مدارات

تحليل الحركة التقدمية الكويتية للبنية السياسية في الكويت ورؤيتها حول قضايا التطور الوطني والديمقراطي

مضت نحو ستة عقود على نيل الكويت استقلالها وانتقالها من صيغة الإمارة إلى صيغة الدولة، حيث انطلق بعد الاستقلال مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، عبر دستور 1962 الذي هو دستور الحدّ الأدنى، حيث يكفل هامشاً من حقوق المواطنين وحرياتهم؛ ويقوم على نظام مؤسسي في إطار غير متوازن من فصل السلطات جراء هيمنة السلطة التنفيذية عليها والسلطات الواسعة لرئيس الدولة؛ مع الإقرار بوجود مؤسسات للمجتمع المدني ولكن تحت الوصاية الحكومية، حيث يضع أساساً أولياً لإمارة دستورية ضمن نظام وسط بين النظامين البرلماني والرئاسي، وتمّ ذلك ضمن ميزان القوى القائم حينذاك وفي إطار توافق تاريخي بين الأمير وأعضاء المجلس التأسيسي، واستناداً إلى تاريخ طويل من المطالبة بالمشاركة في الحكم يمتد إلى عشرينيات القرن العشرين.
وواجه مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة في إطار الدستور القائم تحديات وعقبات وعراقيل ليست بالهينة أدّت إلى تعثره، حيث تراجعت القوى المتنفذة في أسرة الحكم عن هذا المشروع. وحاولت إيقاف العمل بالدستور والانقلاب عليه مرتين بين 1976 و1981 وبين 1986 و1992 وقد فشل الانقلابان السلطويان بفضل الموقف الشعبي الرافض، خصوصاً التجمعات الحاشدة لديوانيات الاثنين في 1989 و1990 التي نظمتها قوى المعارضة لعودة العمل بدستور 1962، الذي تكررت محاولات تنقيحه على نحو يؤدي إلى الانتقاص من الحد الأدنى المتوافر فيه من الحقوق والحريات الديمقراطية بين 1980 إلى 1983، وقبل ذلك التزوير الفج لانتخابات البرلمان الثاني في 1967 وأشكال التدخل المتنوعة في الانتخابات النيابية المتعاقبة، وتعزيز سطوة السلطة التنفيذية أكثر فأكثر مع تقليص دور البرلمان. ومع أنّ هذه المحاولات لم تنجح وجرى التراجع عنها تحت الضغط الشعبي وجراء ظروف إقليمية ودولية، إلا أنّه بسبب سطوة القوى المتنفذة في أسرة الحكم وضعف القوى الشعبية فقد تكرّس مع مرور الوقت نهج الانفراد بالسلطة، وجرى فرض قوانين غير ديمقراطية أفرغت الدستور من مضامينه الديمقراطية، وهذا ما تمثّل في احتكار القرار السياسي واحتكار المناصب الأساسية في الإدارة السياسية للدولة بأيدي أسرة الحكم، وتحويل مجلس الوزراء إلى جهاز تنفيذي يتلقى التوجيهات بدلاً من كونه، مثلما يُفترض دستورياً، سلطة سياسية مقررة، والعبث السلطوي المنفرد بالنظام الانتخابي، وتشريع قوانين تقيد الحريات والحقوق الديمقراطية وتصادر بعضها، مثل قانون الإعلام الإلكتروني وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات اللذين يفرضان قيوداً ثقيلة على حرية التعبير، ومرسوم قانون الاجتماعات العامة الذي يقيّد حرية التجمعات والمظاهرات، وقانون جمعيات النفع العام، الذي يفرض الوصاية الحكومية على تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وقانون المحكمة الإدارية، الذي يحصّن قرارات السلطة التنفيذية في شأن عدد من القضايا والأمور مهما كانت هذه القرارات جائرة، وغيرها من ترسانة القوانين غير الديمقراطية، هذا بالإضافة إلى الإجراءات غير الديمقراطية التي تزايدت في السنوات الأخيرة وتمثلت في الملاحقات السياسية تحت غطاء قانوني لعناصر المعارضة وأصحاب الرأي والمشاركين في الاحتجاجات الشعبية وإصدار أحكام قاسية بحقهم، واتخاذ قرارات انتقامية انتقائية جائرة بإسقاط الجنسية الكويتية أو سحبها أو فَقْدها من عدد من المواطنين لأسباب سياسية.
