مدارات

في الذكرى المئوية لثورة اكتوبر العظمى .. قاطرة تاريخ القرن العشرين (7) / د. صالح ياسر

الخاتمة
لقد كانت كومونة باريس (1871) بروفة دفعت فيها الطبقة العاملة ثمنا كبيرا، ولكنه لم يضع سدى، فبدونه لم تتعلم هذه الطبقة الكثير من الدروس ابدا، بدءاً من معلمها ذاته "كارل ماركس".
اما ثورة اكتوبر (1917) وبكل المأساة التي نجمت عن تطور سلطتها وانهيارها بعد اكثر من 70 عاما، فهي بروفة جديدة في التاريخ. وبغض النظر عن المآل المأساوي للتجربة، فان البشرية لن تنسى ابدا أكتوبر العظيم، الذي كان نقطة انعطاف جذرية في تاريخ العالم، والذي سيظل يوما مضيئا على الدوام في هذا التاريخ العاصف بالرغم من محاولات الخصوم من مختلف الاتجاهات طمسه او التعتيم عليه.
في كتابه الموسوم: "عشرة أيام هزت العالم" كتب (جون ريد) الصحفي الأمريكي قائلا: " أجل، لقد كانت مغامرة، وهي بالإضافة لهذا إحدى أروع المغامرات التي سبق للإنسانية أن أقدمت عليها، مغامرة اقتحمت التاريخ اعصارا على رأس الجماهير الكادحة وراهنت بكل شيء في تحقيق رغباتها البسيطة والواسعة.... ومهما يكن رأي بعض الناس في البلشفية فلا جدال أن الثورة الروسية هي من أعظم الأحداث في تاريخ البشرية، وأما قيام البلاشفة فظاهرة ذات أهمية عالمية"(1).
إن الملاحظة اعلاه تدحض خرافة الزعم القائل ان
آفاق بديل يساري جديد
من مقاومة الرأسمالية الى استراتيجيات صياغة البديل
كما معلوم، وبرغم مظاهر الأشياء، دخلت الرأسمالية العالمية في مرحلة أزمة عميقة منذ أوائل سبعينات القرن العشرين. وأخذت هذه الأزمة في التفاقم المستمر دون أن تبزغ في الأفق أدنى إشارة للخروج منها. والأزمة تضرب النظام بكليته: مراكزه المتقدمة وتخومه المتخلفة.
كان من المتصور أن خطورة الأزمة ودوامها وعجز نظم الحكم عن مواجهتها، بل وتفاقمها المستمر، أن كل ذلك لابد أن يفتح مجالات جديدة لتجديد الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية الموجودة، وكذلك لتبلور حركات شعبية ديمقراطية وثورية تعطي لليسار فرصا لكسب مواقع أقوى بين الجماهير.
ولكن الانهيار الكبير لنظام "الاشتراكية الفعلية" في كل من الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية والوسطى قلب كثيرا من "البداهات" وفتح الأفق على مصراعيه لتحولات تطول الكثير من البرامج والمشاريع والتنظيمات.
فقد جسدت الهزة الكبيرة المتمثلة بطريقة وسرعة الانهيار الذي حدث في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية الأخرى في أوربا جملة من القضايا المتعلقة بطابع الاشتراكية وافقها. واقترن الحدث بهجوم إيديولوجي شرس سعى لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام من جهة، وتوظيف الحدث بما يخدم ديمومة الرأسمالية، وهذا ما عبرت عنه شعارات ومفاهيم مثل، نهاية التاريخ/ موت الشيوعية/ وانتهاء عصر الإيديولوجيات/ صدام الحضارات..الخ.
كما أدى التطور الرأسمالي ذاته على الصعيد العالمي الى ظهور طائفة جديدة من التناقضات من حيث الكيف، إضافة الى القديمة منها، بصفة أساسية من بينها التناقض بين حقل قوانين الاقتصاد الرأسمالي وعملها في حقل عالمي بشكل متزايد، وبين حقل عمل القرار السياسي الذي لا يزال محدودا بحدود الدولة الوطنية. أضف الى ذلك أن التطور العام قد أدى الى تبلور وسائل جديدة للسيطرة على صعيد عالمي.
وبمقابل ذلك كله كنا ومنذ أوائل عقد الثمانينات من القرن العشرين شهود اكتساح برامج التكييف الهيكلي لمناطق واسعة من عالمنا المعاصر – والتي كانت تطرح عادة تحت يافطة عريضة هي برامج الإصلاح الاقتصادي – تلك البرامج الرامية الى اعتماد الليبرالية الاقتصادية واستهداف اقتصاد السوق.
