مدارات

في الذكرى المئوية لثورة اكتوبر العظمى .. قاطرة تاريخ القرن العشرين (8) والاخيرة/ د. صالح ياسر

أ – الموقف من الدولة. تعتبر الدولة والموقف منها المسألة الأساسية والرئيسية في السياسة، ويحتل الموقف منها موقعاً مركزياً في نضال أي حزب. وقد طرحت تجربة وأحداث القرن المنصرم أمام الفكر الاشتراكي والشيوعي إشكالية العلاقة بين الدولة الاشتراكية والديمقراطية، والتي تحيل بدورها إلى مسألة الدولة.
ثمة حاجة أكيدة إلى مراجعة الفهم الأحادي للدولة كجهاز وآلة للعنف بيد الطبقة المسيطرة، تأخذ بعين الاعتبار وظيفتها السياسية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق ترابط مستويات التشكيل الاجتماعي وإعادة إنتاج الأوضاع القائمة لمصلحة الطبقة المسيطرة أو الائتلاف الطبقي الحاكم. وهي بذلك تلعب دور المنظم للهيمنة وتمتلك تماسكاً داخلياً خاصاً بها يعطيهاً استقلالاً نسبياً عن البنى الاقتصادية والطبقات والفئات الاجتماعية المسيطرة. ويتيح هذا الاستقلال النسبي للدولة ضبط التناقضات الثانوية بين الفئات الطبقية المسيطرة، ولكن هذا الدور يتنامى ويصبح للدولة دور مستقل فوق الطبقات في الفترات التاريخية التي لا يسمح فيها ميزان القوى القائم لأي طبقة أن تفرض سلطتها بصورة مستديمة. ويحتمل شكل الدولة تغيرات هي نتاج ورهان الصراع الطبقي السياسي، وقد أفلحت النضالات السياسية والطبقية للطبقة العاملة وجماهير الشغيلة والفئات التقدمية في البلدان الرأسمالية في انتزاع مكاسب واسعة علي صعيد الحريات والديمقراطية وتكريسها حقوقياً ودستورياً. وتُعَد هذه المكتسبات تقدماً هائلاً من وجهة نظر النضال ضد الرأسمالية تتيح إمكانيات جديدة لتطويره. غير إن ممارسة هذه الحقوق الديمقراطية تبقى مقيَّدة بالامتيازات والمصالح الطبقية للرأسمال. وفي مثل هذه الظروف لا يطرح المشروع الاشتراكي التفريط بهذه الحريات والحقوق وفق مفهوم "تحطيم" جهاز الدولة البرجوازي، وإنما يهدف بالنضال الذي يستحثه إلى تطويرها وإغناء مضامينها بتحريرها من قيود منطق الرأسمال ومصالح وامتيازات الطبقات المسيطرة.
وفي البلدان النامية التي تحتل اقتصاداتها موقعاً طرفياً تابعاً في النظام الرأسمالي العالمي، تتميز الدولة بطابع استبدادي بسبب الضعف البنيوي للطبقات الاجتماعية والاستقطابات الداخلية الحادة التي يولدها الارتباط بالسوق الرأسمالية العالمية وإطلاق الحرية للتطور المنفلت لقوانين السوق في الاقتصاد المحلي. وخلافاً للمسار التاريخي للبرجوازية الأوروبية التي اقترن صعودها بقيام الثورات الديمقراطية، فإن طبيعة مصالح الفئات المسيطرة في هذه البلدان تقتضي تحطيم الممكنات الديمقراطية واعتماد سياسة إقصاء وتهميش لطبقات وفئات اجتماعية واسعة من السكان عن حقل المشاركة السياسية. وأدى ذلك الى ترجيح وزن الدولة في التشكيلة الاجتماعية والى تفتيت مجموعات كاملة من القوى الاجتماعية وإلى ضمور المجتمع المدني وعدم فاعليته.
