهرة بصورة نتوخى أن تكون منهجية وعلمية بعيدا عن الإطلاق والانفعال.
وعلى هذا الطريق صاغ المؤتمر الوطني الخامس، الذي حمل اسم: "مؤتمر التجديد والديمقراطية" والذي عُقد في عام 1993، تصورات أولية حول تلك الاحداث التي جرت في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وتفاعلاتها وتوقف عند اسبابها. فقد صاغ المؤتمر مفهومين اساسيين سيؤثران بشكل جدي على توجهات الحزب اللاحقة على مختلف الصُعد التنظيمية والسياسية والفكرية، ونعني بهما مفهومي الديمقراطية والتجديد. وعلى الصعيد الفكري وكما اشار التقرير السياسي المقدم للمؤتمر : توجه حزبنا لفحص المقولات والمفاهيم النظرية انطلاقا من نبذ الاستنساخ والنقل الالي للتجارب، واستلهام المنهج الماركسي بمعاينة الواقع الموضوعي وتطوراته والواقع الملموس لنضال شعبنا ومشاكله وتقاليده وتراثه الثوري والاستفادة من التجربة العالمية(1) .
وعشية انعقاد المؤتمر الوطني السادس (1997) طرحت لجنة العمل الفكري ورقة بعنوان: (مفهوم الاشتراكية). كما تم عقد موسع فكري للجنة المركزية في عام 2000.
وبعد انتهاء اعمال المؤتمر الوطني السابع (2001) كلفت اللجنة المركزية للحزب (ل.م) لجنة العمل الفكري المركزية (لعف) بالعمل على اعداد ورقة حول هذه التجربة، وبعد عمل واسع لرفاق (لعف) وبالتشاور الدائم مع ل.م تم انجاز ورقة عمل ظهرت تحت عنوان: انهيار التجربة الاشتراكية/الحدث والدلالة. وبعد مداولات واسعة داخل (لعف) وفي اللجنة المركزية للحزب تم ولأكثر من مرة اجراء تعديلات على الورقة، الى ان اقرّ اجتماع ل.م المنعقد في شباط 2003 المسودة.
ومن جهة أخرى، وبعد سقوط النظام الدكتاتوري في 9/4/2003 عاودنا النقاش مجددا، وأجرينا على صعيد اللجنة المركزية قراءة جديدة للورقة، وتوصلنا الى ضرورة اعادة بناء بعض مفرداتها واطروحاتها الكبرى وتحديثها، ارتباطا بالظروف الجديدة التي تلت انهيار النظام المقبور. وفي اجتماع اللجنة المركزية للحزب المنعقد في 15/9/2006 تم اقرار الورقة بصيغتها النهائية – كمسودة – وطرحها للنقاش الحزبي ارتباطا بتحضيراتنا لعقد المؤتمر الوطني الثامن (ايار 2007). وبعد نقاشات مستفيضة اقر المؤتمر المذكور هذه الوثيقة وصدرت حاملة العنوان التالي: "خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية"(2)
ان دراستنا المتواصلة والمستمرة لهذه التجربة منذ أوائل التسعينات أوصلتنا الى جملة من الاستنتاجات نطرحها بتكثيف(3) :
ودون الدخول في التفاصيل يمكن استخلاص جملة من الاستنتاجات حول للتجارب الاشتراكية السابقة من بينها ما يلي:
1. شاءت الظروف التاريخية ان تقوم اول تجربة لبناء الاشتراكية في بلد نضجت فيه الشروط السياسية من دون ان يمتلك، بسبب ضعف تطور الرأسمالية فيه، القاعدة المادية المتقدمة التي اعتبرها ماركس شرطاً لانتصار الاشتراكية في بلد من البلدان. ومن خلال استخدام ادوات السلطة السياسية، عمدت الدولة في الاتحاد السوفييتي وفي غيره من البلدان ضعيفة التطور، التي انتهجت لاحقاً طريق التحولات الاشتراكية او ذات الافق الاشتراكي، الى محاولة تعجيل عمليات التطور الاقتصادي والاجتماعي التي تستغرق في العادة آماداً تاريخية طويلة نسبياً. وقد اقتضى ذلك بالضرورة اللجوء الى اساليب ادارية وعنفية في بعض الاحيان قادت بدورها الى اختلالات وتشوهات في البناء السياسي والاجتماعي، ودخلت في تعارض، بل تناقض، مع اهداف البناء الاشتراكي ذاته. وقد خلق ذلك عجزاً بنيوياً على صعيد الحريات والديمقراطية والبناء الحقوقي والشرعي للدولة "الاشتراكية".