وتتضح أهمية هذه الظاهرة من عدة جوانب أولها أن الإصلاحات الاقتصادية التي يأخذ بها العديد من البلدان تشترك في الفلسفة والغايات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إذ تهدف كلها الى اعتماد السوق محوراً للنشاط الاقتصادي وآلية لممارسته ولتوجيهه وإن اختلفت هذه الإصلاحات من حيث الاتساع والعمق والمراحل الزمنية والأكلاف. كما إن الإصلاحات الاقتصادية تسعى الى تضييق دور الدولة الاقتصادي وإعطاء القطاع الخاص الأولوية في السياسة الاقتصادية، وذلك بمنحه مختلف الحوافز والمزايا الضريبية والمالية والتجارية، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية ومتعددة الجنسية.
ويمكن القول استنادا الى التجارب التاريخية الملموسة أن مشاريع التكييف الهيكلي التي صاغتها المؤسسات الدولية المتخصصة لم تكن تمثل محاولات لحل الأزمات البنيوية التي تعاني منها البلدان النامية، بل هي بمثابة عناصر أساسية لإستراتيجية عالمية البعد لتكييف تلك البلدان للظروف الجديدة الجارية في الاقتصاد العالمي.
ولاشك أن برامج "التكييف" التي تفرض في مثل هذه الظروف لا تستحق التسمية الخاصة بها. فهي ليست خطط تحويل الهياكل الإنتاجية لكي تتفق مع شروط إنعاش الأسواق وتوسيعها، بل لا تعدو أن تكون تكييفات ظرفية خاضعة لمنطق إدارة الأزمة في الأجل القصير، خاصة لمقتضيات ضمان الربحية المالية لفائض الأموال، ولو على حساب التنمية.
يسمح التأمل العميق في الأصول الفكرية التي ترتكز عليها إيديولوجيا التكييف الليبرالي باستخلاص العديد من الأهداف الفعلية:
• خلق جيش احتياطي متزايد من العاطلين عن العمل وتنميته باستمرار في بلدان "العالم الثالث" وبلدان "الشرق أوربية" التي تحولت نحو الرأسمالية، وذلك بهدف ضمان خفض معدلات الأجور الحقيقية وتوفير عنصر العمل الرخيص أمام الشركات المتعدية الجنسية.
• "طرد الدولة" من الحقل الاقتصادي وإبعادها كلية عن آليات السوق مما يفتح الطريق أمام رؤوس الأموال الأجنبية لفرض هيمنتها، من مواقع قوية، على النشاط الاقتصادي المحلي.
• العمل على التدمير المنتظم والتدريجي للطاقات الإنتاجية المحلية من خلال إرغام البلدان المطبقة لوصفة التكييف على انتهاج مبدأ "تحرير التجارة الخارجية" وأساساً تجارة الاستيراد، مما يساعد على غزو السلع القادمة من البلدان المتطورة لأسواق البلدان النامية ومنافستها للسلع المحلية، التي تمتاز أصلاً بقدرة تنافسية ضعيفة، مما يؤدي الى تدمير الصناعات المنتجة لتلك السلع، على الصعيد المحلي.
• العمل على توفير رصيد كاف من العملات الصعبة ليس بهدف تمويل عملية التنمية ولكن أساساً لتمويل تحويلات أرباح ودخول الشركات المتعدية الجنسية العاملة في البلدان التي تطبق وصفة التكييف الهيكلي، وكذلك تمويل واردات هذه البلدان وكذا تمكين الدولة من تسديد التزاماتها الناجمة عن عبء المديونية الخارجية أساساً.
• التأثير في العلاقات الاجتماعية من خلال العمل على "خلق" فئات اجتماعية تستفيد من حزمة السياسات التي تتضمنها برامج التكييف الهيكلي. إن التطبيق "الناجح والمضمون" لتلك البرامج يستحث، من بين أمور عديدة، تفكيك التحالفات الاجتماعية "التقليدية" والعمل على خلق الشروط لنشوء وتطور تحالفات اجتماعية جديدة، تتضمن تلك القوى الاجتماعية التي تدافع عن تلك الحزمة من السياسات الجديدة وتكون أساساً أو قاعدة متينة لسلطة الدولة ولها مصلحة فعلية في استمرار تنفيذ برامج "التكييف الهيكلي".
