مدارات

فلاحون من ذاك الزمان .. حملوا شعلة الحزب وكتبوا بدمائهم مجد الشيوعيين / د. صالح ياسر

قبل 30 عاماً ، وعلى شرف الذكرى اليوبيلية الخمسين لتأسيس حزبنا الشيوعي العراقي، كتب عدد من الرفاق "للثقافة الجديدة" ذكرياتهم عن رفاق فلاحين وكوادر فلاحية، سبق لهم وان عملوا معهم فترات متفاوتة، وكانوا شهوداً على كفاحهم المجيد واستشهادهم وهم يقاتلون ببسالة أعداء شعبنا خلال سنوات مديدة من كفاح الحزب. وها أنا أعيد صياغة كتاباتهم بعرض مقاطع ضافية منها (مع بعض الإضافات)، وهي التي احتواها العدد 152 من "الثقافة الجديدة" الصادر في آذار 1984
منذ بداية تأسيسه، توجه حزبنا الشيوعي العراقي، الى الفلاحين وكان دوره الكفاحي في انتفاضاتهم ضد جور الإقطاع والسلطات الرجعية عميلة الاستعمار معروفا لأبناء وبنات شعبنا منذ منتصف الثلاثينات من القرن العشرين. ففي انتفاضة الفلاحين في سوق الشيوخ في بداية الثلاثينات من القرن العشرين كان حزب الشيوعيين العراقيين هناك، يشارك الفلاحين كفاحهم ويربط بينهم وبين كفاح شعبنا الوطني والديمقراطي العام، فمن أولى البيانات التي أصدرها الحزب كان بياناً موجها للفلاحين وهم يقاومون ببسالة الرجعية والإقطاع. ولاحقا توالت نضالات الفلاحين وتنامي دور الحزب، الذي كان يقود وينظم في أرجاء الريف العراقي، من كردستان الى البصرة، انتفاضات الفلاحين، وينظم صنوف الكادحين منهم ويزجهم في ساحات الكفاح. فكان الحزب يقود انتفاضات الفلاحين في العمارة، والناصرية، والبصرة، والفرات، وده زئي، وكل مناطق كردستان، كما قاد الانتفاضة الفلاحية في الفرات عشية ثورة 14 تموز 1958 والإعداد لها. وكان لسنوات الكفاح العديدة ثمارها، فخلال أشهر بعد انتصار ثورة 14 تموز انضم (300) ألف فلاح الى اتحاد الجمعيات الفلاحية التي تأسست.
وفي العيد اليوبيلي الثمانيني نحمل مشاعل الشهداء، نسير على دروبهم المضيئة ونتذكر كل أولئك الذين وهبوا حياتهم دفاعا عن الحزب، حزب العمال والفلاحين وشغيلة اليد والفكر ومن يهمهم بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد. إن الدماء التي أرخصوها هي خلاصة المحبة، والوعي، والإرادة الصادقة، والشجاعة وروح الاقتحام. لقد أراد أعداء حزبنا أن يجتثّوا نبتة عصيّة ليس من عادتها التنكر للتربة العزيزة ولا للهواء المضمخ بالعراق ولا للشمس الخالدة. ولكن هؤلاء اندحروا، فظل الحزب نخلة باسقة في سماء العراق، الجميل بأبنائه وبناته، وبشهدائنا الذين أودعوا رفاقهم ورفيقاتهم كلمة السر، وتعاهدوا على أن " الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق "، ومشوا إلى خلودهم عزّلاً إلاّ من إرادة النضال، من أجل " وطن حر وشعب سعيد ".
وفي معارك الخبز والحرية والكرامة والاستقلال سار المئات من الفلاحين الأبطال على ذات الطريق وحملوا ذات الراية ، واستشهدوا من أجل أن تظل مرفوعة.
في العيد الثمانيني نحمل مشاعل الشهداء، نطوف أرض النخيل، وحقول الذرة والحنطة، والاهوار، نخوض في لجّة الماضي والآتي، في قرانا التي تتطلع الى الفجر، ولم تعرف الكهرباء، استوطنتها الأمراض، وفتك فيها شيوخ الإقطاع، وسماسرة المدن، هناك في قرى منعزلة، لم يصلها سوى رصاص الشرطة، وحملات الحكومات التأديبية، حمل حزب الشيوعيين العراقيين رايته وطاف في قلوب الفلاحين الفقراء، علمهم أبجدية القراءة والنضال، ليقرأوا اضطهادهم العلني بنشرات سريّة تارة وعلنية تارة أخرى، بحسب طبيعة السلطات المتعاقبة، وقادهم وسط رياح الظلام، يحملون مشاعل الحزب وكلماته، ويناضلون من اجل فجرهم، فجر إخوانهم العمال وكل البسطاء والكادحين والفقراء.
في الطريق الطويل تركنا خلفنا منارات استشهدت وظلّت تضيء الدرب للآتين، للأطفال وهم ينمون ويصبحون شيوعيين خلسة، في غفلة من أعين الجلادين والعسس، وللشيوخ يشمخون بحزبهم وبشهدائهم، ولشباب ينشدون " هذوله احنة، بعدنه احنة .... زلم خشنين ".
في العيد نحمل راية الشهداء وبمشاعلهم نضيء قلوبنا، ودربنا. وفي العيد، أيضا، نوقد شعلة جنود الحزب، من الفلاحين، أولئك، الذين حملوا فقرهم وإيمانهم، وبذروا في الأرياف، على تخوم الصحراء، بين بساتين النخيل، وفي الوديان، من زاخو حتى البصرة، ألق حزبهم وكلماته وتعاليمه.
واذ نستذكر في هذا المقال أسماء بعض من الفلاحين الشيوعيين الذين استشهدوا دفاعا عن حزبهم وشعبهم، كما نستذكر كوادر شيوعية باسلة عملت فترات طويلة بين الفلاحين، فإنما نوقد مشاعل كل الشهداء من الفلاحين البواسل الذين قدموا حياتهم في ميدان الكفاح المتصل طيلة ثمانين عاما، من اجل تحقيق شعار حزبنا: " وطن حر وشعب سعيد".