2. انطوت التجربة السوفيتية للانتقال الى الاشتراكية بخصائصها الفريدة الناجمة عن مستوى التطور الذي انطلقت منه والسياق التاريخي الذي جرت فيه، على طائفة من الاشكاليات والخصوصيات، التي تفرض محاكمتها ليس بإعتبارها نموذجا يحتذى بحذافيره بل باعتبارها، كما وصفها لينين " محاولة وحيدة الجانب تنطوي على العديد من الثغرات والتناقضات، ولكنها محاولة لا مناص من انطلاقها، ولا خيار امامها سوى متابعة شق طريقها عبر التناقضات حتى تتضافر مع محاولات اخرى لتبلغ الاشتراكية الكاملة وبالتعاون الثوري بين بروليتاريي جميع البلدان ".
3. اتسمت جميع التجارب الاشتراكية التي اعتمدت "النموذج السوفييتي للاشتراكية" بضعف المكوِّن الديمقراطي بدرجات متفاوتة، وبتكريس هيمنة الحزب التي وفرت الأسس والمسوغات لتكريس هيمنة الفرد. وقد يرجع جذر هذه ،الظاهرة، في جانب منه، إلى أن التجربة التاريخية التي احاطت بانتصار وتوطيد الثورة في روسيا فرضت التأكيد على الجوانب القسرية، في شكل دكتاتورية البروليتاريا، لمواجهة القوى المعادية للثورة التي شنت حرباً أهلية لا رحمة فيه ضدها. وإذا كانت تلك الاجراءات مفهومة ومقبولة من قبل الجماهير الشعبية الواسعة في بداية الثورات التي قامت في هذه البلدان، فإنها لم تكن مفهومة ولا مقبولة بعد النجاحات التي أحرزتها هذه البلدان وساهمت في توطيد النظم الجديدة.
4. انعكس اعتماد التنظيرات الخاطئة وفرضها في برامج وتوجهات وقرارات أضعفت من دور الحزب وتأثيره في الحياة السياسية والاجتماعية. فقد تمّ في كل العهود دمج الحزب بالدولة وأضيفت إليهما، في أحايين كثيرة، أجهزة المخابرات والأمن. وأدى ذلك إلى تحوّل الحزب عن دوره الثوري ليصبح أعلى جهاز في مؤسسة السلطة.
5. أخضع الاقتصاد الاداري الأوامري الممركز بإفراط، ونزعة القفز على التطور الطبيعي وحرق المراحل، العملية الاقتصادية لنظام تخطيط مفصّل وإلزامي يشمل جميع المفاصل الاستراتيجية للنشاط الاقتصادي، ولا تلعب فيه آلية السوق والأسعار سوى دور هامشيّ جداً. واتخذت الملكية العامة لوسائل الإنتاج، بصورة أساسيه شكل ملكية وإدارة الدولة التي تتحكم فيها البيروقراطية والصراعات بين شرائحها المختلفة، مفضية إلى قيام علاقة مشوهة أساسها الاغتراب بين العامل والمزارع والمستخدَم في التعاونية، وبين العملية الاقتصادية. ووفر حدوث انفصام بين المواطن والملكية أساساً لظهور تناقضات داخلية في النظام لم يجر الالتفات لها وتقصيها من قبل الاحزاب الحاكمة، الأمر الذي أدى إلى استفحالها وتفجرها لاحقاً. وجرت محاولات كثيرة في العقود التي تلت موت ستالين عام 1953 للحد من صرامة هذا "النموذج" ، ولكن مع ذلك ظلت الملامح الاساسية للنظام عصية على التغيير.
