مدارات

نرجس الصفار "أم مناضل".. انشودة الكفاح والتفاني / محمود الصفار

كانت في مقتبل العمر والشباب عندما لاحظت بأن هنالك نشاطاً غير مالوف من قبل شقيقها، عواد، الأصغر منها سناً، وتحديداً بعيد منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

حيث كان يخفي تلك المنشورات والمطبوعات السرية في أماكن معينة من البيت وبعيداً عن الأنظار، كما كانت تسمع منه بعض الأحاديث التي تشير الى أن هنالك حركة ثورية ضد الحكومة تتبنى قضايا الفقراء والمحرومين على الارض، وكان يتحدث اليها ايضا عن بلاد العمال والفلاحين وشعارهم المطرقة والمنجل، وقائد تلك البلاد جوزيف ستالين، كانت تلك الأحاديث تستهويها لتصغي اليها بشغف وموّدة، وانحازت لتلك الافكار الجديدة بالنسبة اليها، وأخذت تتعاطف معها ومع شقيقتها في نهجه هذا بقوة وإيمان بهذا السفر الخالد بدأت البواكير الاولى في حياة نرجس الصفار في التعرف على الافكار الثورية والثقافة التقدمية، ومن ذلك الحين أخذت تلك الافكار تستهويها وتترسخ لديها. وفي بداية الخمسينيات من القرن الماضي وبعد خروج الشهيد عواد من سجن الكوت، حيث كان محكوما لمدة سنتين، أخذت الراحلة تشارك وبفعالية في النشاطات التي كان الحزب ينهض بها في تلك الفترة، وأصبحت الحاضنة المباشر للحفاظ على كافة الوثائق والمطبوعات الحزبية السرية وقتذاك، بل اخذت تساهم وبنشاط في عمليات المراسلة بين الرفاق وخاصة في فترات الاختفاء عن أعين العدو، وفي تلك الفترة أجتاحت بعض مدن العراق سلسلة من الاضرابات والاعتصامات العمالية في بغداد وبالاخص في البصرة (اضرابات الميناء، النفط) وسرعان ما وجدت صداها ومساندتها من قبل الحزب ومنظماته المقدامة في العديد من المدن العراقية ومنها مدينة النجف التي كانت السبّاقة في النزول الى الميدان تضامناً واسنادا ودعماً لتلك الاضرابات والاعتصامات، وقد انطلقت في تلك الفترة العديد من التظاهرات الخاطفة رافعة شعارات الأدانة لتلك الأجراءات البربرية التي كانت تمارسها الطغمة العميلة الحاكمة آنذاك ضد المضربين والمعتصمين السلميين الذين كانوا يطالبون بأبسط حقوقهم العمالية. أن تلك التظاهرات التي كانت تنطلق في مدينة النجف وبعض مدن الفرات الاوسط، أخذت طابعا خاصا لخصوصية تلك المدن كونها مدن ليست بالكبيرة في ذلك الحين، ومعنى ذلك بأن أي تحرك او نشاط جماهيري علني سوف يرصد وببساطة من قبل السلطة وجلاوزة الأمن السري الذين كان يطلق عليهم ابناء الشعب بالجواسيس، بالاضافة الى ذلك فأن النشطاء من الشيوعيين وأصدقائهم معروفون لدى عامة الناس تقريبا بسبب نشاطهم المتواصل والمستمر بين الجماهير، وتفاديا لتشخيصهم وتعرضهم للاعتقال وتلفيق الاتهامات ضدهم اصبح الاتجاه والخيار التكتيكي لدى منظمة الحزب في النجف ان تنطلق التظاهرات بأرتداء المتظاهرين وبالأخص القياديين المعروفين منهم ملابس مغايرة لملابسهم التقليدية لغرض اخفاء شخصياتهم تحسبا لتشخيصهم من قبل السلطة وأذنابها من الجواسيس. ولتنفيذ هذه الممارسة والوسيلة على أرض الواقع، كان لابد من آلية مناسبة لذلك من الطبيعي وابتداء كانت ستقفز الى الذهن آليتان للتنفيذ، أولهما ان يكون المتظاهر متنكرا لحظة خروجه من البيت، وهذا غير ممكن لأنه سرعان ما سيكشف من قبل الجيران ومن الوهلة الأولى، والآلية الثانية هي خروجه من البيت بزيه التقليدي وحاملا معه الملابس المطلوبة لارتدائها وهو في الطريق الى التظاهرة، وهذا غير ممكن ايضا لان ذلك سيجلب أنتباه المارة من الناس وسيعرضه ذلك الى مخاطر لا تحمد عقباها. اذن ما هو الحل الأمثل؟