هذا ناهيك عن تجذر مشكلة الفشل الإداري في الدولة، والمتمثل في فشل أسرة الحكم في إدارة شؤون الدولة بكفاءة وفعالية، وهو ما يمثّل مشكلة جدية تواجه البنية السياسية في الكويت، حيث أن احتكار أسرة الحكم المناصب القيادية الحساسة مباشرة، أو تولية أتباعها من دون تقييم قدراتهم الإدارية والفنية، قد أديا إلى ترهل جهاز الدولة وإلى ضعف شديد في تنفيذ السياسات مهما كانت، وهو ما يعبر عنه توجه الحلف الطبقي المسيطر بشكل متزايد لإجراءات استثنائية لتنفيذ سياساته الطبقية وغير الديمقراطية، مثل تحويل الديوان الأميري إلى جهاز لتنفيذ المشاريع الإنشائية بدل الوزارات والمؤسسات المنوط بها أصلا القيام بهذه المهمات، مع ما يعتري هذه الممارسات الاستثنائية من فساد مالي، وهو ما يتطلب مواجهة حازمة لفضح ضعف الكفاءة الإدارية لدى أسرة الحكم وحلفها الطبقي المسيطر.
كما شهدت البلاد في السنوات الأخيرة إفساداً واسعاً قامت به السلطة وحلفها الطبقي الرأسمالي للحياة السياسية على مستوياتها المختلفة بدءاً من إفساد العملية الانتخابية والعبث بالنظام الانتخابي وتفصيله وفق هوى السلطة وترتيباتها؛ مروراً بإفساد الممارسة البرلمانية وشراء أصوات الغالبية النيابية الموالية، وصولاً إلى إنشاء وسائل إعلامية خاصة تمثّل أبواقاً دعائية مسفّة وتسيطر على الفضاء الإعلامي.
ومثّل تغيير السلطة في العام 2012 لنظام التصويت من أربعة أصوات في كل دائرة إلى صوت واحد مجزوء هجمة جديدة وكبيرة على الممارسة الديمقراطية في الكويت، حيث هدفت السلطة لإلغاء الأغلبية المعارضة في البرلمان عبر حله في منتصف العام ثم لجأت لتغيير نظام التصويت بحيث يصعب تشكل معارضة داخل البرلمان مستقبلا، وجوبهت هذه الهجمة السلطوية بحراك حاشد غير مسبوق للمعارضة في الشارع، واجهته السلطة بالقمع الأمني والملاحقات القضائية وإلغاء حقوق المواطنة عبر سحب الجنسية، كما تخلل حراك المعارضة مقاطعة واسعة لانتخابات البرلمان لمرتين بسبب إجراء الانتخابات وفق النظام الصوت الواحد المجزوء.
وخلال العقود الستة الأخيرة شهدت الكويت، ومنذ استقلالها، أحداثاً جساماً كشفت مدى هشاشة بنيتها الجغرافية السياسية، بدءاً من تحريك رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم الادعاءات المتصلة بضم الكويت إلى العراق، مروراً بالأزمات الحدودية المتكررة وما تعرضت له البلاد من انعكاسات للتوترات الإقليمية، وصولاً إلى كارثة الغزو العراقي واحتلال الكويت في العام 1990، التي فرضت إقامة وجود عسكري أميركي مباشر في البلاد ضمن اتفاقيات أمنية بين الحكومتين الأميركية والكويتية لم يتم عرضها على البرلمان، بالإضافية إلى ما تتعرض له بلادنا من ضغوط متنوعة ومحاولات تدخل من الدول الكبيرة المحيطة بالكويت.
ولعله من بين أخطر التهديدات التي تطال وجود الكويت كدولة ما تشهده المنطقة من أوضاع عسكرية ملتهبة وعمليات إرهابية دموية وحروب أهلية مدمرة وانقسامات طائفية مستعرة، ما يدعو إلى الخشية من تداعياتها وانعكاساتها على الوضع الداخلي لبلادنا الصغيرة.
وبذلك فقد جرى تراجع ملحوظ عن مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، وتعرضت الحياة السياسية في البلاد إلى تشويه خطير وتدهور كبير، بحيث انسد عملياً أي أفق جدي للإصلاح والتغيير في إطار هذه الصيغة المشوهة، وهذا ما يتطلب أولاً وقبل كل شيء النضال من أجل إطلاق الحريات العامة وإحداث حالة انفراج في الحياة السياسية، وتوفير ميزان قوى مناسب لتحقيق إصلاح سياسي ديمقراطي ينهي نهج الاستبداد والانفراد بالسلطة ويحقق المشاركة الشعبية في إدارة الدولة وفي القرار السياسي، ويفتح الباب أمام إصلاح النظام الانتخابي على أسس ديمقراطية وإقامة حياة حزبية سليمة في إطار التعددية، وإصلاح حال المؤسستين التنفيذية والتشريعية؛ ووضع حد للإفساد والتشويه الجاريين في الحياة السياسية والبرلمانية والمؤسسات الإعلامية، وإقامة نظام برلماني ديمقراطي مكتمل الأركان، وهذا ما يتطلب تغييراً لموازين القوى عبر نضال جماهيري مثابر ودءوب وطويل النَفَس.
