مدارات

عن واقع البنى التحتية الثقافية والاجتماعية في بغداد / مفيد الجزائري *

يسهم الواقع المتردي للبني التحتية الثقافية والاجتماعية المختلفة في مدينة بغداد، بنصيب ملحوظ في تشكيل المشهد الكئيب والمحبط لحياتها المعاصرة. ويتجلى هذا الواقع بنحو خاص في الحال الراهن، الفقير، للمرافق الثقافية من دور سينما ومسارح وقاعات عرض تشكيلي ومتاحف..الخ، وللنوادي الاجتماعية والمقاهي الحديثة والكافيتريات وغيرها.
فدور السينما الـتي كانت تعمل حتى نيسان 2003، وعددها 15 دارا او يزيد، لم يبق منها يعمل بهذه الصفة سوى اثنتين او ثلاث، يقبل عليها الجمهور بشكل منتظم احيانا ومتقطع احيانا اخرى. لكن حتى هذه لا تقتصر عروضها على الاشرطة السينمائية، بل كثيرا ما تدفعها الحاجة الى تقديم اعمال مسرحية تجارية (معدومة القيمة الفنية)، يكون الاقبال عليها اكبر مما على الافلام.
والمسارح العشرة ظلت اربعة منها فقط مفتوحة. لكنها (وبضمنها المسرح الوطني) لا تقدم عروضا مسرحية الا موسميا او في مواعيد غير منتظمة ومتباعدة .
وقاعات العرض التشكيلي كان عددها اربع عشرة قاعة، اما اليوم فنصفها مغلق والنصف الآخر لا يعرض منه بانتظام نسبي سوى قاعتين او ثلاث، فيما تستعد اكثرها انتظاما وشعبية (قاعة اكد في شارع ابو نؤاس) لاغلاق ابوابها (إن لم تكن اغلقتها فعلا) بسبب العجز عن تأمين الزيادة الكبيرة في بدل الايجار.
والمتاحف الستة في المدينة لا يزال معظمها (خاصة "المتحف العراقي" المعروف عالميا) مغلقا.
كذلك المكتبات العامة (وهي تتبع رسميا وزارة البلديات، لكنها تدار واقعا من قبل الحكومة المحلية في بغداد) والتي يزيد عددها على عشرين مكتبة. فحسب معلومات لم استطع التأكد من صحتها، لا يفتح ابوابه منها اليوم سوى مكتبتين او ثلاث. وهي تضاف بالطبع الى المكتبة الوطنية (دار الكتب والوثائق) التابعة لوزارة الثقافة.
هذا التراجع العام الشديد تتعدد اسبابه وتتنوع.
فبالنسبة الى دور السينما يعود انحسار الاقبال عليها الى تسعينات القرن الماضي، حين استنزفت سياسات النظام السابق والعقوبات الدولية اقتصاد البلاد تماما، وافقرت الناس حتى اصبح شراء تذاكر السينما بالنسبة اليهم ترفا بعيد المنال. وتعزز التراجع منذ اواسط العقد الماضي، بفعل اشتداد النشاط الارهابي والعنف الطائفي، وما ادى اليه ذلك من اجبار الناس على العودة الى بيوتهم مبكرا بعد انتهاء العمل اليومي. وإزاء ذلك، وبسبب عدم حصول اصحاب دور السينما على اي دعم من الدولة او من اي مصدر آخر، لم يبق لهم سوى تكييف فضاءات قاعاتهم ?تلبية احتياجات اخرى، وصاروا في الغالب يؤجرونها للتجار كمستودعات للبضائع.
ولسبب مشابه عمليا يبقى اكثر المسارح مغلقا، وقليلها المفتوح يعمل جزئيا. صحيح ان المسرحيين كثيرون وفرقهم عديدة، لكن حاجتهم الماسة الى التمويل ومطالبتهم بالدعم، تلقيان التجاهل والاهمال من جانب مؤسسة الدولة المعنية – وزارة الثقافة. علما ان هذه الوزارة لم تنشيء في السنوات العشر الاخيرة مسرحا جديدا واحدا، بل ولم تعمّر ايّا من المسارح المخربة والمهملة منذ 2003، واهمها واكبرها مسرح الرشيد.
اما قاعات العروض التشكيلية، فهي تعجز عن الصمود في ظروف الكساد الذي يطبع سوق الاعمال الفنية. وهذا ناجم عن تدهور احوال زبائنها التقليديين من ابناء الطبقة الوسطى الميسورين، منذ ايام النظام السابق وسياساته المدمرة، واضطرار معظم من تبقى منهم للهجرة الى الخارج في السنوات الماضية. لكنه ناجم بنحو خاص عن تخلي الزبون الاهم، وهو مؤسسات الدولة المختلفة، عن تقليد شراء الاعمال الفنية بانتظام وبصورة هادفة.
