مدارات

الذكرى المئوية لثورة أكتوبر.. الاتحاد السوفييتي في عهد "خروتشوف" (8) / د. ماهر الشريف

عقب وفاة جوزيف ستالين في 5 آذار 1953، تقرر تشكيل قيادة جماعية يتقاسم أفرادها المهمات، فأصبح جورجي مالينكوف أميناً أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ورئيساً لمجلس الوزراء، لكنه تخلى، بعد فترة قصيرة، عن المنصب الأول لنيكيتا خروتشوف، وتقرر تقليص عدد أعضاء هيئة رئاسة اللجنة المركزية من 25 عضواً أصيلاً إلى 11عضواً أصيلاً، ومن 11عضواً احتياطياً إلى 4 أعضاء احتياطيين.
وشغل لافرينتي بيريا، المسؤول عن البوليس السياسي منذ سنة 1939، منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية. وبغية تعزيز شرعيتهم، قام خلفاء ستالين بتنشيط الدور السياسي لهيئات الحزب القيادية. فمنذ سنة 1953، تحولت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي - كما كانت في العشرينيات- إلى محور الحياة السياسية، بحيث صارت تُطرح عليها جميع قضايا الخلاف بين أعضاء هيئة الرئاسة. وما بين 5 آذار 1953 و10 تشرين الأول 1964، اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ثلاث مرات وسطياً في العام، بينما لم يعقد بين شباط 1947 وتشرين الأول 1952 أي اجتماع موسع لها. ومنذ 23 آذار 1953، صار يقل ذكر اسم جوزيف ستالين في صحيفة "البرافدا".
الخطوات الأولى على طريق "نزع الستالينية"
بادر بيريا، بصفته وزيراً للداخلية، في 28 آذار 1953 إلى إعلان عفو عام، نجم عنه إطلاق سراح جميع المعتقلين الذين يقضون عقوبة مدتها أقل من خمس سنوات، وجميع المدانين بقضايا اقتصادية أو إدارية وجميع الذين لا يشكلون تهديدا لأمن الدولة. كما قلصت مدة عقوبة الآخرين إلى النصف. وبات نظام معسكرات الاعتقال يخضع لسلطة وزارة العدل وليس لسلطة وزارة الداخلية، وفي آذار 1954 تحول جهاز البوليس السياسي إلى "لجنة أمن الدولة" (ك.ج.ب.)، وأعيد الاعتبار إلى الآلاف من الأشخاص.
بيد أن بيريا الذي اختفى عن الأنظار منذ 17 حزيران 1953، اعتقل في 26 حزيران وأعلنت "البرافدا" رسمياً عن اعتقاله في 10 تموز وإزاحته من منصبه وطُرده من الحزب، ثم حكم عليه بالإعدام وأُعدم في 23 كانون الأول من العام نفسه، بعد أن وجهت اليه تهمة محاولة قلب نظام الحكم ووضع وزارة الداخلية فوق مجلس الوزراء والحزب الشيوعي. ومن جهة أخرى، أعيد الاعتبار إلى الشعوب التي اتهمت بالتعاون مع المحتلين الألمان وسمح لها بالعودة إلى أراضيها باستثناء تتار القرم. كما أدخلت تعديلات على قانون العمل نجم عنها إلغاء البند الذي يحول دون حركية قوة العمل. كما خُفف القانون الذي يمنع المواطن السوفييتي من الاتصال بالخارج. وفي سنة 1957، تم تنظيم مهرجان للشباب في موسكو سمح للشبيبة السوفيتية بالاحتكاك بعشرات الآلاف من شباب وشابات نحو مئة بلد. وعلى الصعيد الثقافي، حدث انفراج سمح بنشر مؤلفات كان نشرها محظوراً في السابق، وصار المثقفون يتمتعون بدرجة أكبر من حرية التعبير والنقد.
المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي
شهدت قيادة الحزب الشيوعي الجماعية التي تشكّلت عقب وفاة ستالين تنافساً حاداً بين مالينكوف، من جهة، وخروتشوف، من جهة ثانية، حول التغيرات التي ينبغي إحداثها في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. فبينما رغب الأول في إعطاء الأولوية لتنمية اقتصادية متوازنة والسعي إلى خفض أسعار المواد الاستهلاكية، شدد خروتشوف على ضرورة تجديد الزراعة وتطوير تقنياتها، معتبراً أن إصلاح الزراعة هو أكثر إلحاحاً من أي توجه آخر ويستجيب لتطلعات السكان، شريطة ألا يكون ذلك على حساب مصالح الصناعة الثقيلة والمؤسسة العسكرية. وفي إطار تنفيذ مشروع استصلاح الأراضي البكر في كازاخستان وسيبيريا وشمال القفقاس، ضمن خروتشوف نوعاً من التكامل بين الزراعة والصناعة الثقيلة عن طريق تأمين التراكتورات والآلات اللازمة للزراعة من الصناعة الثقيلة. وفي نهاية الخطة الخمسية الخامسة في سنة 1955، حقق الاقتصاد السوفييتي نجاحات ملموسة، لكن من دون أن تتغير طرائق التسيير، والإدارة والتخطيط الاقتصادي.
وتحسن وضع الزراعة قليلاً، إذ ازداد إنتاج الذرة والبطاطا والشمندر، لكن إنتاج الخضراوات والفواكه بقي قليلاً. وشهدت صناعة المواد الاستهلاكية تقدماً أكبر، لكنه لم يكن قادراً على تلبية جميع حاجات السكان.
وفي 8 كانون الثاني 1955، كسب خروتشوف الجولة وقدم مالينكوف نقداً ذاتياً أمام مندوبي الاجتماع الموسع للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، معترفاً بعدم كفاءته في الأمور الزراعية واستقال من منصبه في رئاسة الحكومة. واختار مجلس السوفييت الأعلى نيكولا بولغانين كي يحل محله على رأس الحكومة، بينما حل الماريشال غيورغي جوكوف محل بولغانين وزيراً للدفاع. وبعد كسبه تلك الجولة، قام نيكيتا خروتشوف باستدعاء بعض الذين عملوا معه عندما كان سكرتيرا للحزب الشيوعي في أوكرانيا ما بين 1938 و 1949، وفي مقدمهم ليونيد بريجنيف الذي عُيّن سكرتيرا للحزب الشيوعي في جمهورية كازاخستان. وبدأ خروتشوف ينشط من أجل توفير شروط نجاح مؤتمر الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي القادم.
في اجتماعها المنعقد في تموز 1955، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي الدعوة إلى انعقاد المؤتمر العشرين، الذي التأم في الكرملين ما بين 14 و 25 شباط 1956. وفضلاً عن تقرير لجنة التحقق من العضوية، وانتخاب الهيئات القيادية، كانت على جدول أعمال المؤتمر نقطتان رئيسيتان: تقرير اللجنة المركزية عن نشاطها قدمه خروتشوف، وتقرير عن الخطة الاقتصادية الخمسية السادسة قدمه بولغانين.
أكد المؤتمر العشرون توجه الحزب نحو "نزع الستالينية" ووسّع نطاقه. وعرض خروتشوف رؤية متفائلة للأوضاع الدولية وطور فكرتين أساسيتين بشأن النظرية والممارسة السياسيتين، فأظهر أن التعايش السلمي معطى أساسي للسياسة الشيوعية وليس توجهاً قائماً على الاستفادة من لحظة عابرة، وأن الحروب لم تعد حتمية نظراً لتوازن القوى الجديد الناشئ في العالم وامتلاك وسائل الدمار الشامل. وشدد خروتشوف على تنوع أشكال الانتقال إلى الاشتراكية، وهو انتقال يمكن أن يتم باللجوء إلى المؤسسات البرلمانية وتجنب الحرب الأهلية. وعلى الصعيد الاقتصادي، عرض خروتشوف نتائج تطبيق الخطة الخمسية الخامسة مركزاً على أهمية رفع مستوى الإنتاجية والنضال ضد البيروقراطية، كما اقترح توسيع حقوق الجمهوريات الاتحادية وخصوصاً في الميدانين الاقتصادي والثقافي، وتوسيع الديمقراطية الاشتراكية ودور السوفييتات، وذكّر بضرورة تعزيز الشرعية الاشتراكية وتطبيقها.