ب - العولمة الرأسمالية والدولة. تقود العولمة الراهنة إلى تآكل قدرة الدولة الوطنية محلياً، وإعادة صياغة دورها وليس إلغاءه كما يروج لذلك الخطاب الأيديولوجي المسيطر. وإذ ضعفت قدرات الدولة القومية على الضبط والتحكم في ظل العولمة، لكنها تبقى مؤسسة محورية لتوفير الشروط اللازمة للتحكم الدولي الفعال، وخصوصاً عند اندلاع الأزمات المالية كما أكدت تجارب معالجة أزمات المكسيك وأزمة النمور الآسيوية خلال السنوات الأخيرة. فالتقلص في دور الدولة / الأمة لصالح عولمة الرأسمال يتم في الغالب بتفويض منها لأن الاقتصاد العالمي لا يزال نظاماً قائماً بين بلدان. ونتيجة للعولمة، نشأ تناقض مستعص ما بين الاقتصاد المعولم والسياسة غير المعولمة يتجلى في كون الاقتصاد يصير بنية عالمية في المقام الأول في حين أن النشاط السياسي يتم أساسا في إطار دول وطنية ومن خلالها.
يؤدي فعل قانون التطور المتفاوت الذي يحكم عملية الأنتاج الرأسمالية الى أن تتلازم عولمة الحياة الاقتصادية التي تزيد من تركز وتمركز رأس المال وتدول بشكل متعاظم علاقات الإنتاج بازدياد التفاوت في التطور الاقتصادي والسياسي محلياً وعالمياً. ويتجلى ذلك في انتشار البطالة وانخفاض الأجور وتعمق الهوة بين الأغنياء والفقراء وبين دول المركز ودول الأطراف وتفاقم مشاكل البيئة وغيرها من المشاكل والأزمات.
ج – الملكية العامة لوسائل الإنتاج. آمن ماركس وانجلس بعمق أن الملكية العامة لوسائل الإنتاج تشكل القاعدة الأساسية لبناء المجتمع الشيوعي، ولكنهما لم يقترحا وضع تنظيم الاقتصاد وإدارته والرقابة عليه في عهدة دولة جبارة تملي إرادتها على المنتجين، فماركس رأى أن أساس النظام الاشتراكي يجب أن يقوم على "الاتحاد الحر للمنتجين والابتعاد عن الأرادوية واعتماد التطور الموضوعي – الطبيعي".
ومن الجدير بالذكر إن ولادة النظام الاشتراكي السوفييتي قد اقترنت بأزمات استثنائية، اضطرابات، حروب عالمية وأهلية، تدخل أجنبي، خسائر فادحة في الأرواح ودمار هائل. علاوة على ذلك، كان مستوى التقدم الاقتصادي واطئا سواء في البلدان التي حدث فيها التغيير الثوري من الداخل أو فرض من الخارج، باستثناء تشيكوسلوفاكيا والجزء الشرقي من ألمانيا. كما افتقرت الأنظمة الجديدة إلى الشرعية في نظر الغالبية العظمى من السكان.
في الاتحاد السوفييتي نفسه، سهلت الظروف غير الملائمة فرض النموذج الستاليني، وسرعان ما تم تبني هذا النموذج أو تم فرضه في أماكن أخرى من قبل قادة تتلمذوا في "المدرسة الستالينية" فكرا وممارسة. وفي ظل جميع هذه الظروف بدا حكم الحزب الواحد وقمع المعارضة أمرين مشروعين في نظر الحكام الجدد.
د. الاشتراكية والديمقراطية. هناك عمليا ثلاث نقاط جوهرية تعرّف الاشتراكية وهي مترابطة جدليا: الديمقراطية/ المساواتية (العدالة الاجتماعية)/ تشريك Socialization الجزء الأكبر من الاقتصاد ( تحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج).