ولئن كانت برامج التثبيت والتكييف الهيكلي هي "المشروع التاريخي" الذي يسعى التحالف الاجتماعي الجديد، الذي تشكل على خلفية البرامج تلك، لتوطيد مواقعه والتطلع نحو الاندماج في النسق الرأسمالي العالمي والحصول على موقع محدد في تراتيبية هذا النسق البالغ التعقيد، فإن هناك قاعدة واسعة من الطبقات والفئات الاجتماعية التي همشتها برامج التكييف المشار إليها، تحتاج الى صياغة مشروعها النقيض، الذي بإمكانه أن يكفل لها "الانتقال من مملكة الضرورة الى مملكة الحرية"
ولاشك أن تبلور هذه السمات الجديدة للنظام العالمي قد أدى الى تأكل تدريجي لوسائل نضال اليسار التقليدية، الأمر الذي طرح ومازال يطرح المزيد من الأعباء والمصاعب أمام تجديد اليسار وقواه المكونة، والتكيف لشروط النضال الجديدة التي أحدثها "الزلزال الكبير" منذ بداية التسعينات من القرن الماضي والطموح الجارف لقوى الرأسمالية المعولمة لابتلاع الجميع وتكييفهم لمنطق الرأسمال وقوانينه.
شروط البديل
نحن، إذن، الآن أمام تحد تاريخي، وهذا التحدي يتطلب تجديد اليسار محليا وإقليميا وعالميا، وبتعبير أدق إعادة تكوينه ليكون في مستوى التحديات التي تفرض عليه باستمرار وقادر على طرح مشروع بديل يتجاوز الرأسمالية. ولاشك أن عملية مثل هذه، بهذا القدر من الأهمية والصعوبة والتعقيد في آن، تستوجب عملا دؤوبا ومثابرا بإمكانه أن يفتح الأفق للتفكير وبلورة مواقف مشتركة حول طائفة من القضايا من بينها:
• تحديد الأسس الفكرية والمرجعيات النظرية للبديل المطلوب؛
• تحديد دقيق وواضح للسمات الأساسية للمشروع المجتمعي (كهدف تاريخي بعيد المدى) التي بإمكانها أن تساعد في بلورة مشاريع ملموسة لليسار، قادرة على اجتذاب الجماهير الشعبية وإخراجها من دائرة النزعة الانتظارية؛
• التأكيد على أن المشروع المجتمعي المطلوب تحقيقه، باعتباره هدفا بعيد المدى، يشترط إنجازه على مراحل عدة وليس دفعة واحدة. ومن هنا ضرورة التحديد الأدق والتفصيلي لتلك المراحل لكي يكون ممكنا بناء التحالفات الملموسة لإنجاز المهام الملموسة لكل مرحلة من تلك المراحل؛
• ويستحث ذلك تحديد القوى الاجتماعية الفعلية (وليس المفترضة) التي لها مصالح حقيقية (وليس افتراضية ومصممة مسبقا !) في إنجاز المشروع، وكذلك تحديد القوى المعادية له والتي تتقاطع مصالحها الجذرية مع خيار كهذا؛
• بناء قواعد العمل المناسبة الكفيلة بإنجاز هذا المشروع بمراحله المختلفة.
واليوم تخضع كذلك موضوعة البدائل النقيض للبديل الرأسمالي، وكذلك مصائر الاشتراكية كفكر وكمشروع سياسي والشيوعية كأفق تاريخي بديل للرأسمالية، لجدل متزايد تترتب عليه نتائج حاسمة على شكل ومحتوى النضال السياسي اللاحق ضد الرأسمالية.
- بعض القضايا والإشكاليات التي تتطلب التفكير -
أولا: اشكالية استراتيجية الانتقال
من المفيد الإشارة الى أن إستراتيجية الانتقال في مجتمع ما لا بد أن تقوم على الاعتراف بأن أهدافها وميولها متناقضة، بعضها يصطدم مع منطق التوسع الرأسمالي وبعضها ينخرط في هذا المنطق. وبالتالي لابد من التأكيد على أن مرحلة الانتقال هي مرحلة تجمع بين سمات رأسمالية وسمات تتجاوز أفاق الرأسمالية. ونجد هذا التناقض على جميع المستويات وتجليات الصراع على الصعيدين الوطني والعالمي.
ففي حقل العمل الوطني تفترض إستراتيجية الانتقال تطوير ديمقراطية ذات مضمون اجتماعي الى جانب مضمونها السياسي البحت، أي ديمقراطية تضمن اندماج الجماهير الشعبية في العمل المنتج ومساهمتها في أخذ القرار على جميع المستويات. ذلك لأن قوانين السوق من تلقاء نفسها متروكة لعملها ومنطقها دون تحديد وتأطير، لابد أن تنتج في ظروفنا مزيدا من الاستقطاب الداخلي أي إبعاد فئات واسعة من الجماهير وتهميشها اقتصاديا واجتماعيا. فلابد إذن من الاعتراف بأن الهدف الديمقراطي لا يتمشى مع منطق الرأسمالية، بل يتناقض معه، كأنه يمثل ميولا اشتراكية تتجلى بشكل جنيني في هذه المرحلة الأولى من الانتقال الطويل.
