مدارات

مع المسيرة الثورية الخطوات الاولى .. الصف الخامس الأدبي (5) / ألفريد سمعان

كانت ثانوية البصرة.. وتسمى الان الاعدادية المركزية، تتميز وتحظى باهتمام خاص، لأنها الوحيدة التي تضم الصف الرابع والخامس الاعدادي، لذلك كان الطلبة يقصدونها من شتى الجهات.. من ابي الخصيب والزبير والقرنة والتنومة والمعقل. وكل ما يحيط بالبصرة من أقضية ونواح، بل وأكثر من ذلك حتى الناصرية، كانت ترسل طلبتها، وكانت تحتل موقعاً متميزاً خارج المدينة القديمة ولكنها لا تبعد كثيرا عن (سوق المغايز) وعلى بعد ثمانين مترا تقريبا من نهر العشار، ويحيط بها حي جديد يدعى العزيزية.. كانت معظم بيوته حديثة تسكنها عوائل قريبة من ال?ضارة والتحرر الاجتماعي والزيارات المتبادلة ولا تبعد إلا مسافة قصيرة عن مجمع سينما الوطني والرشيد وملهى استوعب معظم مغنيات وراقصات العراق اللواتي كانت تجذبهن المدينة؛ لانها تضم بين ظهرانيها مجاميع متنوعة من القوات البريطانية.
كان الصف الخامس الادبي متميزا في هذه الثانوية وهو الوحيد في هذه المدرسة ومن طلابه الاستاذ حسين مرزة الذي اصبح قاضيا مرموقا وما زال ممثلا لطائفة مثقفة تحتوي الدعوة الدينية ضمن اطار حضاري، وكان ملائما ايضا، وكان هنالك غسان الملاك، كان شابا جميلا واكثرنا اناقة.. هادئا خفيف الدم، والده أحتضن النشاط الفني، ويمتلك سينما الحمراء الصيفية والشتوية التي كانت تعرض بشكل خاص الافلام العربية الحديثة، وكان له عدة اشقاء، منهم صلاح وفاروق وكلهم من العناصر التي تبنت الخط الوطني رغم الانتماء الطبقي المختلف.. وكان هنالك طارق ?ليل- الانسان الطيب الوديع وزميلي في الصف، وفي فريق كرة القدم، وفاخر محمد فاخر وكان بطل رمي الثقل، يحب النكتة الهادئة ويرويها بثقة، والجميع يخاف منه لضخامة جسمه.. كما كان والده شخصية متميزة وكان أيضا مرتضى الحجاج شيوعياً وصاحب نكتة وله مواقف مشاكسة للاساتذة، الجميع يحبونه رغم انه لم يكن وديعاً وكان حميد المنديل.. وعائلة المنديل من اصل سعودي، وكانت عائلة ثرية ومشهورة وقد اصبح بعض ابنائها شخصيات مرموقة، وكان حميد ذكيا ولكنه لا يتابع الدروس بشكل جدي ويجلس في الرحلة بجانبي ويضيع الوقت بالنكات والحوار والتعليق?ت المتنوعة وكنت كاتم اسراره لانه يثق بي.. كما كان هنالك عبدالخالق القرناوي.. شاب جميل.. متزن.. يكتب الشعر ويحتفظ بمكانة خاصة بين الزملاء، إنتمى للحزب الشيوعي واحتل مركزا تنظيميا مرموقا في تنظيم الطلبة ومحلية البصرة فيما بعد وتعرض للسجن والاضطهاد ولكنه لم يتواصل مع الشعر إنما اهتم بثقافة علمية وادبية، وتعرض لنكسة كبيرة عندما خسر افراد عائلته في قصف لملجأ العامرية.