1. تجسد الاشتراكية تصورا لمجتمع اكثر ديمقراطية بكثير مما يمكن لأي مجتمع رأسمالي أن يكون. إنها تسعى لإعطاء معنى حقيقي لمفهوم المواطنة وسيادة الشعب يتجاوز الى حد بعيد حق الانتخاب الشامل والحقوق السياسية. كما تسلم الاشتراكية بضرورة تغلغل وشمول الديمقراطية لجميع جوانب النظام الاجتماعي.
2. ترتبط المساواة ارتباطا وثيقا بالديمقراطية، بوصفها ثاني العناصر الأساسية لتعريف الاشتراكية. هذا يستلزم مساواتية تقريبية تختلف عن المساواة التامة التي نعتبرها فكرة مستحيلة التحقيق. فالمساواتية تطمح الى إزالة جميع أشكال التفاوت المفرط في كل جانب من جوانب الحياة، هذا التفاوت، الذي يميز حياة المجتمعات المنقسمة على أساس الدخل والثروة والسلطة والفرص المتاحة. بكلمات أخرى، تعني الاشتراكية نشوء مجتمعات تختفي فيها مع الزمن الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية العميقة. بمعنى اخر أن لا يبقى (تكافؤ الفرص) مجرد شعار بل حقيقة واقعة.
فالديمقراطية الحقة تمارس فقط حينما يكون الناس في مأمن من مخاطر الفقر والمرض والبطالة، وانه ما لم يتحقق الاستقرار والتقدم في حياة الناس فسيبقى هؤلاء مهددين بان تحكمهم أنظمة تسلطية. ونشهد اليوم بوضوح أن "ديمقراطية" العولمة تنحاز بشكل مطلق للأغنياء مما عمق من ظواهر التوترات الاجتماعية في مختلف بلدان العالم.
إن (رالف ميليباند) على صواب حينما أكد انه لا بد من النظر الى الاشتراكية على انها كفاح دائم من أجل تحقيق الديمقراطية بكل جوانبها (السياسية والاجتماعية)(1).
3. الفرضية الثالثة/ الاشتراكية تستلزم تشريك الاقتصاد، بإخضاع الجزء الأعظم من وسائل النشاط الاقتصادي وخاصة الأساسية منها لأشكال شتى من الملكية والرقابة والإدارة الاجتماعية أو العامة. وتعد عملية التشريك وسيلة ضرورية لتحقيق نظام اجتماعي ديمقراطي ومساواتي. ويطرح البعض الصيغة التالية لمكونات الاقتصاد الاشتراكي:
• قطاع عام مهيمن ومتنوع وتتمتع مؤسساته بدرجة عالية من الاستقلالية في إدارة شؤونها؛
• قطاع تعاوني كبير؛
• قطاع خاص متنوع أيضا.
تنبغي الإشارة إلى أن سمات الاشتراكية الثلاثة مترابطة بشكل لا يمكن فصله ومتساوية في أهميتها. فلا يمكن وجود مواطنة حقيقية بدون مساواة تقريبية في الظروف. ولا يمكن وجود مثل هذه المساواة بدون تشريك الجزء الأكبر من الاقتصاد. ولكن، كما برهنت التجارب الأليمة، فان الملكية العامة بدون ديمقراطية تشكل حجر الأساس لتركيز التسلط الدولتي.
وبذلك فان الديمقراطية والمساواة والتشريك وسائل للوصول في نهاية المطاف الى ما يجسد الاشتراكية، وبلوغ انسجام اجتماعي يفوق بكثير ما يمكن للمجتمعات المبنية على الاستغلال والتسيد أن تحرزه.
ومن الواضح أن ممارسة الأنظمة "الاشتراكية" كانت في معظم توجهاتها وممارساتها نفيا لهذا المعنى بدلا من تأكيده. فقد وضعت وسائل النشاط الاقتصادي الرئيسية تحت سيطرة الملكية العامة، ولكن التجربة أثبتت فعلياً أن القيام بذلك دون تحقيق الديمقراطية لا يمثل اكثر من (تسلطية جماعية) كما أن تلك الأنظمة ليست مساواتية لأنها خلقت بنى للتسلط والامتيازات استخفت بأي مفهوم للمساواة على صعيد الممارسة.