الحل يكمن بتوفير حاضنة أخرى ودعم لوجستي لذلك. هنا أنبرت وتطوّعت الراحلة نرجس (أم فاضل) للقيام بهذه المهمة وأستعدادها لتقديم هذا الدعم اللوجستي. كان الشهيد عواد يخرج الى التظاهرة بزيه التقليدي وهي ترافقه وتسير بمقربة منه حاملة معها العقال والكوفية (اليشماغ) والعبارة، وعند التوغل في الازقة القديمة للمدينة والمؤدية الى دكان التظاهرة تبدأ مناولته بالملابس التي تحملها قطعة تلو قطعة وبفاصل زمني قصير وبعد التأكد من عدم وجود مارة في تلك الازقة، وما ان يصلا الى مكان التظاهرة تكون قد استكملت المهمة وقد ناولته آخر قطعة من تلك الملابس. وبهذا الصدد لابد من استذكار موقف طريف ومؤلم في آن واحد كان قد حدث لها بالتزامن مع اللحظة الاولى لانطلاق التظاهرة ولكونها قريبة جدا من الشهيد عواد والذي كان المكلف باطلاق الهتاف الاول لأنطلاق التظاهرة، واذا بقبضة يده تصطدم بقوة بوجهه وبسبب ذلك القرب.
لقد وظفت الراحلة جل أمكاناتها وحتى الفنية منها لخدمة الحزب وقضيته المقدسة، حتى أنها طرزت بأناملها وعلى ماكنة الخياطة شعارات الحزب الذي كان يرفعها بتظاهراته. لا زلت أتذكر وكنت من العمر عشر سنوات، وتحديداً بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وانا في سطح الدار وفي ساعة متاخرة من الليل سمعت صوتاً مدوياً ناجماً عن تشغيل شيء ما ا. أطلت برأسي الى اسفل الدار لمعرفة مصدر ذلك الصوت وما جرى، واذا بي أرى الراحلة نرجس جالسة خلف ماكنة الخياطة المنزلية وتقوم بعملية تطريز ما. وعندما نزلت الى الاسفل وأقتربت منها، أتضح لي بأنها تقوم بتطوير يافطة سوداء وبعبارات مطرزة بخيوط بيضاء اللون، وكان مضمون تلك العبارات هو التضامن مع عمال الميناء في البصرة في اضرابهم ومواساة للضحايا. ويبدو ان ذلك كان تكليفاً لها من الحزب لغرض تهيئة تلك اللافتة لرفعها في التظاهرة التي ستنطلق في اليوم التالي من تلك الليلة، وتم بالفعل رفعها في التظاهرة التي نظمها الحزب في اليوم التالي.
هكذا كانت الراحلة تقوم بمهامها الموكولة اليها بكل دقة وانضباط وبدرجة عالية من المسؤولية التي تتحلى بها. لقد تميزت الراحلة بنكران الذات والاستعداد للتضحية في اعز ما تملك وكانت سخية في كل شيء والى ابعد الحدود أذا تطلبت ذلك مصلحة الحزب وسلامته، وفي مواقف نضالية عديدة كانت تعطي الأولوية للمهام الحزبية التي كانت تكلف بها حتى على حساب فراق اطفالها، فكم من الايام والأشهر والسنين كانت بعيدة عنهم، فهي من سجن الى سجن ومن احتجاز الى آخر، اضافة للافتراق القسري الذي يتطلبه انجاز المهام الحزبية التي كانت تكلف بها، أن انغمارها في العمل السري وخصوصية ذلك العمل، وظروف الأختفاء القاسية ومتطلبات النضال، كل ذلك أدى الى عدم أمكانية أدخال أطفالها الشهيد فاضل والراحل نظمي الى المدرسة عندما كانا صغارا أسوة باقرانهما من الأطفال، لقد حرما من الدراسة المبكرة وهي أبسط حقوق الطفولة، ولم يتمكنا من الدخول الى المدرسة إلا بعد ثورة 14 تموز عام 1958، وهما قد تجاوزا سني الدراسة لسنوات عديدة بالمقارنة مع اقرانهما.
