مدارات

الخطوات الاولى ... رحيل إلى بغداد.. الحلم (4) / الفريد سمعان

الايام الاخيرة من العام الدراسي عام 1946 تقترب والطلبة يستعدون لامتحانات البكالوريا، الجدار الفاصل بين البقاء في المرحلة الدراسية الراهنة او الانتقال الى موقع آخر يحلم به كل الطلبة وهو الانتقال للجامعة وتقرير المصير في اختصاص محدد قد يكون علميا او ادبيا.. مدرسا للتاريخ او للفيزياء.. مهندسا او حقوقيا.
ظهرت النتائج وبدأ كل طالب باختياراته وهو يواجه اقتراحات ونصائح من شتى الجهات.. الاهل ، الاصدقاء، النساء، الرجال، آراء متنوعة تطرح وكل يروج لما في ذهنه من افكار.
تهيأ الناجحون.. للرحيل الى بغداد بعد ان جمعوا الوثائق المطلوبة للتقديم الى الكلية التي يرغبون فيها وفي مخيلة كل واحد، وحسب ما كانت تتصوره احلامهم، ما سيفعلونه في العاصمة.. فقد كانوا يسمعون عنها ويشتاقون اليها ويتطلعون الى التجوال في شوارعها واحيائها.. والذهاب الى دور السينما ومشاهدة الاقارب الذين كانوا يستمعون لاخبارهم من الوالدين.. كانت مخيلة كل طالب تزدحم بالافكار وحنين الصدور الى التمنيات. وصل بنا القطار الى العاصمة.. كنت مع صديقي المرحوم جواد حمدان وقد سبقنا زميلنا العزيز طارق خليل.. واتجه كل منا الى ا?مكان الذي سوف يستقر فيه.. وكان بيت خالي ضمن منطقة باب الشيخ هدفي.. وتواعدنا على التلاقي في كلية الحقوق وحصل كل ما كنا نفكر من حيث تقديم طلبات القبول ومن ثم الانتقال في شتى الانحاء وعلى رأسها شارع الرشيد حيث تضج المحلات بالبضائع وتتعدد الصور.. جميلات بغداد بالعباءات وبدونها يذرعن الشارع ويملأن الافق بالابتسامات والمرح احيانا بوقار مصطنع لجلب الانتباه ولفت الانظار اليهن بخطى وئيدة ووجوه تثير اجمل المشاعر.. وتستفز الرغبات الجامحة.
كانت بغداد تغلي بالنشاط السياسي. والمقاهي تزدحم بالرواد.. والجدل تتصاعد اصواته.. صراع بين اتجاهات يسارية واخرى قومية. بعض الاماكن كانت مقرا لهؤلاء واخرى لسواهم. ابرز المقاهي الزهاوي، والبرلمان. مقابل جامع الحيدر خانة ومقهى حسن عجمي.. وشارع المتنبي يضج بالحركة.. يضم حواليه مجموعة من المطابع البدائية. الصغيرة في الازقة الضيقة والعمال يشتغلون في ظروف صحية سيئة حيث يتم التعامل مع الحروف المصنوعة من الرصاص وهي مادة تحتوي على السموم.. كما كانت الكهرباء محدودة والعمل شاقا في ساعات عمل غير محددة وحسب مزاج صاحب الم?بعة.. لكن الجميل كان هو امتلاك بعض العمال السابقين لمطابع ناقصة التجهيزات ويجري التعاون مع المحلات الاخرى. فهذا يمتلك مطبعة وهذا غرفة واسعة للحروف وسواه يمتلك جهاز القص.. وآخر لتجميع الكتب والملازم.. والاسلوب بدائي حيث تطوى الصفحات باليد لعدم توفر الاجهزة المكملة.. المهم هو ماكنة الطبع.. وكان ابرز المكائن من صنع جيكوسلوفاكيا والمانيا.. وكانت ماركة (هيدلبرك) هي السائدة والمسيطرة وكان هنالك ايضا مجلس الوزراء ووزارة المعارف والاعدادية المركزية التي تخرج منها الالاف من شخصيات بغداد المعروفة، كما كان هنالك مجلس?النواب وعلى الاطراف المحاكم الرئيسية وسوق الهرج وسوق السراي المعروف بسوق الكتب يضم اكبر المكتبات.. الحيدري، والسمؤال، والاعظمي، وسواها.. وكذلك مقرات الجرائد، الزمان للسمعاني والبلاد لرفائيل بطي والاخبار لملكون.. ومقابل مقهى البرلمان جريدة الرأي العام للجواهري في زقاق مغلق ننزل اليه بعدة درجات.. وكانت على الشارع العام مجلة الوادي فوق سوق الامانة. والحرية، اما اليقظة وهي جريدة قومية فقد كانت مقابل مقهى فتاح تقريبا قرب ساحة الرصافي. لقد كان شارع المتنبي وما يقع بجواره من ازقة مغلقة قبلة للثقافة العراقية وشاهد على النضال الفكري لكل الاتجاهات ومنطلقا تحتشد فيه كافة التيارات السياسية.
ولعل اهم دائرة كانت في ساحة الرصافي فوق الصيدلية الاسلامية دائرة المستوردة ولهذه الدائرة قصة فقد كانت هنالك حاجة اليها لتنظيم امور الاستيراد وكان نوري السعيد يعرف ان التجار يخضعون اكبر شخصية لنفوذهم بالرشوة التي يجيدون تقديمها لمن يلبي مطالبهم ويعزز جيوبهم.. كما يحدث الان. فاتصل بناظم الزهاوي، وهو محام كبير وعضو مؤسس لحزب الاتحاد الوطني لعبد الفتاح ابراهيم واصبح وزيرا للاقتصاد بعد ثورة 14 تموز المجيدة، وطلب منه ان يكون رئيسا لهذه الدائرة وان يجلب لها موظفين يساريين (لان هؤلاء لا يسرقون) ففعلها الزهاوي وكان من موظفيها الرفيق عامر عبد الله والشاعر السماوي وبدر شاكر السياب ومجموعة من اليساريين المعروفين آنذاك، كما كانت ساحة الرصافي ولم يكن فيها (تمثاله) الحالي منطلقا للتحشيد التظاهري وكان مقر جمعية العصبة في (خان) ساحة لنشاط الشيوعيين، وقرب هذا المكان كان مقر حزب التحرر الوطني (غير المجاز) واتفقنا نحن مجموعة من طلاب البصرة ان نزوره وقد فعلنا ذلك حيث كانت هنالك بضع غرف بسيطة الاثاث تضج بالحركة والنشاط، عشرات العمال والمثقفين يصعدون وينزلقون ويتناقشون بحماسة وحرارة دخلنا وتعرفنا على الرفاق حسين الشبيبي ومحمد حسين ابو العيس ومحمد علي الزرقا (وكان مدرسا سوريا) يعمل في احدى متوسطات بغداد وصادف انهم كانوا يجمعون (ثمن الكهرباء) من الزوار وقد تبرع كل منا (بدرهم) مساهمة في تسديد ورقة الكهرباء وقد كنا فرحين ونشعر بالاعتزاز لهذا اللقاء.. وهكذا بدأت علاقتي بحزب التحرر الوطني.. والى لقاء آخر.