وكان معنا جواد حمدان ابن عم عبدالخالق وكانت تربطنا صداقة وطيدة في المدرسة.. وأوقات اللهو وحتى المساهمة في عاشوراء، وعلى ذكر ذلك.. تهيأت للخروج مع جواد لممارسة الطقوس التي تقام للاحتفال بسيد الشهداء الحسين.. وكنت ارتدي ملابس ثقيلة رسمية.. استغرب جواد من ذلك فقلت له أليست هي مناسبة دينية يجب ان نرتدي لها ما يناسبها من مهابة واحترام.. فأجاب: نعم ولكن بثياب عقلانية تتناسب مع حرارة البصرة وقسوتها ولم تتخلف عن ذلك حتى عندما جمعتنا بغداد طلابا في كلية الحقوق. كما كنا معا في طريق التنظيم والاهتمامات السياسية... ?التظاهرات، ومعنا ايضا محمد الفريح وهو من عائلة غنية انتماؤها سعودي وحامد السبتي، الفتى الجميل جدا يرغم اية فتاة مهما ترفعت على الوقوع في غرامه وكان والده ثريا واصبح صيدلانيا. وكان معنا خضر عباس الذي كان متفوقا في اللغة العربية ولكنه متخلف في استيعاب اوليات الحضارة وتخرج من كلية الحقوق وعمل في المحاماة.. كان الطابع الطبقي واضحا.. أولاد الأثرياء يرتدون أحلى واجمل الثياب وينفقون اثناء الفرصة.. مقابل مجموعة فقيرة.. معدمة وكانت الطبقة المتوسطة هي الغالبة.. وكنت واحدا منهم.. ولكن وهو أمر غريب كان صفا متعاونا ?الجميع يحبون بعضهم ونادرا ما كان تقع بينهم اية مشاكل.. واحتفظ حتى الان بصورة جماعية للاساتذة مع الطلاب وكنت جالسا على الارض احمل لوحة (الصف الخامس الأدبي) أتأملها احيانا واتذكر كل واحد منهم وكانت تربطني بهم صداقة حميمة ويبقون على الخطوط البيضاء لساحة كرة القدم يشجعونني عندما اقدم شيئا جيدا.. ويحزنون عندما اخفق ولا أتدبر امري مع الكرة ويناقشون ذلك معي في اليوم الثاني.. انهم أحباء لا يمكن نسيانهم وقد انضم عدد منهم الى الحزب الشيوعي واصبحوا اصدقاء له رغم تنوع الانتماء الطبقي.. وعذرا لمن لم اذكرهم.
في تلك الايام كانت هنالك بعثة سوفياتية تستلم المساعدات التي تقدمها الدول الغربية ثم تشحن الى ايران وتصل الى الاتحاد السوفياتي الذي كان يقاتل الفاشية بضراوة وكان للبعثة التي تضم بعض النساء دار سكن قرب الثانوية. ولم يشعر أ احد بأية كراهية او تحفظ منهم.. كما كان هنالك مكتب اعلامي انكليزي يوزع مجلة (العالم) التي كانت تنقل اخبار الحرب وانتصارات الحلفاء وتشيد بالقوات المقاتلة وقد تعرفنا من خلالها على القاعدة الانكليزية وعلى رأسهم (مونتكمري) الذي استطاع ان ينتصر على (رومل) القائد الالماني العظيم في شمال ا?ريقيا حيث سجل انتصارا ت ناجزة على الحلفاء من الجزائر حتى وصل الى حدود مصر ولكنه خسر المعركة في (العلمين) وهذي ضمن حدود مصر وكان خذلاناً رهيبا انسحبت على أثره القوات الالمانية والايطالية واصبحت في موقف حرج وتعرض للأسر عدد كبير من الجنود والضباط وقادتهم.. وقد جعل هذا هتلر يشعر بالخذلان واستدعاء رومل ومحاسبته وتخييره بأن ينتحر ويشيع باحترام من قبل القيادة الالمانية او يرفض الانتحار ويقدم للمحاكمة وتنهار كل البطولات التي قدمها في حرب شمال افريقيا، وكان يعرف صاحبه (هتلر) جيدا فانتحر في احدى غابات فرنسا لكي ل? يهان شرفه العسكري وتسقط مهابته عند شعبه. وبغض النظر عن الانتماءات الفاشية إلا ان قادة مثل رومل يظل لهم سجل عسكري رائع.
في تلك الفترة كان الحزب الشيوعي يوزع المناشير وينظم بعض العمال في المواقع التي كانوا يحتشدون فيها مثل الميناء والسكك الحديد.. وبعض المنشآت الصغيرة. وزرع افكاره في قلوب واذهان المثقفين، فكانت المنافسة واضحة بين الحزب الشيوعي وحزب الشعب وجماعة داوود الصائغ، وكان الرفيق فهد يزور البصرة ويتفقد الحركة الشيوعية لاسيما وأن شقيقه فرج ابو القهوة، كان شخصية تجارية مشهورة، لكنه يتجنب اللجوء اليه، بل وعدم المبيت عنده دفعا للمخاطر، وكان يقصد بيت (الكركوكلي) مقابل دارنا.. وقد كان والدي رغم عدم تمرسه بالسياسة يلتقط ?عض المعلومات عن طريق الشرطة، وعندما يعرف أنها تخصّ وتلاحق الرفيق فهد كان ينبه بيت الكركوكلي.
ليغادر الرفيق فهد الدار لكي لايلقى القبض عليه ويقع بيد التحقيقات الجنائية، وقد أنقذه عدة مرات من الوقوع في قبضة الشرطة التي كانت تطارده.. لا لأنه يحمل مبادئه بل احتراما وحرصا على الجيرة والجيران. وعدم تعرضهم وتعرضه بالذات للاذى من قبل البوليس وازلامه وهو يدرك ماذا يعني وقوع أي مناضل بيد الشرطة في كل الاحوال.. وقد اخبرني بذلك والدي رحمه الله عندما ادرك اني انتمي لنفس الحزب والمبادئ التي حملها رفيقنا العظيم للحركة الشيوعية في العراق ويسعدني ما قام به والدي اتجاه رفيقنا لانه موقف وطني نبيل.