كتبوا بدمائهم
مجد الشيوعيين العراقيين

قسمة شيخ حسين العادلة !

الشيخ حسين الشيخ مهدي الساعدي، رجل دين قادم من أعماق الجماهير الفلاحية، من عشيرة السواعد، انغمر في الكفاح مع حزب الشيوعيين العراقيين. ولأنه كان رجل دين، فقد احتفظ بلقب " الشيخ "، وحافظ في الوقت نفسه على ابرز صفات الشيوعي، الإيمان العميق بمبادئه، الهدوء والرزانة، والابتسامة الطافحة، والقرب من الكادحين الذين كان هو أحدهم، فعرف نصيب الكادحين حين اعتقل عام 1946. كان مثلا للثوري الذي يقرن العمل بالقول. اشتكى له الحمالون يوما، استغلال رئيسهم لهم إذ يأخذ حصة الأسد من أتعابهم اليومية. قال لهم: يأخذها منكم على أساس قسمة الحكومة ! إذا أردتم حقوقكم هناك قسمة أخرى. ما هي القسمة الأخرى؟ استفسر الحمالون. إنها قسمة شيخ حسين العادلة ! في ذلك اليوم تمرد الحمالون على رئيسهم واجبروه على الخضوع لقسمة " الشيخ " الشيوعي!.
اعتقل الشيخ حسين عدّة مرات، آخرها اثر انتفاضة تشرين المجيدة، وكان آنذاك عضو محلية العمارة، حُكم عليه بالسجن 3 سنوات، وكان واحدا من السجناء الشيوعيين الذين شاهدوا مجزرة سجن بغداد عام 1953، وحين نُقل رفاقه الى سجن بعقوبة، شارك في الإضراب الشهير عن الطعام الذي أعلنه الشيوعيون آنذاك. إتُخذ قرار من اللجنة المركزية المسؤولة من السجن بعدم مشاركة " الشيخ " بالإضراب بسبب وضعه الصحي السيئ. قال الشهيد لرفاقه: أعيدوا النظر بالقرار، أنا مع رفاقي حتى الموت. وفعلا استشهد الرفيق مضربا عن الطعام في أوائل آب 1953 عن عمر بلغ 41 عاما.