إن صعوبة تحقيق مقومات الاشتراكية الثلاثة واضحة في الوقت الراهن. هنا أيضا ينبغي التحديد الواقعي للأمور خاصة الاعتقاد بان الاشتراكية سوف تشفي من جميع العلل وتزيل جميع الأعباء فهذا ليس بواقعي.
لذلك لا ينبغي أن نحاول الفصل بين ما كان مشروعا تاريخيا جمعياً حينا وتحقيقاً لعقيدة حينا آخر ونتيجة الظروف حينا ثالثا، وسببية آتية من بعيد حينا رابعا .
انه لأمر اكثر من بديهي أن المشروع الاشتراكي البديل للرأسمالية النابع من ماركس قد تلون في ظل المسعى لتحقيقه تاريخياً بألوان عدة، رسمتها طبيعة المجتمعات التي شهدت إنجاز التجارب، وحددها مستوى التخلف في التقاليد اللاديمقراطية والتفرقة القومية والاثنية وبين المدينة والريف.
كما تلون هذا المشروع مثلما صاغه ماركس بالظروف الخاصة كسياق الصراع العالمي والأزمات والتوترات والحراك الاجتماعي. يبدو من الضروري أن نطرح السؤال عن الصلة القائمة بين هذه السمات وبين التراث النظري الماركسي مرجعية الحركة.
هـ.الماركسية والسوق. من دون شك فقد أدت التحولات العاصفة التي شهدتها أوربا الشرقية والاتحاد السوفياتي سابقا منذ نهاية الثمانينات، وانتقال هذه البلدان الى التحول الى الرأسمالية، أدت الى تعميق القبول بالعديد من "البديهيات" ومنعت إمكانية فك الاشتباك بين الوهم الإيديولوجي والحقيقة العلمية. لقد أدى تفاقم أزمة نموذج الاشتراكية الذي ساد في هذه المنطقة من العالم وانهياره بطريقة عاصفة "دراماتيكية" وانهيار نمط لتسيير الاقتصاد، نقيض التسيير الرأسمالي، أدى الى أن يصبح الإنفتاح الشامل على السوق الحقيقة الوحيدة، التي ينبغي أن تسود وتهيمن على الاقتصاد والمجتمع العالميين.
وقد تزامنت هذه الحركة مع بروز وتطور معلم أخر أخذ يشق طريقه كالسهم في السنوات الأخيرة، ويتجلى ذلك باندفاعة نحو "تحرير قوى السوق" تصحبها شعارات ذات طبيعة إيديولوجية صارخة ( المقصود هنا الإيديولوجيا بمعناها السلبي) في تطرفها تلح على الجزم بتفوق القطاع الخاص على القطاع العام (الحكومي) بشكل مطلق، وإعطاء شرعية للتفاوت الاجتماعي، وكأنه قدر محتوم، وليس نتاج نمط خاص للتطور. ويرافق ذلك كله الإعلان عن معاداة مبدئية لتدخل الدولة في أي نشاط إقتصادي. هكذا تطرح "الليبرالية الجديدة" نفسها وكأنها بديل واحد وحيد، خارج نطاق الزمان والمكان، صالح للتطبيق على صعيد عالمي، يتجاوز المناطق والحدود، دون أي إستثناء أو تحفظ، داعية للإنفتاح على كل شيء دون قيد أو شرط !