لقد عاش الشهيد فاضل والراحل نظمي حياة يلفها الحرمان والآلام والمعاناة، ولم يتمتعا بطفولة هانئة وسعيدة كسائر الاطفال الآخرين. كانا يعاملان كبارا وليس صغارا، وكانا يتصرفان كالكبار، ويتلقيان التوجيهات من قبل الرفاق القياديين المحيطين بهما بعقل مفتوح وتفهم رغم صغرهما، أن الظروف والبيئة التي نشئا فيهما وعاشاها ظروف العمل السري والاختفاء ومساهمتهما في طباعة نشرات الحزب، جعلتهما يتصرفان ويفكران بأكبر من اعمارهما، لقد صقلتهما تلك الظروف القاسية، بحيث اصبح بالامكان الاعتماد عليهما في كيفية صيانة اسرار الحزب ورفاقه، الى الحد الذي جرت فيه تسميتهما باسماء أخرى غير اسمائهما (اسماء مستعارة) وهما صغيران. فالشهيد فاضل كان يكنى باسم عادل والراحل نضال باسم نظمي (كان الأسم نظمي هو الأسم المتعارف عليه في الحياة اليومية ولغاية رحيله، غير ان اسمه الحقيقي هو نضال وليس نظمي).
لقد حرما حتى من اللعب مع الاطفال خارج البيت لان ذلك ربما سيجلب مخاطر على سرية البيت، وكانا يتفهمان ويتقبلان ذلك عن وعي وطيبة خاطر. لقد طُبعا في كيفية الاندماج والتعامل مع الظروف الطارئة والخطيرة وهي كثيرة، وتعلما كيف يتصرفان عند المواقف الطارئة.
ان هذا التدريب النضالي والتربية الثورية وحب الحزب الذي تشرّبا به، قد أثمرت وأتت أُكلها عند وقوعهما في قبضة العدو بعد ردة شباط السوداء واعتقالهما في قصر النهاية، سيء الصيت، فقد صمدا صمودا بطوليا ومشرفاً وصانا الأمانة.
فالشهيد فاضل تعرّض الى تعذيب همجي ووحشي على ايدي عتاة المجرمين في قصر النهاية حتى الاستشهاد، ولم يدلهم على مكان الرفيق الشهيد جمال الحيدري وهو يعرف حق المعرّفة مكان تواجده، والعدو يعرف ذلك أيضا، اضافة الى عدم البوح وصيانة الأسرار والأماكن الخطيرة والهامة الأخرى التي كان يعرفها ومن ضمنها البيت الذي يختبئ به الرفيق رضا رادمنشي سكرتير حزب تودة الإيراني والذي كان متواجدا في بغداد عند حدوث انقلاب 8 شباط الأسود.
وعند اندلاع انتفاضة تشرين 1952 الباسلة والتي عمت بغداد وسائر المدن العراقية الأخرى، كانت للراحلة نرجس مساهمة كبيرة فيها، حيث كانت لمدينة النجف الرّيادة فيها من حيث الاتساع والاستمرارية، وبعيد انتهاء الانتفاضة واعلان الأحكام العرفية، واصلت نضالها في صفوف الحزب بالرغم من الظروف الصعبة وأجواء القمع والملاحقات التي سادت المدينة وقتذاك، حيث اضطر خيرة المناضلين الى الأختفاء واللجوء الى العمل السري، وبتوجيه من الحزب غادر البعض الى بغداد ومنهم الشهيد عواد (والذي كان قد صدر بحقه حكم غيابي من قبل المجلس العرفي العسكري وعن طريق الراديو) لغرض مواصلة النضال وفي أجواء أكثر ملائمة لخدمة الحزب وقضيته. في تلك الأجواء وفي خضم تلك الظروف والانعطافات لم تتخل الراحلة نرجس عن اللحاق بأخيها الشهيد عواد للعمل معه واقتسامهما قساوة الظروف ومواصلة العمل لخدمة قضايا شعبنا الغيور، وبعد القاء القبض على الشهيد عواد لم تنقطع عن زيارته في السجن وايصال كافة الأدبيات والتوجيهات والرسائل الحزبية وبشتى الوسائل والطرق المألوفة وغير المألوفة الى سجن السياسيين، كما كانت تقوم بايصالها الى المحافظات الأخرى خارج بغداد.