أما على الصعيد العالمي، لابد من الإشارة أن العلاقات مع المنظومة العالمية التي لا تزال محكومة بالرأسمالية وقوانينها الناظمة. ولابد هنا من التصدي الى تناقض واضح، فالمنطق السائد على صعيد المنظومة العالمية ينتج من نفسه مزيدا من الاستقطاب من خلال عمل الاحتكارات الخمس (التي جرت الإشارة إليها سابقا). فالصراع ضد الاستقطاب الرأسمالي يتطلب، إذن، تحديد تأثير العلاقات الخارجية وإخضاعها لمنطق التنمية لصالح الجماهير الشعبية.
يعني تطبيق هذه المبادئ في ظروف بلداننا إنجاز تغيرات عميقة على جميع المستويات يمثل الهدف المرحلي لإعادة تكوين اليسار ويفتح الأفق لانبثاق بديل يساري شعبي وديمقراطي. ومن هذه التغيرات المطلوبة والتي تتمتع بأهمية ملحة هي:
1. بناء تحالفات اجتماعية جديدة، تضم الجماهير الشعبية لتحل محل التحالفات السائدة، وهي تحالفات تنخرط، في معظمها، في التنمية الرأسمالية العالمية (تقبل "الانفتاح").
2. إبداع الآليات والمؤسسات التي تضمن حكم الديمقراطية، وإعطاء مضمون اجتماعي تقدمي لهذا الحكم يقوم على قاعدة العدالة الاجتماعية.
3. الانفتاح الثقافي، وإعادة تأويل العلاقة بين الدولة والدين تأويلا يتمشى مع احتياجات التنمية والديمقراطية، وذلك في إطار تطلع عالمي الأفق، أي بمعنى آخر التحرر من الوهم الماضوي والتقوقع الثقافوي.
4. النضال على صعيد عالمي من أجل اعادة بناء النسقsystem العالمي في اتجاه تعدد القطبية بحيث أن تصير المنظومة العالمية – ولو تدريجيا – منظومة تجمع بين الاعتماد التبادلي بين مختلف الأقاليم المكونة لها من جانب، وبين درجة من استقلالية هذه الأقاليم الكبرى (ومنها على سبيل المثال العالم العربي أو منطقة الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا ….الخ) المتباينة من حيث النمو، أي بعبارة أخرى حتى تصير المنظومة قائمة على تمفصل مرن بين هذه الأقاليم.
ومن المهم هنا التأكيد على ضرورة إعادة بناء شبكة من القواعد الشعبية تعمل في الساحة، والتي تعد بالتأكيد نقطة الانطلاق الضرورية للعمل. وبسبب اختلاف الظروف الملموسة لكل بلد أو منطقة بعينها، لذا سيكون من غير العملي اقتراح برامج بإمكانها أن ترسم الأهداف المرحلية المباشرة الآنية لهذه الشبكة. ولكن في الوقت نفسه من المفيد الإشارة الى أن تلك البرامج لا ينبغي أن تقتصر على تحليل الواقع – مهما كان هذا التحليل ضروريا – بل يجب أن تتعداه الى بلورة أشكال تنظيمية مناسبة للعمل بغرض تحقيق انتصارات مهما صغرت ومهما كانت جزئية في مجالات عديدة غير مرتبطة بعضها ببعض في المرحلة الأولى.
ومن الضروري إقامة تبادل منتظم للآراء وإجراء حوار صريح حول القضايا الجذرية للتطور الاجتماعي براهنه ولاحقه، بهدف تحقيق التقارب والتفاهم والثقة المتبادلة في العلاقات بين القوى الساعية لتحقيق البرنامج الذي يتم الاتفاق عليه. ويتعين النضال في سبيل ائتلاف متكافئ، بين حلفاء مستقلين، ولا يجب السماح لأحد بأن يبسط هيمنته المسبقة على هذا الائتلاف. وإن التجربة التاريخية العالمية لتؤكد الاستنتاج القائل بأن وحدة القوى اليسارية والديمقراطية تبعث على الدوام الثقة والأمل في نفوس الجماهير الشعبية وتساعد على تعبئتهم للقيام بأعمال ملموسة وفعالة في أن.