ولاشك أن تزامن الحركتين الديمقراطية والليبرالية قد زاد من الالتباس النظري والتباس الواقع معا. فهذا "الصوت الليبرالي الجديد" الذي فرض نفسه أو تم فرضه، في الواقع، تحت حراب المؤسسات الدولية الرأسمالية والنقدية المتخصصة (لاسيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، هو صوت يروج لمذهب أحادي الجانب يقدم لنا وكأنه من المسلمات التي لا تقبل المساءلة. هذا المذهب يقول، بالإضافة الى أمور عديدة، بأن السوق هو المحور الضروري لأي تنمية، وهذه التنمية ينبغي أن تندرج في "إطار العالمية" التي لا مفر منها. وتأسيساً على ذلك فإن الانفتاح الشامل على السوق وقواه المنفلتة وتكييف الاقتصاد المحلي لمنطق "قوانينه الصارمة" يصيران ضروريين معاً، أما الديمقراطية فتظهر بدورها، ضمن منطق هذا المذهب، على أنها نتاج ضروري وطبيعي لعقلنة السوق العالمية ومنطقها، كما أشار اليه العديد من المفكرين الماركسيين.
على أنه من المفيد التأكيد على أن "اقتصاد السوق" بصيغته "الليبرالية الجديدة" حتى في أكثر أشكالها إبتذالاً، ليس سوى بنية نظرية خالصة لا صلة لها بالواقع الثري، الذي قدم خليطاً من أشكال التسيير. وتأسيساً على ذلك يتعين كشف زيف المعادلة المزعومة: السوق = الديمقراطية أو مساواة الديمقراطية (كبنية سياسية) باقتصاد السوق ( كبنية إقتصادية)، إذ أن تطور الديمقراطية السياسية بمعناها الواسع لايتطابق بالضرورة مع الحقل الاقتصادي الرأسمالي حيث سيادة الملكية الخاصة والمنافسة (سواء بين المؤسسات الخاصة وبين الإحتكارات العملاقة). إن هذه القضية مهمة جدا لتوضيح موقفنا من الأطروحات الرائجة اليوم التي يروجها منافحون ليبراليون حتى النخاع يدافعون عن نموذج الديمقراطية الغربي بإعتباره الحقيقة الوحيدة، وليس أحد الخيارات التاريخية الممكنة. ومنعا لأي التباس لا بد من التذكير بضرورة التمييز بين الحقل السياسي والحقل الاقتصادي لهذه ألإشكالية لكي يكون ممكنا تميز رؤيتنا العملية للنموذج الذي نسعى اليه ونكافح من أجله ونستطيع أن نميز أنفسنا عن الآخرين في هذا المجال الهام.
تشير التجربة التاريخية الى أن النموذج الراهن للديمقراطية الغربية اقتصر على الميدان السياسي والمبادئ التي استند عليها بفضل تسويات سياسية كبرى بين أطراف الصراع الاجتماعي في هذه البلدان. أما الميدان الاقتصادي فلم يكن بالإمكان أن يصبح ديمقراطيا لأنه ظل محكوما بإطار غير ديمقراطي، مشتق من سيادة علاقات الملكية الرأسمالية حيث يفرض رأس المال شروطه على قوة العمل ويعيد إنتاجها طبقا لمنطق القانون الاقتصادي الأساسي الذي يحكم التشكيلة الرأسمالية، وهذا قانون موضوعي خاص بالتشكيلة ذاتها، وليس من اختراع ماركس. وتعني هذه الملاحظة أن نمط الإنتاج الرأسمالي، في حد ذاته، لا يفترض الديمقراطية بسبب هذا التفاوت بين الحقلين أعلاه وميكانيزم اشتغال كل منهما.