وفي نهاية عام 1955 تعرضت للاعتقال من قبل مفارز الأمن في احدى محطات سكك الحديد في بغداد عندما كانت تقوم بمهمة نقل ادبيات ومطبوعات حزبية من بغداد الى كردستان، وقد تعرضت من جراء ذلك الى تعذيب همجي ووحشي من قبل جلاوزة المقبور بهجت العطية في زنازين التحقيقات الجنائية سيئة الصيت، وقد صانت اسرار الحزب وسلامة رفاقه، حيث حكم عليها بالسجن ومراقبة الشرطة، وعند خروجها من السجن واصلت النضال بهمة أكبر وبلا جزع او ملل، وكانت تكابد وتعاني كثيرا عند ذهابها يومياً صباحاً ومساءً.. الى مركز شرطة السراي للتوقيع لاثبات وجودها وهي ملزمة بذلك كونها محكومة لمدة سنة تحت مراقبة الشرطة وان لا تخرج خارج حدود العاصمة. ان معاناتها لا تنحصر فقط بالتعب النفسي الذي كانت تعاني منه من جراء تلك المراجعة، بل ان المعاناة كانت تكمن أيضاً في كيفية الافلات من مراقبة عناصر الأمن عند رجوعها الى البيت، وهو بيت حزبي يرتاده قادة الحزب، وكانت عند عودتها بعد التوقيع في مركز الشرطة تسلك طرقا عديدة وملتوية للافلات من احتمالية متابعتها من قبل جلاوزة الأمن لغرض سلامة البيت، كما أنها كانت تعاني من امراض خطيرة ومزمنة، لقد كانت مهددة بالاحتجاز في كل مرة تراجع فيها مركز الشرطة للتوقيع وبحجج شتى، وقد حصل ذلك فعلا ولأكثر من مرة جرى احتجازها وإيداعها السجن لدواعٍ أمنية مختلفة، في احداها كانت لمناسبة زيارة ملك السعودية الى العراق والمرة الأخرى تم أحتجازها في سجن النساء وبسبب الجو السياسي المضطرب آنذاك، حيث شهدت العاصمة بغداد سلسلة من الأضرابات الاحتجاجية من قبل اصحاب المتاجر والأسواق تضامناً مع الشعب الجزائري واستنكارا لعملية اختطاف ابرز القادة الجزائريين واعتقالهم. في هذه المرة طال احتجازها، حيث بدأت انتفاضة 1956 وهي لازالت محتجزة، واثناء احتجازها وصل الى سمعها نبأ استشهاد شقيقها عواد وبطريقة تراجيدية مؤلمة وموجعة، والوسيلة لسماعها الخبر كانت كالآتي: وقتذاك وصلت الى سجن النساء احدى المناضلات وبسبب مشاركتها في الانتفاضة، واخذت تلك المرأة الباسلة تسرد لنرجس أخبار الانتفاضة وعنفوانها واستشهاد أحد المناضلين فيها، وهي لا تعرف مسبقاً بأن المرأة المحتجزة التي تتحدث اليها هي شقيقة ذلك الشهيد الذي سقط في الانتفاضة، وعند استفسار الراحلة نرجس من المتحدثة اليها عن اسم الشهيد ذكرت لها اسمه عواد الصفار، هنا كانت الفاجعة والصدمة القاتلة للراحلة نرجس، نعم كانت صدمة ومأساة لا توصف، وهكذا هو قدر وطريق المناضلين الوعر والمعبد بالآلام والمآسي والتضحيات. بعد خروجها من الأحتجاز واصلت مشوارها النضالي وتحت مراقبة الشرطة وذهابها الى مركز السراي للتوقيع يوميا، وبعد انتهاء فترة حكم المراقبة واصلت النضال في صفوف الحزب وأعطت كل امكاناتها لخدمة قضية الحزب والشعب حتى بزوغ ثورة تموز المجيدة، سواء في مجال التنظيم او المراسلة ام في مجال مطبعة الحزب. وبعد ثورة تموز عملت نرجس على ترصين التنظيمات النسوية في الحزب كأحدى كوادر ذلك التنظيم بهمة ونشاط الى جانب رفيقاتها الأخريات.