ثانيا: إشكاليات نظرية بحاجة إلى المزيد من المقاربات المجتهدة
رغم مرور أكثر من عقدين ونصف على انهيار تجربة البناء الاشتراكي، لا يزال البحث مستمراً في صفوف الشيوعيين والماركسيين والتقدميين، أحزابا وحركات وأفراداً، لاستخلاص الدروس منها والتوصل الى إجابات على الأسئلة والمعضلات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي آثارها هذا الحدث – الزلزال. ويبقى حتى هذه اللحظة العديد من القضايا المثارة مفتوحا للنقاش والتدقيق والمراجعة في ضوء التجربة السابقة والمستجدات التي شهدها كوكبنا خلال العقد الأخير وفي مقدمتها تنامي حركة الاحتجاج ضد العولمة الرأسمالية وانخراط شرائح اجتماعية واسعة فيه الى جانب الطبقة العاملة.
يعتمد التصنيف السابق للآراء والاجتهادات في أوساط اليسار المعادي للرأسمالية، وبين الماركسيين والشيوعيين تحديداً، على الإجابات التي تُقدًّم لطائفة من الأسئلة الجوهرية أثارها الانهيار، منها ما يتعلق بالمرجعية الفكرية والنظرية لهذه التجربة ومدى كونها تجسيداً ونتاجاً أميناً للفكر الماركسي ولمفهومه للاشتراكية، وأخرى تتساءل عمّا تداعي أو شاخ في منظومة الأفكار والمبادئ التي تأسست عليها تجارب البناء الاشتراكي السابقة وحدد معالم رؤيتنا للاشتراكية وتخلف عن مواكبة مسيرة الحياة، وفيما إذا طرأ جديد يدعو لمراجعة المفهوم الماركسي الكلاسيكي للتحولات الاجتماعية من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية، وما هي ملامح وسمات المجتمع البديل للرأسمالية وكيف سيأتي إلى الوجود؟
وتفرض هذه الأسئلة نفسها على نحو عاجل في ظروف تتسع فيها هيمنة الرأسمالية المتعولمة وتتعرض فيها فكرة مجتمع بديل للرأسمالية إلى تشكيك كبير. فهل حقاً من الوهم التفكير بإزاحة الرأسمالية بعد إن أصبحت تبسط هيمنتها على القسم الأعظم من الكرة الأرضية في ظل عولمة تعصف بالحواجز والحدود السياسية والاجتماعية والثقافية والجغرافية التي تقف بوجه الحرية اللامحدودة لحركة الرأسمال ولفعل قوانين السوق؟ وما مصداقية الدعوة لأحداث تحولات اجتماعية مضادة للرأسمالية في بلد ما في ظل تراجع الدولة الوطنية وانحسار نفوذها لصالح الشركات العملاقة متعدية الجنسيات والمؤسسات المالية والنقدية العالمية؟ وهل العولمة إعلان للانتصار الأبدي للرأسمالية أم هي طور أعلى للرأسمالية يتعمق فيه التناقض بين التشريك المتزايد للإنتاج والطابع الخاص للملكية؟ وتوفر بالتالي مقدمات انضج لنفي العلاقات الرأسمالية؟
وكما قال رالف ميليباند في كتابه (الاشتراكية لعصر شكاك) إن الرأسمالية تشكل حاليا عقبة هائلة تحول دون تخطي الكوارث التي أنتجتها هي نفسها في سياق تطورها، وان هناك بديلا اشتراكيا للرأسمالية يمكنه حل هذه المشاكل(2) . والإشكالية تكمن في التصور المعلل لهذا البديل والإمكانات الملموسة لتحقيقه من خلال إثبات أن الاشتراكية هي نظام يتجاوز عالم السوق. لذا فالاشتراكية ينبغي أن تفهم بصفتها جانبا من جوانب النضال المديد في سبيل مجتمع أكثر عدالة، قابل للارتقاء نحو المزيد من العدالة، وهي على اساس هذه النظرة، تبقى مشروعا مطلوبا وممكن التنفيذ تماما في آن معا.
وكل ما ذكرناه يقودنا الى أهمية تحديد البديل والإستراتيجيات الفعالة لبلوغ هذا الهدف، أي عدم الاكتفاء بتحديد استراتيجيات مقاومة الرأسمالية بل والانتقال الى استراتيجيات صياغة البديل (الاشتراكية). ومن هنا ضرورة فتح نقاش نظري حول طائفة من القضايا بهدف توضيح الرؤى، من بينها:
«يتبع»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- جون ريد، عشرة ايام هزت العالم، دار الفكر الجديد، 1985، ص 18.
2- رالف ميليباند، الاشتراكية لعصر شكاك، ترجمة: نوال لايقة و مراجعة: د.غانم حمدون، الطبعة الأولى، دار المدى للثقافة، دمشق، 1998.