ويبدو أن هناك حاجة للتأكيد على أن النقاش حول هذه القضية يجب أن ينطلق من سؤال هو بمثابة خيار مهم: أما القبول بالتنمية الرأسمالية وبكل النتائج المرافقة لها والاستقطاب الاجتماعي المقترن بها، أو يحل البحث عن بديل يتجاوز هذه التنمية والمشروع الرأسمالي. هنا تكمن قيمة المشروع الماركسي حينما حلل ماركس الاستلاب الاقتصادي وقام بنقد عميق للسوق. وجوهر الأطروحة الماركسية واضح هنا وهو أن إعادة التوازن الى العلاقة بين الحقلين السياسي والاقتصادي، المشار إليهما أعلاه، تفترض تحرير المجتمع من الاستلاب الإقتصادي، الأمر الذي يفترض الديمقراطية فرضا بنيويا. وخلاصة القول أن قبولنا بلعبة الديمقراطية، بصيغتها الراهنة، لا يلغي حقنا المشروع بالتأكيد على قضيتين جوهرتين. الأولى ضرورة خوض صراع فكري ينطلق من تفكيك ونقد الخطاب الليبرالي بتجلياته القديمة والحديثة، والثانية الترويج لخيارنا وفهمنا للديمقراطية يتجاوز النماذج الراهنة، خيار يعيد التوازن بين الحقلين السياسي والاقتصادي ويحرر الناس من الاستلاب الاقتصادي، ويفك أسر المجتمع من سطوة الدولة الشمولية القمعية ويؤسس لممكنات تطور ديمقراطي يكون فيه الناس مواطنين أحرارا وليس أسرى لسطوة الدولة وجبروتها في بلادنا.
كانت مسألة السوق عند ماركس لصيقة بمسألة الصنمية، وتحول العلاقات الاجتماعية الى قوى غريبة تسيطر على البشر. وكان يقابلها سيطرة البشر المجتمعين على تطورهم الاجتماعي والفردي والتضامني الحر. إن الفكرة الشيوعية بهذا المعنى لم تفقد قيمتها بل تتأكد اليوم في عصر التداخل الكوني.
إن الماركسيين الذين يؤكدون على أهمية الإبقاء على الأفق المفتوح أمام الاشتراكية يستندون الى ثورة المنجزات التقنية والاتصال، ثورة الكائنات وبيئات الحياة التي يدمرها بالضرورة - حسب تحليل ماركس - شكل السوق. والحديث هنا عن السوق الرأسمالية حيث تتحكم الملكية الخاصة.
وهنا مطلوب من الماركسية إن تجدد نفسها وتطور مفاهيمها على نحو اشمل بحيث تتسع لكل هذه المستجدات. وان ما له قيمة راهنة في الماركسية هو تحليل النظم الطبقية المؤسسة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، في ظل عالم تتزايد فيه أعداد الضحايا المهمشة والمهمومة بعدم الموت جوعا أو بالهروب من الأشكال القصوى للموت.
لكي نستطيع إعادة طرح مشروع اشتراكي مقنع علينا مجابهة المشكلة الأساسية أي مشكلة الأشكال الممكنة وشروط تحقيق الملكية الاجتماعية الحقيقية. وهنالك الكثير من القضايا الجديرة بالبحث والدراسة بما ينسجم مع المستجدات التي يشهدها عالم اليوم وبما يوفر أجوبة معللة ترسم حدود اشتراكية المستقبل.
ز. الحامل الاجتماعي للاشتراكية. والأمر نفسه ينطبق على الحامل الاجتماعي للاشتراكية، حيث يرى البعض إن البروليتاريا لم تعد القوة الوحيدة الأساسية من قوى التحويل الاجتماعي، خاصة مع تحول العلم الى قوة إنتاجية مباشرة. وهكذا يرى البعض أن مفهوم الشعب بدأ يحل محل مفهوم الطبقة، انطلاقا من كون النهج التدميري لسياسة رأس المال المالي العالمي باتت تهدد مصالح مجموع البشرية. ومن الطبيعي التأكيد على أن إشكالية الحامل الاجتماعي تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء، ولهذا يبدو من الضروري فتح النقاش على مصراعيه للتفكير بهذه الإشكالية، تفكيرا يتيح إدراج التحولات الاجتماعية الجديدة وما تتركه التطورات التكنولوجية المعاصرة من تأثيرات على بنية الطبقة العاملة والفئات الاجتماعية الكادحة، في التحليل وبالتالي البلورة الدقيقة للقوى الاجتماعية التي يرتكز إليها البديل بأفقه التاريخي بعيد المدى، إضافة للراهن طبعا.
فالمشروع الاشتراكي هو بالضرورة مشروع سيطرة الجماعات والأفراد على الأوضاع المادية والثقافية والسياسية ووجودهم الاجتماعي، مما يعني إزالة استلاب الحياة الاجتماعية.