التطور الوطني المستقل وبناء الدولة الكويتية الحديثة:
إنّ الكويت وفقاً لنظامها الدستوري "دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة، ولا يجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها. وشعب الكويت جزء من الأمة العربية". ولقد تعرّض استقلال الكويت وسيادتها إلى تهديدات ومخاطر وتحديات كبيرة منذ اليوم الأول للاستقلال، حيث دافع الكويتيون بجدارة عن استقلال وطنهم وذادوا عن سيادته بتضحيات مئات الشهداء وآلاف الأسرى والمعذبين. كما تحققت خطوات ذات شأن على طريق الاستقلال الاقتصادي عندما فرضت الدولة ملكيتها على الثروة النفطية وتولت إدارتها وألغت امتيازات التنقيب المجحفة مع الشركات الأجنبية.
إنّ الحفاظ على سيادة الكويت واستقلالها الوطني وتعزيز مَنَعتها في مواجهة الضغوط والتدخلات الخارجية والأعمال الإرهابية وتسعير النعرات الطائفية ومحاولات تسييسها، يتطلّب وجود جبهة داخلية متماسكة في إطار نظام ديمقراطي يكفل حريات المواطنين وحقوقهم ويقوم على مبدأ المواطنة الدستورية المتساوية، ويعيد الاعتبار إلى مشروع بناء الدولة الكويتية الحديثة، مثلما يتطلّب بناء جيش نوعي ذي كفاءة واقتدار في تسليحه وتدريبه وجاهزيته يعتمد على الجمع بين آليات التطوّع، والتجنيد الإلزامي، وتعبئة قوة الاحتياط واستدعائها وقت الحاجة؛ وإشراك الشعب في منظومة الدفاع عن الوطن، كما يتطلّب انتهاج سياسة خارجية تراعي المصالح الوطنية.
التطور الديمقراطي:
إن هدف قيام "نظام حكم ديمقراطي تكون السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً" كما حدده الدستور في مادته السادسة، يتطلب لتحقيقه مشاركة أوسع الفئات الشعبية في ممارسة شؤون الحكم والدولة، كبديل ديمقراطي لاحتكار أطراف الحلف الطبقي المسيطر للسلطة والنفوذ وتوجيههما وفق مصالحه الضيقة.
علاوة على أن الديمقراطية تمثل قيمة إنسانية كبرى، ومطلباً سياسياً حيوياً، فهي التي تضمن لكل مواطن حقه في المبادرة والمشاركة في تسيير الأمور بمختلف الميادين.
إن الديمقراطية السياسية لا تنفصل عن قضايا تعزيز الاستقلال الوطني والبناء والتنمية والسير في طريق التطور المستقل والتقدم الاجتماعي، مثلما لا تنفصل الديمقراطية السياسية عن الديمقراطية الاجتماعية وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعاشية للمواطنين والسكان في إطار من العدالة الاجتماعية.
وتمثل الديمقراطية البديل الوحيد الممكن للاستبداد والحكم المطلق، وهي الأساس في بناء دولة القانون الديمقراطية وتحقيق الأمن والاستقرار.
وتحاول القوى المعادية للديمقراطية ضمن السلطة والحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر، دفاعاً عن مصالحها ونفوذها وامتيازاتها، إعاقة عملية التطور الديمقراطي وتقييد ممارسة المواطنين لحقوقهم وحرياتهم الديمقراطية وإقامة أوضاع ومؤسسات شكلية وغير دستورية، فيما يتزايد الميل المتنامي للحلف الطبقي المسيطر نحو التضييق على الحريات، وذلك بحكم النزعة الرجعية لقوى الحلف الطبقي الرأسمالي المسيطر ومصالحها الطفيلية، وهذا ما اتضح في التشريعات والإجراءات التي اتخذتها السلطة في السنوات الأخيرة.