صويحب من يموت المنجل يداعي!

صاحب ملاّ خصاف، قادم من أعماق الجنوب، من العمارة، في ريف الكحلاء منطقة البو محمد، دخل السجن شيوعيا قبل ثورة 14 تموز 1958. انصرف بعد الثورة بكل حيوية الشيوعيين للعمل بين إخوانه الفلاحين في تكوين جمعياتهم. وكان شوكة في عيون الإقطاعيين والقوى المناهضة للثورة التي كانت تتحرك في الداخل، ومن الخارج وخصوصا في إيران الشاه وتركيا وغيرهما، تحشد قواتها لسحق الثورة الوليدة. كان الشهيد صاحب يطوف ريف العمارة يجمع آلاف التواقيع ضد تحركات هذه القوى، وأثناء هذه الحملة ترصد له قاتل مجرم وفتح عليه النار فاختلطت دماؤه وحبر تواقيع الفلاحين وفرّ المجرم الى أسياده في إيران الشاه آنذاك.
حملت جماهير العمارة الشهيد على الأكتاف، وكتب الشاعر الكبير مظفر النواب قصيدته الشهيرة :
ميّلن لا تنكَطن كحل فوكَ الدم
ميّلن وردة الخزامة تنكَط سم
جرح صويحب بعطابة ما يلتم
لا ... لا تفرح بدمنه لا يلكَطاعي .... صويحب من يموت المنجل يداعي
تركي الحاج صلال.. ثوري انسلخ عن طبقته واختار الشيوعية وما ندم !

الشهيد تركي الحاج صلاّل ينحدر من ريف قضاء النعمانية/محافظة واسط ، ومنذ فترة مبكرة قبل ثورة 14 تموز كان الشهيد على صلة بحزبنا بعد أن " انسلخ " عن طبقته واختار الشيوعية. في انتفاضة الحي الباسلة في عام 1956 كان له دور مرموق في مساعدة الفلاحين المعتقلين. وبعد ثورة تموز وقبل صدور قانون تأسيس الجمعيات الفلاحية كان الشهيد تركي قد أسس أول جمعية فلاحية في ريف النعمانية رغم انه من عائلة إقطاعية معروفة (وكان أبوه من المساهمين في ثورة العشرين). وقام الشهيد بدوره في تحريض الفلاحين ضد الإقطاع بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي وطريقة تطبيقه. وقد أثار نشاط الشهيد تركي حقد القوى المتضررة من الثورة وأخذت تدبر المحاولات لاغتياله، حتى نجحت في رشوة أحد العملاء بمبالغ من المال قام باغتياله وهو نائم في إحدى القرى، حيث كان يقوم بمهمة كُلف بها من قبل الحزب.
كان الرفيق محبوبا من الفلاحين، عرف بشجاعته وبسالته في الكفاح ضد أعداء الفلاحين وأعداء شعبنا. وحين علم سكان المدينة باغتياله، خرج الآلاف من الفلاحين وشيعوا الشهيد رمزيا وهم يهتفون ضد القتلة.

جواد عطية: الشيوعي لا يصعب عليه شيء !