وينبغي الاعتقاد انها ديمقراطية جذرية في مجمل جوانب الحياة الاجتماعية التي تتجاوز الرأسمالية القائمة، وأشكال الديمقراطية المحدودة التي لا يمكن التغاضي عنها. وما ينبغي أن تتجوهر به الماركسية راهنا ومستقبلا - في الفكر والممارسة - هو ضرورة البحث عن حلول لمشكلات المجتمع البشري المتصلة بشروط الوجود الطبيعية والاجتماعية.
تدل ابرز الاستخلاصات في هذا السياق على انه لا معنى للاشتراكية بدون طرح ثقافة مغايرة لتلك التي أوجدتها الرأسمالية مع تجاوز التناقضات الكبرى لعالمنا المعاصر.
إن الاشتراكية يجب أن تستند الى ثقافة:
1- متحررة من الاستلاب الاقتصادي ومن استلاب العمل.
2- متحكمة بعلاقتها مع الطبيعة.
3- مطورة للديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية.
4. معولمة إنسانيا، على أساس وفي إطار لا يعيد انتاج الاستقطاب، انما يضع
حدا له.
ما حدث في اكتوبر 1917 قد اقترفته فئة صغيرة من الثوريين المحترفين، بالغة المركزة ومتزمتة. فالواقع غير ذلك، حيث كان الحزب البلشفي قد اصبح، خلال الأشهر من شباط الى أكتوبر 1917، حزبا جماهيريا يجمع الطليعة الفعلية لبروليتاريا روسيا. وكان عدد الثوريين المحترفين (المتفرغين) في صفوفه محدودا جدا. وكان هذا الحزب أقل الأحزاب بيروقراطية من بين الأحزاب الجماهيرية التي شهدها التاريخ. فقد كان يضم بالكاد 700 متفرغ ضمن اكثر من 000 250 الى 000 300 عضو. كما انه كان آنذاك حزبا مندمجا، حتى أعلى مستوى، في المجتمع الروسي وفي قواه الحية.
والسؤال الملح بعد كل الذي حدث هو: هل يمكن ويجب ان نظل ماركسيين بهد هذا الزلزال العظيم؟
يبدو لنا ان هذا السؤال هو في حد ذاته تعبير عن منطق مقلوب. فالسؤال الذي ينبغي ان يسأل هو: هل يمكن ان لا نكون ماركسيين بالنظر الى الاوضاع الراهنة والانهيار الذي حصل؟ هل هناك بديل تغييري اليوم للماركسية والمشروع الماركسي؟ هل يمكن ان يكون هناك بديل معقول؟
لتوضيح مغزى هذه الاسئلة لا بد من الاشارة الى ان جوهر الخطأ المتضمن في السؤال يكمن في ربط الماركسية بالاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي: قيامه ومصيره. غير ان المنطق المعمق يقضي بأن تربط الماركسية بتناقضات الرأسمالية. ان الماركسية كفكر وكحركة تاريخية نبعت تاريخيا وتنبع منطقيا من قلب هذه التناقضات الرأسمالية، وما دامت هذه التناقضات موجودة تكون الماركسية اداة لحلها بالنسبة لنا نحن الشيوعيين والماركسيين عموما.
وتدفعنا الملاحظات السابقة، وليس وحدها طبعا، الى التأكيد على ما يلي:
-ان الاشتراكية مستحيلة من دون اوسع قدر من الديمقراطية وفي حيوية الفكر والتمسك بالروح النقدية.
- ليس هناك من نموذج وحيد للاشتراكية في العالم، ودون ان يعني ذلك اهمال تجارب الاخرين. وعلى كل حزب دراسة خصائص بلده الموضوعية بعمق، لكي يحدد اشكال وأساليب خوض النضال من اجل الاشتراكية التي تتنوع طرق الوصول اليها بعيدا عن نظام الوصفات الجاهزة. الاشتراكية التي نناضل من اجلها هي تلك التي تأخذ الجوانب الايجابية والمنجزات التي حققها النظام الاشتراكي، وتتجاوز الثغرات والاخطاء التي حصلت، وتعتمد كل القوانين التي اكتشفها ماركس والمفكرون الاخرون.