إنّ إنجاز عملية التطور الديمقراطي يتطلب:
1- عدم المساس بالضمانات الديمقراطية الأساسية الواردة في دستور العام 1962، بوصفه دستور الحد الأدنى، ووضعها موضع التطبيق نصاً وروحاً، وتعزيزها وتوسيعها، وصولاً إلى دستور ديمقراطي برلماني.
2- احترام الحريات الشخصية وإطلاق الحريات والحقوق الديمقراطية الأساسية: حرية المعتقد؛ وحرية الرأي؛ وحرية التعبير؛ وحرية النشر؛ وحرية الاجتماع؛ والحق في التظاهر السلمي والإضراب عن العمل؛ وحرية النشاط النقابي والاجتماعي؛ وحرية التنظيم السياسي والحزبي، وإجراء إصلاح تشريعي شامل يلغي القوانين والإجراءات المقيدة للحريات والحقوق الديمقراطية ويهدف إلى سنّ قوانين تفسح المجال أمام المواطنين لممارسة حرياتهم وحقوقهم الديمقراطية.
3- تأكيد مبادئ الفصل بين السلطات، والتعددية السياسية والحزبية، وتداول السلطة ديمقراطياً، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، واحترام حقوق الدفاع.
4- الحظر المطلق لأي مساس بحق المواطن الكويتي في جنسيته، وإلغاء الإجراءات والقوانين التي تتيح للسلطة إسقاط الجنسية أو سحبها أو فَقْدها من المواطنين أو نفيهم من البلاد لأسباب سياسية، مع تمكين الأفراد من اللجوء إلى القضاء في هذه الحالات.
5- التجريم المشدد لأي إكراه أو تعذيب لانتزاع الاعترافات من المحتجزين والمتهمين.
6- قيام حياة حزبية سليمة عبر إشهار الأحزاب السياسية على أسس ديمقراطية.
7- تأكيد الاستقلال النسبي للسلطة القضائية ورفض محاولات السلطة لاستغلال القضاء في تصفية الحسابات السياسية مع المعارضة، والتصدي لتدخلاتها في القضاء والعمل على تطهير القضاء والنيابة من أي عناصر فاسدة.
8- إلغاء القيود المفروضة على حق التقاضي أمام المحكمة الإدارية في قضايا الجنسية والإقامة والصحف ودور العبادة، وتخفيض أو إلغاء رسوم التقاضي أمام المحكمة الدستورية، وإلغاء نظام الادعاء المختص بالتحقيق والادعاء في قضايا الجنح باعتباره جهازاً أمنياً، وتوسيع صلاحيات النيابة العامة كجهاز قضائي لتشمل الجنح والجنايات.
9- إلغاء الوصاية الحكومية المفروضة على مؤسسات المجتمع المدني، وتعديل القوانين المخلة بمبدأ استقلاليتها.
10- إلغاء القيود المفروضة على حريات التعبير والإعلام والصحافة والنشر في قوانين المطبوعات والنشر، والإعلام المرئي والمسموع، ومكافحة جرائم تقنية المعلومات، والإعلام الإلكتروني، مع تأمين حق التعبير في وسائل الإعلام العامة (التلفزيون والإذاعة) لسائر تيارات الرأي العام.
11- إلغاء نظام الصوت الواحد المجزوء الذي فرضته السلطة منفردة وكرّس تحكّم السلطة في مخرجات العملية الانتخابية، ووضع نظام انتخابي ديمقراطي قائم على التمثيل النسبي والقوائم وتحديد سقف الإنفاق الانتخابي، مع توسيع القاعدة الانتخابية بتخفيض سن الناخب إلى 18 عاماً، وإلغاء وقف حقّ العسكريين في الانتخاب، ومنح حق الترشيح للمواطنين الكويتيين بالتجنس.
12- انتخاب كامل أعضاء المجالس البلدية، وانتخاب مجالس المحافظات والمحافظين والمختارين.
13- انطلاقاً من كون قضية حقوق الإنسان ليست شأناً داخلياً وإنما هي قضية تهم المجتمع البشري، فلابد من المصادقة على المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تضمن حقوق الإنسان، والتعامل معها كجزء من القانون الوطني، والالتزام بتطبيق هذه المواثيق والمعاهدات والاتفاقيات وتقديم تقارير منتظمة عن مدى تنفيذها.
14- إلغاء الأجهزة الأمنية القمعية، وتحديداً الإدارة العامة لأمن الدولة، وتجريم التجسس السياسي على المعارضين وملاحقتهم، والاستدعاء غير القانوني لهم واستخدام أساليب التهديد والتعذيب أثناء التحقيق.