الشهيد جواد عطية من الكوادر الشيوعية التي عملت في الريف. في حزيران 1969 وصل الى مدينة (الحي ) محافظة واسط ليتسلم مهمته الحزبية الجديدة. كانت أولى الأسئلة التي وجهت إليه من رفاقه: هل سبق لك أن عملت بين الفلاحين؟ أجاب: عملت لفترة قليلة في تنظيمات ريف الديوانية. وهل تستطيع ركوب الفرس؟ أجاب: سوف أتعلم. وهل تجيد استخدام السلاح؟ قال: الشيوعي لا يصعب عليه شيء !.
كان الشهيد شابا يتقد حماسا ولهفة للعمل الحزبي. حين استلم مسؤولية منظمة حزبية في إحدى القرى، سأل الفلاحون ما الذي جاء هذا الرجل من اجله؟ حين ابلغوا بأنه مسؤول منظمة الحزب الجديد، قارنوا بين رفاق سابقين وبين الرفيق الجديد ولاحظوا أن الرفيق الجديد ضعيف جدأ، بحيث يصعب التصديق انه سيكون مسؤولا عن فلاحين ضخام الأجسام ! لكنه حين تحدث لهم في أول اجتماع عن سياسة الحزب بأسلوب شيق تهامس الفلاحون فيما بينهم استحساناً وقال أحدهم: صغارهم وكبارهم سواسية، أليسوا شيوعيين ؟!.
نال الشهيد جواد إعجاب الفلاحين بحماسته وسرعة إدراكه لأوضاعهم واستجابته الدقيقة لما يحيط به. ونتيجة لنشاطه وتفانيه أصبح عضواً في لجنة قضاء الحي ثم مسؤول منظمة الكوت ورشح لمحلية واسط، وخلال فترة قصيرة تعلم أساليب العمل بين الفلاحين، كما تعلم ركوب الخيل، واستخدام السلاح بدقة!.
كان الرفيق متزوجا وزوجته تعيش في المدينة فكان يزور عائلته مرّة كل شهر. وفي 24 آبار 1971 ذهب لزيارة عائلته، التي لم يصل إليها أبدا إذ وشى به أحد عملاء السلطة فتم اختطافه من طرف أجهزة الأمن حيث اعتقل في مدينة الكوت، وتعرض الى تعذيب بربري استشهد على أثره. وقد اعترف البعث العفلقي باستشهاده تحت التعذيب وحاول رشوة عائلته بمبلغ من المال لكن عائلة الشهيد رفضت ذلك بأباء. وما زال رفاق الشهيد جواد عطية يتذكرون شيوعيا باسلا استشهد وهو يدافع عن حزبه وشعبه ومُثُله الثورية.

كاظم الجاسم.. قائد فلاحي كبير ما زالت ذكراه تجوب قرى الفرات الأوسط !

وُلد الشهيد كاظم الجاسم في قرية " البوشناوة "، وكان فلاحا فقيرا تلقى أولى دروس الشيوعية وتعاليمها في قريته التي زارها الكثير من قادة حزبنا. في أواسط الأربعينات تعرف الشهيد الى المبادئ الشيوعية وبرز اسمه في بداية الخمسينات في وقت كان الصراع حادا بين الفقراء الفلاحين والإقطاع وأعوانهم. بدأ الشهيد يجوب قرى الفرات الأوسط لتهيئة انتفاضة فلاحية ضد جور الإقطاع وظلمه وفي تشكيل جمعيات فلاحية. واستطاع بنشاطه أن يكسب احترام وهيبة أسطوريتين في صفوف الفلاحين. وفي القرى التي يشقها الفرات المعطاء، كان الفلاحون يرددون في الأمسيات قصص أسطورية عن بطولة الشهيد وبسالته في الكفاح ضد أعداء الفلاحين وشعبنا.
بعد انتكاس ثورة الرابع عشر من تموز 1958 اختفى الشهيد في الريف، وبرز من جديد كمحرض وقائد للكفاح الفلاحي، وبعد انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 كان الشهيد ورفاقه يعملون بدأب على توفير البيوت الحزبية، واعادة التنظيمات الحزبية، وتدفق السلاح على الشيوعيين وأصدقائهم من الفلاحين، وكانت هجمات الفاشست على القرى تجابه بالنار. غادر الوطن خلال الفترة 1968 1969 الى موسكو للدراسة الحزبية، وحين عاد اعتُقل من قبل أجهزة الأمن البعثية وأرسل الى قصر النهاية الأسود أيام المجرم (ناظم كزار) واستشهد تحت التعذيب الوحشي بعد صمود بطولي بوجه جلاديه. لقد أراد جلادو شعبنا بقتلهم الرفيق كاظم الجاسم زرع الخوف والألم والضعف في نفوس الفلاحين الذين عرفوه وقادهم. لكن اسم الشهيد تحول الى أسطورة حتى بعد استشهاده تجوب طرقات قرى الفرات الأوسط وتشعل الغضب الثوري في قلوب الفلاحين.