وفي تقريره أمام مندوبي المؤتمر حول الخطة الاقتصادية الخمسية السادسة، توقع بولغانين زيادة بنسبة 70 في المائة في مجال إنتاج وسائل الإنتاج، وبنسبة 60 في المائة في مجال إنتاج المواد الاستهلاكية، ورفع نسبة الإنتاجية بـ 50 في المائة. وبعد أن أكد ضرورة الحفاظ على أولوية الصناعة الثقيلة، توقع، فيما يتعلق بالمجال الزراعي، أن يزيد الإنتاج الزراعي الشامل بنسبة 70 في المائة، وأن يتم توفير 1650000 تراكتور زراعي وأن تتحقق كهربة الخطوط الحديدية بصورة كلية وأن يجري مد 6500 كيلومتر من هذه الخطوط. وأعلن بولغانين عن عدة إجراءات مهمة، مثل زيادة الأجور المتدنية لبعض فئات العمال ورواتب المتقاعدين، وإلغاء رسوم الالتحاق بالمدارس (الذي أعيد العمل به خلال سنوات الحرب)، والانتقال إلى يوم عمل من سبع ساعات، وتخفيض ساعات العمل في يوم السبت ساعتين، وزيادة إجازة الأمومة، وبذل جهد مضاعف في مجال التعليم.
وشارك في أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي 1436 مندوبا، فضلا عن ممثلي 55 حزبا أجنبيا. وكان المكسب الأول الذي تحقق هو عودة "الشرعية" اللينينية، من خلال تأكيد مبدأ القيادة الجماعية ورفض عبادة الشخصية. وفي السياسة الخارجية، تم تأكيد مبدأ التعايش السلمي والحق في التعددية داخل المعسكر الاشتراكي.
وفي ليلة 24- 25 شباط 1956، قدم خروتشوف تقريره السري إلى مندوبي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، الذي استند إلى أعمال لجنة تحقيق شكلتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وبدأت عملها منذ كانون الأول 1953. وفي ذلك التقرير، عرض خروتشوف دور ستالين ووجه نقداً شديداً لظاهرة "عبادة الشخصية"، وتجميع كل السلطات في أيدي رجل واحد، قام بحرف النظام منذ سنة 1934 نحو "نظام استبدادي".
وأدان خروتشوف التعديات على "الشرعية الاشتراكية"، وبعض حملات التطهير التي خلقت حالة من عدم الاستقرار في البلاد وجعلت المسؤولين أنفسهم يعيشون حالة رعب، كما انتقد عدم الكفاءة التي أبداها ستالين في بدايات العدوان الألماني على الاتحاد السوفييتي في سنة 1941. واستندت هذه الانتقادات الموجهة إلى ستالين إلى الأحكام القاسية التي أطلقها لينين عليه في "وصيته ". وقد أحدث هذا التقرير صدمة كبيرة حتى بين مندوبي المؤتمر، وتسبب في حدوث اضطرابات في بعض المناطق وخصوصاً في جورجيا حيث اندلعت مظاهرات مؤيدة لستالين. كما كان صدى التقرير كبيراً في دول أوروبا الشرقية والوسطى وداخل أحزاب الحركة الشيوعية العالمية.
ولعب خروتشوف دورا كبيرا في اتخاذ قرار نشر هذا التقرير منذ آذار 1956 داخل منظمات الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي والمنظمات الاجتماعية الرديفة له، ثم توزيعه على المواطنين كي يجري نقاشه على أوسع نطاق، حتى في المدارس. وعقب صدور التقرير، تم الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وجرى، في سنة 1960، حل إدارة معسكرات الاعتقال، من دون أن تختفي هذه المعسكرات بصورة كلية، ثم تقرر في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي، المنعقد في سنة 1961، إزالة جثمان ستالين من الضريح في الكرملين، وسحب اسمه من المصانع والمدن، بما فيها مدينة ستالينغراد التي استعادت اسمها "فولغوغراد"، وهي إجراءات استقبلت باستياء من قسم كبير من المواطنين السوفييت. ومن جهة أخرى، تبنى خروتشوف، عقب المؤتمر العشرين، سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي أحيت بعض عناصر اقتصاد السوق، في إطار النسق المخطط، وعززت استقلالية مدراء المصانع، وهدفت إلى رفع مستوى معيشة المواطنين.