6. بالتلازم مع ظواهر المركزية المفرطة على صعيدي الاقتصاد وإدارة الدولة، وتماهي الحزب مع الدولة وضعف المكونات الديمقراطية للأخيرة، تفاقمت البيروقراطية وتنامت سيطرة الاجهزة الادارية القائمة على الفساد والإفساد المنظم. ولئن لم تستوف البيروقراطية شروط اعتبارها طبقة، فإنها اكتسبت العديد من مواصفات طبقة ذات امتيازات تستند على نظام الاقتصاد الأوامري وملكية الدولة غير الخاضعة للرقابة الديمقراطية.
7. إهمال وتجاهل دور العوامل غير الاقتصادية في حركة التطور في المجتمع وعلى هامشه، والتي اصطلح ماركس على تسميتها بالعوامل الروحية. وهي عوامل معقدة في شكل تجليها، وفي شكل ممارستها لدورها في الحياة العامة. وتشكل ظاهرة الدين أو الوعي الديني المعلن أو المقنع أو التدين الشعبي، جزءا من هذه العوامل، فضلاً عن عوامل أخرى عديدة. ليست واضحة المعالم، ولا تعلن، دائما، عن وجودها بشكل محدّد، منها ما يرتبط بالتقاليد الراسخة في الوعي والمشاعر والأمزجة والسلوك، ومنها ما يتمثل بالتراث وأشكال الانتماء العائلية والقبلية والاثنية والقومية.
8. ضرورة البحث في أسباب انهيار النماذج المطبقة داخل أزمة النظم التي كانت عامة شاملة. ويكمن أحد الأسباب الأساسية في فشل محاولات الإصلاح الاقتصادي والمؤسسي المتكررة أو في تأجيلها المستمر، بفعل مقاومة القوى المحافظة في الحزب والدولة والبيروقراطية، والصراعات التي كانت تدور بين مختلف شرائحها، مما أدى إلى تراكم، واستفحال، التناقضات الداخلية في ظل عدم وجود آليات وأطر لإدارتها وحلها. ان اللجوء الى تأجيل الحلول والعلاجات لمظاهر الخلل في الحزب والدولة والمجتمع لا بد ان يقود الى تراكم الاخطاء وتعقيد القضية ومضاعفة كلفة معالجتها، وليس من المستبعد ان تدخل الامور في مرحلة اللاعودة ويكون الثمن ضياع القضية برمتها، كما حصل في الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية.
9. أهمية وضرورة الربط بين النظرية والواقع وفهمهما في إطار العلاقة الجدلية، وأهمية النظرة الاستراتيجية عند إعادة بناء التجارب. وهذا يتطلب، بدوره، العودة الى المنهج الماركسي، للبحث الملموس في مشاكل الواقع الملموس من دون إغماض العين عن المشاكل القائمة بترداد الجمل العامة. فالمهم هو التطبيق الخلاق للنظرية والمنهج على واقع يتحرك باستمرار.
10. ضرورة التمييز بين نقد التجربة بهدف استخلاص الدروس المناسبة وبين عدم اهمال المنجزات التي تحققت في هذه البلدان. فإذا كان التحليل النظري المنضبط يبتعد عن الهجاء فالحاجة ملحة الى تقييم متوازن يجمع بين الثغرات والتجاوزات التي ادت الى المال المأساوي للتجربة وبين ما حققته هذه التجربة من منجزات.
