مدارات

ام الشيوعيين.. / منعم جابر

كنت فتى يافعا يوم حصل انقلاب شباط الدموي عام 1963 يومها خرج أخي الأكبر إلى شارع الكفاح ببغداد ثم انطلق إلى وزارة الدفاع للوقوف بوجه الانقلابيين. وبعده بساعة خرجت والدتي لتلتحق بالمقاومين للانقلاب!
وانتهت الأمور بمأساة سيطرة الفاشيين على السلطة واعتقل أخي الأكبر وتنقل بين اقبية ومعتقلات الانقلابيين في معسكر الرشيد والخيالة والنادي الاولمبي. وكانت والدتي تبحث عنه دون كلل أو ملل، وفي بعض الأحيان كنت ارافقها في تجوالها مما فتح عيني وقلبي على ذلك الفكر الإنساني الرائع. وقد وجدت والدتي ساعية ومجتهدة لا تتأثر لضغوط حرس النظام اللا قومي، مفتخرة بولدها ومعتزة بنفسها!
ودارت الايام وكبر الفتى وانضم إلى ذات القافلة الوطنية التي رعاها الشيوعيون. وكانت والدتي فخورة بهذا الانتماء وتشعر بالزهو بشيوعية ولدها حيث كانت تحثني وتشجعني تهيئ بيتها لاجتماعاتي ولقاءاتي وبمواقفها وحبها كنت ازداد التصاقاً بحزبي ومبادئي.
وضمن هجمات النظام وحججه الواهية وكذبه القى التنظيم العسكري القبض على مجموعة من الرياضيين ولاعبي كرة القدم عام 1975و 1976 وكنت احدهم. وبدأت مهمة والدتي تتجدد بملاحقتي إلى الأمن العامة ومعتقل الفضيلية وسجن أبو غريب دون تذمر أو لوم. وإذا لامني احد لهذا التوجه تقول له بقوة: اسكت هذا درب الرجال!
وكانت والدتي وهي تراجع المعتقلات والدوائر الأمنية تتعرض للاستفزاز من قبل البعض الذي يقول لها: حجية شلكم بالشيوعية؟ فتجيبه بفخر: هذا شرف.. قابل احنا بايكين.
وكثيراً ما كانت تسأل ضابط المعتقل: يمه إنتو ليش حابسين ولدنا؟ بايكين.. ناهبين.. متامرين! كان الضابط يقول لها: حجية أبنج وجماعته خرقوا ميثاق الجبهة وشكلوا تنظيم عسكري ممنوع! وكانت والدتي تقول لهم: يمه يا خروق.. يا جبهه.. هذولة سباع جبتوهم للجبهة عبالكم تبلعوهم ما كدرتوا عليهم.. حبستوهم!! هاي أولها وهاي تاليها!
واستمرت العلاقة بين والدتي العاشقة للحزب وبين أزلام الأمن سواء في أيام المواجهات ام أثناء عمليات التحري. فبعد أيام من اعتقالي استطعت أن انفي أي علاقة لي بالمجموعة العسكرية وهم "لاعبو السكك" ايضا ً أكدوا معرفتهم بي رياضيا، وليس لهم معي أية علاقة حزبية!
هنا ساومني ضابط التحقيق على التعاون لغرض اطلاق سراحي فرفضت المساومة، هددني. اغراني ولكني ابيت وتمسكت بموقفي فقال لي: ستندم، سوف تتذكرني وانت تصعد الى المشنقة! لكن ضابط التحقيق جدد المحاولات بطرق أخرى حيث عرف من المعلومات بان لي إبن عم يعمل رئيس ملاحظين في مديرية الأمن العام، فأتفق معه لأرساله إلى والدتي عسى أن تكون مفتاحا لموقفي الرافض! ذهب أبن عمي وقابل أمي وقال لها: حجية آني جاي من الدائرة.. لان ضابط التحقيق ابلغني أن أوصل إليك هذه الرسالة.. تره منعم اعترف وراح ينعدم.. والضابط دزني عليج وقال خلي تجي أمه وتقنعه بالتعاون حتى أنطلعه ونخلصه من الموت الخاطر أمه العجوز..!
هنا اعتدلت والدتي بجلستها وقالت: "يمه مهدي.. لعد منعم أعترف؟!" فأجابها: نعم. فأجابته الوالدة بثقة "يمه مدام اعترف يطبه مرض وخلي ينعدم.. ليش هو من اشتغل بالسياسة غشيم لو ما يعرف هذا الطريق وراه سجون ومطاردة واعدام.. لو عبالة لعب طوبة"!
وصلت رسالة أمي إلى ضابط التحقيق فارسل علي ذات مساء وسألني: "متكلي أمك شنو درجتها بالحزب الشيوعي" ؟! وفعلا كان رجل الأمن هذا قد عرف والدتي يوم قام بالتحري عند اعتقالي، فقد كانت إجابتها صارمة حين طلب منها الكتب والصحف العائدة لي حيث قالت له: نحن لا نملك أي شيء من هذا "لأن منعم لاعوب طوبه" وماعندة شغلة بكل شي"!
وفي الشهر الأول من عام 1981 أعتقل أخي الشهيد عمار وانقطعت اخباره وظلت أمي تسأل عنه وتكلفنا البحث لانها كبرت وأخذ منها المرض والشيخوخة الكثير. وكان البعض يجلس عندها ويلومنا لتوجهاتنا السياسية وعملنا ضد نظام صدام فكانت أمي ترفض اللوم وتردد قول الشاعرة الفراتية التي لامها أحدهم لعدم حزنها يوم استشهاد اولادها، حيث قال لها متسائلاً:
چا ما لوليتي وربيتي؟
فأجابته بشموخ وإباء
ربيت ولوليت الهذا .. ( تقصد ليوم الاستشهاد هذا)
كبرت أمي وانهكها المرض وكانت تؤكد بأن كل ما تعانيه سببه صدام ونظامه، وان عمار لن يعود حيا لان هذا النظام دموي وفاشي.
غادرت امي الحياة واعدم عمار لكني وعائلتي وحزبي سنظل نذكر تلك الام الطيبة التي كانت وستظل مدرسة للاحرار..