مزهر هول رحل شهيدا ودفنت معه أعز الأسرار

يتذكر رفاق الشهيد مزهر هول (أبو كريم) التاريخ المجيد لهذا الرفيق في صفوف الفلاحين. في عام 1964 انتدبه الحزب للعمل في أرياف الحي. وقد عمل بدأب ونشاط في صفوف المنظمة الحزبية التي استلم مسؤوليتها، وكان محط احترام ومحبة الفلاحين لشجاعته وتفانيه وتفهمه لمشاكلهم. وتحت قيادته وبنشاط الشيوعيين، لم يجر تضميد جراح الحزب الناتجة عن جرائم انقلابيي شباط الأسود في عام 1963 وحسب، بل انتشرت خلايا الحزب في كل القرى والقصبات. وبسبب نشاطه المثابر وإنجازاته الحزبية في الريف اصبح الرفيق (أبو كريم) عضوا في لجنة التوجيه الفلاحي التابعة للمنطقة الجنوبية، وقاد منظمة سوق الشيوخ الحزبية، ثم اصبح عضوا في مكتب محلية محافظة ذي قار، وفيما بعد اصبح سكرتيرا للمحلية ذاتها. في عام 1976 اختطفه رجال الأمن العفالقة من أحد شوارع الناصرية، لكنه نجح في إفشال محاولتهم إخفاء عملية الاختطاف، إذ نادى بأعلى صوته، أنا مزهر هول (أبو كريم) اختطفني الأمن، اخبروا الحزب الشيوعي العراقي بذلك.
وقد تعرض الشهيد الى تعذيب شديد في مديرية أمن الناصرية، ومديرية أمن بغداد، وخرج من المعتقل مرفوع الرأس، يشمخ متحديا الجلادين. وبعد أن تحولت عمليات الاختطاف، والاعتقال، الى ممارسات يومية شاملة عام 1978، اختفى الرفيق مزهر، ليساهم بشجاعته وتفانيه وروحه الوثابة في تضميد الكثير من جراح الحزب.
في عام 1979 نجحت عصابات البعث العفلقي اعتقاله مجددا، وجرى نقله الى مديرية أمن بغداد، حيث تعرض لتعذيب بشع لا مثيل له واستشهد تحت التعذيب في أوائل آب 1979. لقد رحل الشهيد ودفنت معه أعز الأسرار التي كان يحملها في قلبه، استشهد تحت التعذيب ولم يفه بحرف واحد أمام الجلادين، الذين ذهبوا لاحقا هم ونظامهم ورئيسهم الى مزبلة التاريخ فيما عاد الحزب مرفوع الهامة.

عبد الرحمن صالح يغيض الأعداء فيقتلونه حرقا !

الشهيد عبد الرحمن صالح فلاح حقيقي عرفت كفاه الأرض المعطاء وفكرة المنشور الحزبي. من مؤسسي الحركة الفلاحية في محافظة السليمانية، واحد قادة الحركة الفلاحية في كردستان، سُجنَ اكثر من مرة في العهد الملكي وعذب بوحشية.
عرف الشهيد بتواضعه وحبه للتعليم وطيبته المتناهية كما يذكره رفاقه الذين عمل وسجن معهم، كما انه مناضل شهم وجريء حظي باحترام وحب الناس في محافظته وأماكن نشاطه الحزبي مما عرضه لحقد الاقطاع واسياده فاعتُقل وعُذب وشرد عدّة مرات.
لعب الشهيد عبد الرحمن صالح دورا كبيرا في تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، وساهم في نشر الوعي الثوري بين الفلاحين مما ألّب عليه زمر الإقطاعيين والحاقدين على الثورة الوليدة حتى ارتكبوا جريمتهم النكراء بحق هذا المناضل الشجاع بعد أن صبّوا عليه صفيحتي نفط وأشعلوا فيه النار، وهو العريس الذي لم يمض على زواجه سوى يومين فقط.