11. وبالطبع لا ينبغي تجاهل دور سباق التسلح وأثره في استنزاف القدرات المالية للاتحاد السوفييتي وباقي البلدان "الاشتراكية "، السابقة. وقدرت الأموال المخصصة لذلك السباق بحوالي ثلث ميزانية البلاد مما انعكس سلباً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. علاوة على ذلك، لم يقم الاتحاد السوفيتي، على عكس الولايات المتحدة الامريكية، سياسته مع البلدان النامية على النهب والهيمنة بل على الدعم والمساندة. فالمساعدات الأممية التي كان الاتحاد السوفيتي يقدمها إلى البلدان الاشتراكية الأخرى والبلدان النامية، كانت هي الأخرى تثقل كاهله وتزيد من أعبائه مما انعكس سلبا على حياة مواطنيه.
12. شدة الهجوم الأيديولوجي للرأسمالية، التي ركّزت تنظيراتها المختلفة وحملاتها الإعلامية على نواقص وثغرات التجربة، هذا اضافة الى ما تركته الحرب الباردة وعقيدة معاداة الشيوعية وما استخدمته من أدوات ووسائل لتخريب هذه التجارب من الداخل. إلا انه رغم ضخامة هذا الهجوم وتعدد أشكاله فإن من الطبيعي عدم اعطائه الدور المقرر في الانهيار لأن ذلك يعني التخلي عن الاطروحة الصحيحة التي ترى أن العوامل الداخلية هي المقررة، نهاية المطاف، في نشوء وتطور وانهيار، أي ظاهرة أو عملية. وطبيعي أنه لا يجوز، ايضا، عدم اعطاء العوامل الخارجية الاهمية التي تستحقها أو تقزيم دورها الفعلي عند تحليل هذه التجربة.
وفي ضوء الملاحظات والاستنتاجات السابقة يتعين القول انه ليس ثمة طريق امامنا للتخلص من قيود الماضي و"مرارة الهزيمة" إلا بالنقاش الحر، المستنير، المتحرر من كل الاراء المسبقة الصنع. ولكي لا نتحاور حول هذه التجربة من اجل الحوار، بل من اجل انتاج معرفة تفيدنا بالتوجه الى المستقبل بكل عزيمة، فان سؤالا حاسما يطرح نفسه هو: ما هو مستقبلنا، كأحزاب، في ضوء هذه التغيرات، التحولات العاصفة، كيف يمكننا استيعاب هذه التغيرات، ما هي الاستراتيجية التي يجب اعتمادها لمواجهة الاوضاع الجديدة؟
ومن المهم التشديد، منعا لأي التباس، على استحالة تمترس أي حزب وراء " خصوصياته " وإدارة ظهره لما وقع. هناك "وعي متمرد " في بعض أوساطنا، يقول بأننا احدثنا التغيرات المطلوبة وفي الوقت المناسب، وكيفنا برامجنا مع خصوصيات مجتمعاتنا، وبالتالي ليس بالضرورة ان تنعكس علينا الآثار التي ترتبت وتترتب على الانهيار. وبعض احزابنا تقول: لم نمارس السلطة مطلقا، وبالتالي لا ينطبق علينا التحليل أو الاثر التدميري.
ان هناك ضرورة ترغم احزابنا على القيام بتجديد حقيقي، طبعا ليس على غرار المحاولة الغورباشوفية البائسة، بل من خلال مراجعة نقدية شاملة لأدوات التحليل، مناهج العمل والنظر، اساليب التنظيم والعمل. والمطلوب اذن:
- ضرورة عصرنة أحزابنا، اذا كانت تريد فعلا اكتساب مكانة فاعلة ونافذة في الساحة السياسية.
- صياغة استراتيجية تحول حقيقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني الخامس – مؤتمر الديمقراطية والتجديد، 12- 25 تشرين الأول 1993، ص 58.
2- «خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب الاشتراكية». الوثيقة متاحة على الرابط التالي :
http://www.iraqicp.com/index.php/party/documents/4889-2013-09-10-19-11-48
3- لمزيد من التفاصيل قارن: «خيارنا الاشتراكي....» المصدر السابق.