مدارات

ماذا يعني أن تكون نزيها في العراق؟ / فوزي الاتروشي

العراق بلد بقدر ما دمره الفساد المالي والإداري, فقد افترسته التغطية على هذا الفساد وشرعنة وتقنين هدر الأموال بشكل لا نظير له في التاريخ.
والانكى من كل ذلك أن المفصل النزيه والمواطن والموظف الذي يضع الانتماء الوطني فوق الانتماء للحزب أو الطائفة ولا يسعى للمال، يكون عرضة للتجني والاتهام والتضييق لأنه يشكل سداً يمنع الهدر ويرفض التجاوز، وعلامة فارقة تفضح المستنقع الآسن الذي يركد فيه الفاسدون فاقدو الضمير والبعيدون عن الانتماء لأية منظومة قيمية وأخلاقية.
أن تكون نزيها في العراق يعني أن تسبح ضد التيار وتتحول إلى غابة تصد رياح السموم وتصبح في مواجهة إعصارها! وهذا المصير مؤلم وقاس وغير منطقي، ولكنها الحقيقة العارية .
أن تكون نزيها يعني أن يتخلى عنك الآخرون من حولك لأنك تغرد خارج السرب وتلغي الظلام وترفض أن تكون ضمن القطيع وتقول الحق دون خوف من لومة لائم، أو تهكم فاسدين جعلوا الوطن مزرعة لهم دون رقيب أو حسيب. وبالعكس، فالرقيب ينشغل بالنزيه وبالمواطن المستقيم وينتظر منه هفوة للإيقاع به، ويدعو الآخرين لوليمة جاهزة من المزاعم والتهم والمبالغات، ويقدح لكسر ارادته ويضمه عنوةً إلى قطيع الجهل والطمع والشر.
أن تكون نزيها في العراق لا بد أن تتوقع الشر قبل الخير والعداء قبل الصداقة والجفاء بدلاً من التواصل والاستحسان، لأن قطيع الفاسدين لم يعد يعترف بالراعي ولا يرضى إلا أن يجعل كل تراب الوطن مصدراً للكلأ، لهم، ولهم وحدهم دون حساب للملايين التي انتظرت طويلا لكي يتحرر العراق من الدكتاتورية، وبعد التحرر وقع فريسة لأفواه جائعة وعيون طامعة وبطون لا تشبع حتى لو أكلت العالم كله .
ان تكون نزيها في العراق وفي ظل شلل الأجهزة الرقابية وتعاميها وتغافلها وخوفها، يعني ان تصبح في مرمى السهام تأتيك من كل حدب وصوب، تنتظر أن تقع وتعجز وتعترف انك عاجز عن فك الأسلاك الشائكة التي تحيط بالوطن .
ورب قائل إذا كان هذا هو الحال فالأجدى التسليم والاستسلام والبقاء في المياه الراكدة وترديد نفس الأراجيز والأناشيد التي يرددها الفاسدون الذين جعلوا الوطن وليمة دسمة, لكننا نقول بالعكس فإذا كان الحاضر شديد العتمة فالمستقبل لا بد أن يمتلئ بالضوء، بشرط أن يلجأ كل عراقي إلى إشعال شمعة وعدم الاكتفاء بلعن الظلام, وزرع شجرة وعدم الاستمرار في لعن الأتربة والغبار، وتقديم لمسة حنان وحب للعراق الذي تضخم من كثرة الأناشيد والأغاني والقصائد التي تتغنى به، وبات ينتظر فعلاً جميلا وقصة حب واقعية طويلة الأمد .
إن الإرهاب والفساد المالي صنوان لا ينفصمان. فالأول يدمر العمران وأجساد الناس الأبرياء, والثاني يدمر كل منظومة القيم الاجتماعية، ويجعل الوطن في مهب رياح تجعله ذكرى وطن كان يوما على خارطة الأرض .
إنها إذن دعوة لكل مواطن شريف في العراق لكي يعلو نحو فضاءات الجمال والغناء والعمل والجهد والحب من اجل وطن تعب كثيرا من جيش الفاسدين، ولا بد للأيادي الخضراء أن تمتد لإنقاذه من الغرق .