وهذا العامل الاخير الذي يرتبط بالقصور في ادراك النخب الحاكمة والمؤسسات الرسمية لاهمية الثقافة بالنسبة للحياة المعاصرة وتقدم المجتمع، ولضرورة ضمان تمتع الانسان العراقي بالثقافة باعتباره حقا اساسيا من حقوقه، وما يتصل بهذا وذاك وينجم عنهما من اهمال للمرافق وعموم البنى التحتية الثقافية، وبالتالي تجاهل الحاجة الى رصد مخصصات في موازنات الدولة السنوية لادامتها وتحديثها واعمار ما يتطلب الاعمار وإنشاء المزيد، اقول: هذا العامل نفسه يكمن ايضا وراء الواقع غير السار للمكتبات العامة والمتاحف. مثلما يكمن خلف بقاء مشروع ?ار الاوبرا في بغداد مثلا، حتى اليوم، مجرد تصميم على الورق، رغم ما اطلق في السنوات الفائتة من وعود بقرب تنفيذه، وحتى ما اعلن في الامس القريب عن تخصيص الاموال لتنفيذه، ضمن ميزانية مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013، الذي سيغلق ابوابه في غضون ستة اسابيع من الآن.
على ان هناك، في ثنايا هذا كله، ما يلمّح الى ان الامر يتجاوز مجرد عدم الادراك للدور الاستثنائي للثقافة في حياة الانسان والمجتمع وتقدمهما. فالعديد من الدلائل يؤشر وجود موقف سلبي ثابت لدى اصحاب القرار عندنا تجاه الثقافة كثقافة. وهو ما يجد تعبيره في التكرار المتواتر للادعاء ان هذه الثقافة غريبة عنا، طارئة علينا، بل وتشكل تهديدا لنا، وان عندنا ثقافتنا الخاصة، النابعة من قيمنا وتقاليدنا وديننا. ما يعني ان هذه الاخيرة هي التي تحق رعايتها والانفاق عليها، وليس تلك الثقافة الغريبة الدخيلة!
ولعل في هذا ما يفسر غياب السياسة الواضحة الهادفة في ميدان البنى التحتية للثقافة والتنمية الثقافية، وعجز وزارة الثقافة ومؤسسات الدولة الاخرى المعنية، عن النهوض بدورها الضروري اليوم في هذا الميدان، وبقاء الواقع المريع للمرافق الثقافية في بغداد على حاله، ان لم يكن ازداد تدهورا.
كما انه يبيّن خلفيات الموقف المتزمت والمتشدد إزاء النوادي الاجتماعية، وتجاه المقاهي والمطاعم التي تنزع الى التجديد وتسعى لتلبية مطالب الاجيال الجديدة من الزبائن، الذين ينشأون ويتكونون في زمن الانترنت والهواتف الذكية والحاسبات اللوحية وما اليها. وهو الموقف الذي اتخذ في حالات عديدة اشكالا عنفية وحتى دموية، وصار قيدا شديدا على نشاط المرافق الاجتماعية المختلفة، وعلى نموها وتنوعها وانتشارها.
ان هذا الواقع بمجمله يشكل جزءا اساسيا من صورة مدينة بغداد المعاصرة غير السارة.
وان تجاوز هذا الواقع يتطلب – بين ما يتطلب – وعيا عميقا لدور الثقافة الذي لا معوض عنه في حياة المجتمع المعاصر وتقدمه وازدهاره، ومن ثم نظرة جديدة الى وظيفة مؤسسة الدولة الاولى المعنية بالقطاع الثقافي، وهي وزارة الثقافة. فهذه الوظيفة يجب ان تتمثل في صياغة رؤية ستراتيجية عامة للثقافة، تقوم على رعايتها بنحو شامل، وحفز النشاط والانتاج الثقافيين، وتطوير البنى التحتية الثقافية، وحفظ الموروث الثقافي. كما تتمثل في اعداد وتنفيذ خطط الاعمار والتنمية الثقافية، واعادة النظر في القاعدة التشريعية للوزارة والمؤسسات المرتبط? بها، وللثقافة بوجه عام وما يتعلق بها.
وبديهي ان تحقيق ذلك يفترض الافادة من الرؤية الجديدة المطلوبة، الموضوعية والواقعية، الى الثقافة، من طرف القيادات السياسية والبرلمان، وما تفرضه هذه الرؤية من عناية باختيار اصحاب القرار في الوزارة من جهة، وادخال زيادات كبيرة في تخصيصاتها المالية السنوية من جهة ثانية.
والى جانب ذلك، وبالنظر الى ان لبغداد مجلسها وحكومتها، فلا بد ان يكون لهاتين السلطتين المحليتين دور نشيط وفاعل في الامر كله، وعلى سائر الصعد. وهذا يستلزم تنسيقا وتعاونا وثيقين بينهما وبين وزارة الثقافة.
ـــــــــــــــــــــ
*ورقة قدمت الى "مؤتمر إعمار بغداد وحفظ تراثها" الذي عقد يومي 16 و17 تشرين الثاني الجاري في بغداد، بمبادرة من مجلس محافظتها والمركز العراقي للدراسات والبحوث المتخصصة.