- العودة الى الماركسية، كنظرية وكمنهج، للبحث الملموس في مشاكل الواقع الملموس من دون اغماض العين عن المشاكل القائمة بترداد الجمل العامة. المهم هو التطبيق الخلاق للنظرية والمنهج على واقع متحرك باستمرار. فالماركسية منهج وليست شعارات جامدة، ومن المستحيل أن نرسم استراتيجيتنا اعتماداً على المنقول من الكتب أو تكييف الواقع بما يرضى تجارب الحركة الثورية فى هذا البلد أو ذاك. وان من أهم أركان مبدأ التطبيق الخلاق هذا أن يتمتع الحزب، بادئ ذى بدء، باستقلال سياسي وفكري عن وصاية ومؤثرات كائن من كان، وأن يكون مرجعه فى اجتهاده الماركسى حقائق شعبه الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية والروحية. ومن هنا تأتي اهمية المبادرة التي قام بها حزبنا، مباشرة بعد الانهيار الذي وقع، في تدشين النقاش حول تجارب البناء الاشتراكي التي انهارت والدروس المستخلصة منها، بما يمكن من ابتكار اشكال جديدة للنشاط في سبيل تحقيق بديلنا الديمقراطي باعتباره محطة مهمة على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي النهائي، بناء الاشتراكية في بلد ملموس هو العراق.
ولا يعنى هذا التحديد الملموس ان المشروع مقطوع الجذور عن الافق المستقبلي، بل ان الخيار البعيد المدى (الاشتراكي) يظل ماثلا ولكن إنضاج شروط تحقيقه تظل "عملية نضالية طويلة الأمد" وبالتالي هدفا استراتيجيا بعيد المدى لا يمكن اخراجه من دائرة التحليل والنظر. وسيكون في الوقت نفسه – بحسب المشروع-:
- "محصلة عمل فكري وسياسي تراكمي ومتدرج،
- وأيضا محصلة نضال قوى سياسية متعددة وتحالفات واسعة،
- وسيتم الوصول اليها عبر عدد من المراحل الانتقالية التي يمكن ان تستمر طويلا ".
وعلى مستوى بلداننا النامية تطرح هذه الملاحظات ضرورة إعمال العقل الجماعي للإجابة على ثلاثة اسئلة مهمة هي:
- كيف نعيد صياغة المفهوم النظري لمضمون مرحلة الثورة الوطنية – الديمقراطية؟
- كيف نفك الارتباط القديم بين مرحلة الثورة الوطنية – الديمقراطية والثورة الاشتراكية؟
- ما الصورة النظرية للبديل الاشتراكي، كأفق تاريخي، على الصعيد العام (العالمي) أو الخاص (بلد أو بلدان محددة)، وما هي شروط وملامح الانتقال؟
ونختتم بالتشديد على أنه ورغم اللحظات المشوبة بمشاعر مختلطة بين حلم مؤجل وأمل آت إلا أن مجرد استذكار هذا الحدث بعد مئة عام من وقوعه، والذي غيّر العالم لأكثر من سبعين عاما إنما يعني أن هذه الثورة ومبادءها الكبرى في السلم والخبز والأرض لم تتسربل بالنسيان. فما زال بيرق النضال ضد الاستغلال والظلم والعسف يرفرف، رغم كل الضجيج حول "نهاية التاريخ" و"نهاية الإيديولوجيا".
المجد للذكرى المئوية الاولى لثورة أكتوبر العظمى ... قاطرة تاريخ القرن العشرين !
انتهى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قارن: رالف ميليباند، الاشتراكية لعصر شكاك...، مصدر سبق ذكره.