بعد اندلاع ثورة تموز الوطنية التحررية ونجاحها، جن جنون الأستعمار وأذنابه في الداخل من النجاحات التي حققتها الثورة في شتى المجالات، فلم يهدأ لهم بال فأخذوا ومنذ اللحظات الاولى يحيكون الدسائس والمؤامرات لاسقاطها والاتيان بسلطة رجعية وعميلة، وقد نجحوا في الوصول الى السلطة وبقطار أمريكي وبأعتراف قادة الأنقلاب من البعثيين الفاشست. لقد تمكنوا من أغتيال الثورة في 8 شباط المشؤوم، فهبت على العراق رياح صفراء عاتية لتحرق الزرع والضرع وتبيد كل ما هو خير ونبيل، ومن الطبيعي والبديهي ان تكون من أول مهام وأهداف الانقلابيين الفاشست الأساسية هي تصفية وسحق الحركة الوطنية التقدمية العراقية ورأس رمحها الحزب الشيوعي ، وما بيان رقم (13) السيء الصيت إلا مثال صارخ على ذلك، لقد حول الفاشست الجدد العراق الى معتقل كبير، فصارت حتى الملاعب الرياضية ودور السينما والنوادي الى معتتقلات وزنازين، زجوا فيها خيرة ابناء الشعب العراقي من شيوعيين ووطنيين وديمقراطيين، مارسوا فيها أبشع أساليب التعذيب البربرية، وغدت مسالخ بشرية وبأشراف عتاة المجرمين. لقد شنت طغمة شباط الفاشية، هجمات واسعة وشنيعة من الاعتقالات شملت الآلاف من قادة وكوادر وأعضاء الحزب الشيوعي، وفي مقدمتهم القائد الأسطورة سكرتير الحزب الرفيق الشهيد سلام عادل، وجرت تصفيته بابشع الأساليب والطرق البربرية والتي أصبحت معروفة للقاصي والداني، فقد قلعوا عينيه، وهشموا عظامه وبتروا اطرافه، ومثلوا به حيا، حتى استشهد تحت وطأة تلك الممارسات الفضيعة.وبعد اسبوعين من ذلك الأنقلاب الاسود، وقعت في قبضة العدو العشرات من البيوت الحزبية والتي كان يقطنها ابرز قادة الحزب وكوادره، وكانت أحدى تلك البيوت، البيت الذي يسكن فيه الشهيد جمال الحيدري وزوجته الراحلة نرجس، غير ان الشهيد جمال لم يكن متواجداً في البيت لحظة المداهمة، كما ان أبنها البكر فاضل لم يكن متواجداً هو الآخر، وقد تم القاء القبض عليه لاحقاً واثناء قيامه باحدى المهام الحزبية وخاصة المراسلة فيها.
تم اعتقال جميع المتواجدين في البيت وهم كل من نرجس وأبنها الأصغر نظمي وأبنتها الطفلة ليلى والرفيق الشهيد مهيب الحيدري شقيق الشهيد جمال الحيدري واقتيادهم جميعا الى قصر النهاية سيء الصيت، ونقلاً عن الآخرين فان الراحلة نرجس ولحظة شعورها بمداهمة البيت وتحت وابل من الرصاص والصرخات الهستيرية التي كانت تطلقها قطعان الحرس القومي المداهمة، قامت بحرق واتلاف جميع الوثائق الحزبية الهامة والخطيرة التي كانت بحوزتها والتي اوصى بها زوجها الشهيد جمال الحيدري بأن لا تقع تلك الوثائق في ايدي العدو. لقد نفذت الراحلة المهمة الموكلة اليها برباطة جأش وبارادة لا تلين وفي خضم ووسط تلك الاجواء العصيبة.