أبو محيسن.. قائد سقط شهيدا وهو يقاتل

يتذكر رفاق الشهيد صالح الحاج أحمد العبيدي (أبو محيسن) في عام 1961، حيث دخل الى زنزانة في سجن الموصل، في أحد أيام تموز شاب طويل القامة يرتدي ثوباً أبيض لطخته الدماء ببقع كبيرة، استقبله الرفاق بحرارة. ودون أن يلتقط أنفاسه قال لهم: أنا اعمل في معمل السكر في الموصل وقد اعتقلني الأمن لاتهامي بالشيوعية وقد تعرضت الى التعذيب الشديد على يد معاون الأمن (عز الدين لافي). حكم على الرفيق بالسجن ثلاثة أعوام ونقل الى سجن الكوت، وكان مسؤول المنظمة الحزبية في السجن آنذاك الرفيق الشهيد محمد الخضري. وفي يوم 8 شباط الأسود قام السجناء الشيوعيون بقيادة الشهيدين الخضري والعبيدي بكسر أبواب السجن وحرروا السجناء كافة، وكانت منظمة الكوت قد هيأت مستلزمات إخفاء الرفاق، وأرسلت عددا منهم الى كردستان وجرى توزيع البعض على الأرياف، ولم يكن الشهيد صالح بين الرفاق الذي جرى توزيعهم.
بعد انقلاب 18 تشرين/1963 الذي أنهى سلطة الفاشست، جاء أحد الفلاحين وأخبر المنظمة الحزبية بوجود رفيق يعيش مع البدو الرحّل. أرسلت المنظمة الفلاح ومعه بيان للحزب، قيل للفلاح أن الشخص إذا كان شيوعيا فسوف يرافقك. عاد الفلاح ومعه رسالة من الرفيق أثارت دهشة المنظمة، إذ اكتشفوا بعد مدة طويلة مكان اختفاء الشهيد. وكان خلال هذه الفترة قد عقد صلات متينة مع البدو الرحّل، وأصبح وكأنه واحد منهم، وهناك استطاع أيضا أن يبني ركائز للحزب ! وحين قرر الحزب ضرورة عودة الرفيق (أبو محيسن) من بين البدو، كان هؤلاء قد تعلقوا به بحيث وجدوا أن الاحتجاج من اجل بقائه معهم هو أنجع سبيل ! وبجهود ليست هينة جرى إقناعهم بأن الرفيق سوف يزورهم كل شهر مرّة واحدة على الأقل، وافقوا على رحيله، وقال الرجل الذي كان الرفيق يسكن في بيته (إن هذا أخي، خذوه، ولكن إذا صار عليه أي شيء أنتم المسؤولون).
عمل الرفيق في عدّة منظمات في ريف الحي وقلعة سكر وفي ريف العمارة وكان مثالا للمنظم الجيد ومحبوبا من رفاقه والجماهير ويمتاز بنكران الذات، ولكل صفاته الشيوعية، أصبح عضواً في محلية واسط ثم سكرتيرها فيما بعد.
في أيلول 1971 كان الرفيق صالح مع عدد من الرفاق في إحدى القرى التابعة لناحية قلعة شكر التابعة لمحافظة ذي قار. طوقتهم أعداد كبيرة من الشرطة جاءت من الكوت والناصرية، قاوم الرفاق الشرطة بالرصاص فسقط الشهيد صالح والى جانبه ارتفعت مشاعل الشهداء (صاحب علي) سكرتير محلية الناصرية والرفاق الفلاحين ماهر ومناور ومشاور وهم ثلاثة اخوة كانوا رفاقنا في نفس القرية كما استشهد الرفيقان خيري جاهل ونجم حسني نويصر وهما فلاحان شابان أيضا، وتمكن الرفاق من قتل عدد من أفراد الشرطة. هذا وقام الفاشست بسحل جثة الرفيق صالح الى حدود قلعة سكر، وقد أثار هذا العمل الوحشي والجبان غضباً عارماً في صدور الجماهير الشعبية.