انتصار خروتشوف ونهاية عهد القيادة الجماعية
بدأت مقاومة "نزع الستالينية" تنتظم ما أن انتهت أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي. ففي الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في 30 حزيران 1956، أقر قرار غير منسجم، من ناحية المضمون، مع قرارات المؤتمر العشرين، إذ وُصِف ستالين بأنه "منظر ومنظّم كبير" نجح في تحييد المعارضات التي كانت تهدد عمل الحزب الثوري وضمن "انتصار الاشتراكية". أما ظاهرة "عبادة الشخصية" فقد نجمت، كما ورد في ذلك القرار، عن تجاوزات ارتكبها ستالين، الذي تبقى فضائله أكبر من مثالبه. وخلال صيف العام نفسه، تم تأكيد هذا الموقف "المحافظ" في مقالات عديدة نشرتها مجلة "كومونيست". وقد استغل أنصار هذا الموقف الأحداث المناهضة للاتحاد السوفييتي التي شهدتها بولونيا وهنغاريا في خريف سنة 1956 كي يضعفوا مواقع خروتشوف وأنصاره من "الإصلاحيين" داخل الحزب.
وبينما كان خروتشوف يقوم بزيارة إلى فنلندا، قرر عدد من رفاقه دعوة هيئة رئاسة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى الاجتماع في 18 حزيران 1957. وفي ذلك الاجتماع، دعا سبعة من أصل أحد عشر عضواً أصيلاً في هذه الهيئة، كان من أبرزهم جورجي مالينكوف، وفاتيسلاف مولوتوف، ولازار كاغانوفيتش، وكليمنت فوروشيلوف، ونيكولا بولغانين، خروتشوف إلى الاستقالة من منصب الأمين الأول للجنة المركزية، فطالب هذا الأخير بطرح مسألة استقالته على جدول أعمال اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، التي انبثقت عنها هيئة الرئاسة. وبفضل الدعم الحازم الذي قدمه له الماريشال غيورغي جوكوف وقادة الجيش السوفييتي، الذين نقلوا بالطائرات العسكرية أعضاء اللجنة المركزية، الموزعين على مناطق البلاد المختلفة، إلى موسكو، التأم اجتماع هذه اللجنة في 22 حزيران، وقرر إعادة تثبيت خروتشوف في منصبه، وانتقد "النشاطات التكتلية للمجموعة المناهضة للحزب"، كما قرر فصل مالينكوف، ومولوتوف، وكاغانوفيتش، وسابوروف من هيئة الرئاسة ومن اللجنة المركزية، وتوسيع عضوية هيئة الرئاسة بحيث تضم خمسة عشر عضواً أصيلاً، عوضاً عن أحد عشر عضواً، وهو ما سمح بانتقال جوكوف، وبريجنيف، وشفرنيك، وفورتسيفا، من أعضاء احتياط في هيئة الرئاسة إلى أعضاء أصيلين، وانضم إليهم عضوان من سكرتارية اللجنة المركزية هما أريستوف وبليايف.
لقد أثار الدور الكبير الذي لعبه الماريشال جوكوف في حل هذه الأزمة الحزبية قلق خروتشوف والقيادة المدنية للدولة. فاستغل خروتشوف زيارة قام بها جوكوف إلى خارج الاتحاد السوفييتي كي يطرح على اجتماع هيئة الرئاسة "ظاهرة عبادة شخصية جوكوف ومخاطر ميله نحو نزعة بونابرتية". وفي الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في تشرين الأول 1957، تقرر عزل جوكوف عن هيئة الرئاسة وعن اللجنة المركزية للحزب. وفي آذار 1958، استغل خروتشوف انتخابات مجلس السوفييت الأعلى كي يعزل بولغانين ويحل محله على رأس الحكومة، بحيث صار يجمع منصب الأمين الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ومنصب رئيس مجلس الوزراء. وبذلك انتهى عهد القيادة الجماعية التي تمت الإشادة بها، بناء على التقاليد اللينينية، في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.