في قصر النهاية ذلك المسلخ البشري بدأت المعاناة والآلام والمآسي مع نرجس واطفالها، لقد تعرضت الى تعذيب جسدي وحشي وبربري من قبل غلاة المجرمين الساديين لم يتركوا وسيلة قذرة الا واستجدموها لقد علقوها من ساقيها بالسقف امام ابنها البكر فاضل رغم حملها وراحوا يضربون جسدها العاري بالكيبلات وهي تفكر ان تخفف عن ابنها هول ما يرى، قالت له "لا تهتم ابني فاضل، خليك مرفوع الرأس" كان همهم الوحيد التعرف على مكان زوجها الشهيد جمال الحيدري. لقد استشهد ابنها البكر فاضل تحت التعذيب الجسدي والوحشي على ايدي عتاة المجرمين والقتلة، كما تعرض ابنها الاصغر نظمي ذات الـ (14) ربيعا الى تعذيب مماثل رغم صغره. ان معاناة نرجس لم يقتصر على تعذيبها الجسدي والنفسي وتعذيب ابنائها الصغار وامامها فقط، فشقيقتها المناضلة رضية الصفار زوجة القائد الشيوعي علي الوتار كانت الى جانبها في معتقل قصر النهاية وتتعرض ايضا الى ابشع وسائل التعذيب الهمجي واللاانساني رغم تلك المعاناة والآلام والمآسي تمكنت الراحلة نرجس الخروج من تلك المحن مرفوعة الرأس ناصعة الجبين وصانت الامانة.
بعد سقوط الطغمة البعثية الفاشية في (18) تشرين الثاني سنة (63)، تشكلت في البلاد مجالس عسكرية لمحاكمة الموقوفين والموقوفات في السجون والمعتقلات، وبدورها ارسلت الراحلة للمثول امام احد تلك المجالس لغرض محاكمتها، وقد تم الحكم عليها بالسجن (4) سنوات مع مراقبة الشرطة.
واثناء المحاكمة وقفت الراحلة نرجس في قفص الاتهام وهي شامخة، وعندما سألها رئيس المجلس، هل انت شيوعية "فأجابت نعم انا شيوعية" وقد جرت في حينها اذاعة محاكمتها من اذاعة صوت الشعب العراقي والتي كانت تبث من خارج الوطن وقتذاك. لقد كان سير المحاكمة وأجاباتها الجريئة مبعث فخر واعتزاز لكل المناضلين، وتشبع الامل وهي تقف كالملاك خلف القضبان.
بعد خروجها من السجن واصلت العمل في صفوف الحزب رغم كونها كانت محكومة تحت مراقبة الشرطة، ولم تتخل عن اداء مهامها الحزبية لحظة واحدة بالرغم من مرضها الشديد وتدهور حالتها الصحية الى ابعد الحدود.
لقد حملت الراحلة اوسمة مشرفة على صدرها، فهي ام شهيد وشقيقة شهيد، وزوجة شهيد، واسلمت الروح وحب الحزب ينبض في عروقها، لقد كانت الراحلة نرجس في حياتها المليئة بالآلام والتضحيات والحرمان كشجرة الصحراء، تصارع الريح وتشرب الجفاف بانتظار المطر. ووفاءا لتلك المناضلة الجسورة، ولمناسبة ذكرى رحيلها الثالثة والعشرين وبالتزامن مع بدء احتفالات الحزب بذكرى تأسيسه الثمانين، تم تدوين هذا السفر النضالي الخالد للراحلة (ام فاضل) الرفيقة نرجس الصفار.
فسلام وألف سلام على جسدها الطاهر والراقد تحت الثرى.
انها ادت رسالتها بأمانة ونكران ذات، ومجدا لحزب الشيوعيين العراقيين، حزب كل الكادحين والمضطهدين، حزب الشهداء، حزب العمل والامل.