مدارات

مع المسيرة الثورية ... الخطوات الاولى (2) / ألفريد سمعان

كادت الحرب العالمية الثانية أن تحرق الاخضر واليابس.. أن تحطم كل شيء.. المدن.. المعسكرات.. المعامل.. مدارس الأطفال ورياضهم.. ساحات اللهو واللعب.. الحدائق الخضراء والحقول الزاخرة بالسنابل والزهور.. فالطائرات تواصل غاراتها .. قوات هتلر تقتحم المدن وتسقط العواصم واحدة بعد أخرى.. وترتكب جرائم القتل والحرق ضد الملايين من المواطنين وتجند أبناء البلدان المحتلة في أوربا ليقاتلوا تحت القيادة الهتلرية.
تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يتحدث ببرود انكليزي.. أمريكا تقف أشبه بالمتفرج لأنها بعيدة عن النار والحطام والتدمير. ستالين ينادي أبناء الاشتراكية الأشاوس للدفاع عن الوطن ويصر على المقاومة البطولية.. لينينغراد محاصرة ولكنها ظلت أكثر من ثلاثة أعوام تقاتل.. ستالينغراد أصبحت كومة ركام من الصخور والدماء والأجساد ولكنها لم تستسلم.. كان الجنود السوفييت يقاتلون من غرفة الى أخرى.. ومن بيت الى بيت.. قوات هتلر تبشر بسقوط موسكو القريب.. والمقاتلون السوفيت يحملون قنابلهم وتتناثر أجسادهم مع حديد الدبابات الهتلرية التي كانت تنفجر تحت أجسادهم البطولية..
في البصرة.. كان في مواجهة بيتنا.. بيت تربطنا به صداقة عائلية انه بيت يوسف كركولي.. كانت زوجته الاولى قد توفيت وهي قريبة من عائلة (الرفيق فهد) وكان له منها ولد اسمه يعقوب يعمل معلما، وابنة اسمها جوزة، وله من زوجة ثانية فتاة اسمها ايفيلن وولد اسمه عمانوئيل وكان زميلا لي في متوسطة العشار وكنت كثير التردد على هذه الدار.. كان يعقوب شابا خجولا.. يقرأ ويحاول أن يقدم لي شيئا للقراءة.. استقبلت ما كان يعطيني بلهفة.. كانت كراريس ضد الفاشية... لمؤلفين او مترجمين منهم عزيز شريف.. عبد الرحيم شريف.. نورية شريف واسماء اخرى لا اتذكرها وكانت هي الطليعة الاولى لتأسيس حزب الشعب الذي ترأسه عزيز شريف واصدر جريدة الوطن التي اجيزت مع الحزب عام 1946 عندما جاء الوزير سعد صالح ولاول مرة اجاز عدة احزاب على رأسها الحزب الوطني الديمقراطي لكامل الجادرجي وحزب الاستقلال برئاسة مهدي كبه وحزب الاتحاد الوطني برئاسة عبد الفتاح ابراهيم وكان معه الجواهري وحزب الشعب لعزيز شريف ولم يحصل حزب التحرر الوطني على الاجازة لانهم اعتبروه (الوجه العلني) للحزب الشيوعي العراقي ولكنهم اجازوا جمعية باسم (عصبة مكافحة الصهيونية) بقيادة يوسف هارون زلخة وكان لها نشاط متواصل ضد الاستعمار البريطاني و مؤامراته في الاقطار العربية على نهج معاهدة سايكس بيكو التي وزعت البلدان العربية بين المستعمرين الانكليز والفرنسيين وخلقت القاعدة الاساسية لاسرائيل، ومشروع الهلال الخصيب وغيرها من المشاريع الدنسة.
وقد توطدت هذه العلاقة مع المعلم الهاديء.. الذي تبين لي فيما بعد أنه متاثر بالرفيق فهد (ولهذه الصلة حديث اخر) وكان يجيد دوره كمعلم لجذب تلاميذ الابتدائية ليربيهم حسب التعاليم والتقاليد والقيم التقدمية الانسانية.
في الصف الثاني المتوسط.. أطل علينا الاستاذ يوسف صالح من ابناء الحلة.. (استدراك:اتمنى ان اتعرف على من تبقى من عائلته) لأقدم لهم الشكر على ما قدمه لي هذا الاستاذ الناضج فكريا.. الانيق.. المهذب.. الشجاع.. كان يدرسنا التاريخ وقد اكمل الصف الثاني في دار المعلمين العالية ونظرا لحاجة وزارة المعارف للمدرسين فقد عينتهم اساتذة في المدارس المتوسطة لتغطية حاجة الملاك التدريسي اليهم.. دخل علينا في المحاضرة الاولى.. ولم يتحدث عن التاريخ بل عن (كيف يكوّن الانسان شخصيته؟) وكانت العبارات التي يطلقها بثقة واعتزاز ذات طابع تقدمي.. وختم المحاضرة الاولى باعطائنا عناوين الكتب المهمة انذاك وعلى رأسها (القرآن الكريم) وكتب طه حسين والمنفلوطي والعقاد وسلامة موسى.. والرصافي وحافظ ابراهيم.
وقد تأثرت به كثيرا.. وكان لحديثه اعمق الاثر بنفسي في ذلك اليوم وبعد صولي الى الدار.. طلبت من والدي بعض النقود واشتريت اول كتاب قصة "سارة" لعباس محمود العقاد وصنعت مكتبتي الاولى من بعض الاخشاب المتيسرة والمسامير ووضعت فيها قصة "سارة" واخذت بضعة كتب من والدي عن فيصل الاول والعراق.. ووضعت معها كتاب (المطالعة) المدرسي لأقنع نفسي بأن لي مكتبة.. وفعلا بدأت تكبر وتكبر واصبحت مشتركا في عدة مجلات وصحف منها الرسالة للزيات والثقافة لاحمد امين.. والمصور واخبار اليوم والصباح والكواكب وبدأت اراسل مجلة المعارف في مصر وكان يرأسها د.طه حسين بجبروته الادبي.