محدودية سياسة خروتشوف ونزعتها "الإرادوية"
لم تفقد الصناعة الثقيلة في عهد خروتشوف المكانة المتميزة التي احتلتها في إطار الاقتصاد السوفييتي، إذ تعاظم ما بين 1953 و 1964 بنسب كبيرة إنتاج الفولاذ واستخراج الفحم والنفط. ومع ذلك، سعى خروتشوف إلى تحقيق تنمية أكثر توازناً وأكثر انفتاحاً على الابتكارات التقنية، كما تمت زيادة الاستثمارات الموظفة في الصناعات الكيميائية، وهو ما سمح بتنوع أكبر لقطاع مواد الاستهلاك، بحيث أصبحت المواد البلاستيكية والمواد المصنوعة من النايلون أقل ندرة.
وشهدت الحياة اليومية للمواطن السوفييتي تحسناً ملحوظاً. فبفضل برنامج طموح لبناء العقارات، ازداد عدد المساكن بنسبة 80 في المئة ما بين 1955 و 1964، علماً بأن هذه الزيادة لم تحل أزمة السكن العويصة. وتقرر رفع أسعار المواد التي تبتاعها الدولة من المزارع التعاونية (الكولخوزات)، ما ساعد على زيادة إنتاج الفلاحين التعاونيين ورفع مستوى إنتاجيتهم. كما حصل تحسن على استهلاك الحبوب والخضار والفواكه.
بيد أن سياسة خروتشوف الاقتصادية انطوت على نزعة إرادوية. ففي خطاب ألقاه أمام اجتماع لمسؤولي الكولخوزات في 22 أيار 1957، أطلق خروتشوف عبارة باتت شهيرة وهي: "سنلحق بالولايات المتحدة الأميركية ونتجاوزها". وعلى الرغم من أن حديثه عن التنافس مع الولايات المتحدة والتفوق عليها كان يدور آنذاك حول إنتاج اللحوم ومنتجات الحليب، فإن خطابه آذن بتبلور سياسة لا تراعي الواقع وحقائقه. فالأهداف غير القابلة للتحقيق التي طرحها كانت تعبيراً عن توجه طموح لديه يرمي إلى تحقيق نسب نمو عالية للإنتاج والاستهلاك على السواء، تمهد الطريق أمام قيام "مجتمع الوفرة"، أي "المجتمع الشيوعي"، وهو ما كان ينطوي على مشكلات كبيرة ليس على صعيد الاقتصاد فحسب، وإنما أيضاً على صعيد العلاقات الاجتماعية.
وكانت حملة استصلاح الأراضي البكر مثالاً على هذه السياسة الإرادوية. فما بين عامَي 1954 و 1957، قام عشرات الآلاف من المتطوعين وأعضاء الشبيبة الشيوعية باستصلاح 37 مليون هيكتار من الأراضي البكر. وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاح لدى انطلاق هذه الحملة، فإن التركيز على إنتاج محصول واحد، هو محصول القمح، في إطار مزارع دولة (سوفخوزات) ضخمة أدّى إلى حتات سريع للأرض وإلى إنخفاض مردودها. وقد تفاقم هذا الوضع في سنة 1963 عندما ضرب جفاف شديد أراضي الاتحاد السوفييتي. وكان خروتشوف قد راهن في سنة 1955 على الذرة بصفتها منتوجاً قادراً على حل مشكلة الأعلاف في البلاد. وبعد عامين، كان 18 مليون هيكتار من الأراضي مزروعاً بالذرة في مناطق لم تكن صالحة لإنتاج هذا المنتوج. وفي سنة 1959، تعهد الأمين الأول لمنظمة الحزب الشيوعي في منطقة "ريازان" بزيادة إنتاج اللحوم ثلاثة أضعاف خلال سنة، وبغية تحقيق تعهده هذا قام بالقضاء على أعداد كبيرة من رؤوس الماشية.
وقد بالغ خروتشوف في تقدير إمكانيات تحديث القطاع الزراعي واعتقد أن من الممكن الانتقال إلى مرحلة "الشيوعية الريفية" من خلال تجميع الكولخوزات وتطوير السوفخوزات. بيد أن هذا التوجه المركزي تسبب في مطلع الستينيات في انخفاض مستوى الإنتاجية وندرة بعض البضائع في الأسواق وارتفاع أسعار منتجات الحليب واللحوم في مخازن الدولة، كما تسبب في اضطرار الحكومة إلى استيراد كميات كبيرة من الحبوب في سنة 1963 بقيمة مليار دولار، تجنباً لحدوث مجاعة في البلاد.