مدارات

عندما يصبح ابن العائلة الاقطاعية شيوعياً مناضلاً (1-2) / كوريا رياح - احمد الغانم - سالم الحميد

حين ينقلب الإقطاعي على المنطق السائد، ويعطي كل ما يملك للفلاح ، فقد يعتبر ذلك ضربا من الجنون، وحين يوزع أملاكه على الفلاحين، برغبة ذاتية دون ضغوط مسألة فيها أكثر من وجهة نظر
لا بد أن هناك انقلابا في المفاهيم والرؤى يجعل مالك الارض يتخلى عن الجاه والسلطان والمال والدنيا والطمع، وعن ترف عيش كان يحسد عليه في وقت كان المترفون يعدون فيه على الأصابع، تقابلهم جموع ملايين الفلاحين الجائعين والمضطهدين .لكن حين نعلم أن ما وراء هذا التغيير هو التأثير المباشر للشيوعيين، وخصوصا المعلمين المبعدين من قبل السلطات السابقة وتأثير أفكارهم الخلاقة على ابناء الريف ووعيهم وحسهم الطبقي ، فان الامر يستوجب التوقف.
ولأن الحزب يناضل من أجل تجاوز الفوارق الطبقية، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية ، فمن البديهي أن يثقف الجماهير الكادحة بحقوقها المصادرة وضرورة انتزاعها عن طريق النضال المستمر.
من هذه النقطة بالذات بدأت مسيرة نضال الرفيق هاشم محمد مذكور (ابو مالك) الذي يسكن مدينة الثورة (الصدر حاليا)، في بيت متواضع.
الرفيق كان احد شيوخ آل زيرج، وهو من مواليد 1931 وكان يسكن الأهوار في الميمونة، ضمن إقطاعة آل زيرج .وزوجته واحدة من مناضلات الحزب وهي الباسلة طيارة سلمان المنشد. والدها شيخ عام آل زيرج، ورغم ما تعرضت له من عذاب وآلام وتهديدات من طرف ذويها، ورغم السجن الذي تعرض له زوجها مرات بقيت وفية للحزب لصيقة به (سنتحدث معها لاحقا).
نتوجه الى الرفيق هاشم الذي أحب الحزب من خلال حبه للوطن. وظل هذا الحب يسري في دمه (حتى انقطاع الأنفاس) كما قال لنا، فيما احتفظت ذاكرته بالكثير من الذكريات عن نضالات شعبنا وحزبنا.

نسأله: أبو مالك كيف كانت بدايتكم وانضمامكم للحزب ؟

بدايات الوعي تشكلت لدى فلاحينا من خلال الدور الذي لعبه المعلمون الشيوعيون المبعدون. فمنذ أن كنت شابا يافعا، كنت اتأمل الفوارق الطبقية بيننا (نحن الإقطاعيين) وبين الفلاح في حياته البائسة. لذا ألفيت نفسي احمل هموم الفقراء من الفلاحين و أتحسس آلامهم ومعاناتهم، فالفلاح رغم جهده كان حتى لا يأخذ احياناً من حاصل حصاده شيئا.
وكان لانتفاضة فلاحي آل زيرج عام 1952 ضد الإقطاع، والمعارك التي خاضوها في سبيل التخلص من ظلم الاقطاعيين، تأثير كبير على وعيي الطبقي. فبدأت تتشكل لدي أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابا بسبب محدودية ثقافتي اطلاعي. وكان تأثير الشخصية المصرية قويا عليّ آنذاك.. فترك بصمته على بواكير الوعي عندي .
وكان هناك سؤال مسيطر على جل تفكيري: لماذا لا توجد شخصية وطنية عراقية مؤثرة في بلدنا مثل ما عليه الحال في مصر. هناك كانت شخصيات معروفة مثل.. مصطفى النحاس الذي أعلن عام 1951 إلغاء معاهدة عام 1936 بين مصر والانكليز والتي سبق أن وقعها هو نفسه معهم كذلك سعد زغلول الشخصية الوطنية المعروفة وزعيم حزب الوفد.
طرحت مثل هذا السؤال أثناء تتويج الملك فيصل الثاني سنة 1952 .على جمع من الحاضرين في مضيفنا. فانبرى احد الجالسين وهو من بيت العبودي ليرد على سؤالي قائلا: ان الظروف في مصر تختلف عن ظروف العراق كثيراً. فهنا (في العراق) يقطعون الجذر الوطني. ما أن يبدأ بالتبرعم وكان يقصد بذلك اعدام الرفيق الخالد فهد ولم أفهم قصده حينها، لكنه أضاف قائلا لي: اخبرك بالطريق الذي تجد فيه اجابات لكثير من الأسئلة التي تدور في خلدك. اقرأ.. فمن خلال القراءة ستفهم كل ما يدور حولك.

وظل ذلك الكلام يرن في أذني..

وبدأت اقرأ كل ما كان يقع بيدي من كتب، سواء أكان ماركسيا أو غير ماركسي، حتى بدأت تتجلى لي الحقيقة بالتدريج.. و لم اعتمد القراءة فقط، بل بحثت عمن يضع قدمي بالاتجاه الصحيح. ذهبت إلى شخص شيوعي أسمه سيد قاسم وقلت له: أريد الانتماء للحزب الشيوعي العراقي. اجاب في محاولة كما يبدو لاختبار قوة عزيمتي وصدق نيتي:
ليس من الهين الانتماء للحزب الشيوعي.. فحزبنا طريقه محفوفة بالمخاطر وليست سهلة، هناك احتمال السجن واحتمال التشريد والإعدام.
ازددت يقينا وإصرارا على انه لا بد لي أن أترجم نضالي بانتمائي. فقلت:
أنا حدي معكم إلى المشنقة، فبعد الموت اعذروني لأني سأصبح جسدا بلا روح ولا أستطيع أن أقدم لكم شيئا..
.. انتميت بعد ذلك إلى الحزب كنا حينها في الميمونة في ميسان - محافظة العمارة سابقا. وكانت تلك الخطوة الأولى في مسيرة عمل دؤوب ونشاط دائم، واندفاع لا توقفه عقبات . ومنذ ذلك الوقت اقترنت صفحة الشيوعي باسمي وصارت وساما لي افتخر به ما حييت.

هل كانت الصحافة الشيوعية تصل اليكم؟

نعم كانت تصل إلينا جريدة "القاعدة" السرية وكراسات الحزب وبشكل سري. ولكوننا من عائلة الشيوخ لم يكن ممكنا أن يصل إلينا أحد إلا بموافقة الشيخ ، وهكذا كنا نقرأ كل ما يقع بين أيدينا بشغف.

حدثنا عن الدور الذي لعبته حركة أنصار السلام ، وكيف تم اعتقالك؟

في تلك الفترة برزت نشاطات أنصار السلام، وهي جزء من حركة أنصار السلام العالمية، وقد جاءت كرد فعل على الهجوم القمعي المعادي للحزب والذي توجته سلطات النظام الرجعي بإعدام قادة الحزب قبل سنوات، وتطبيق قوانين مكافحة الشيوعية، بعد محاولة الامبريالية الأمريكية وبريطانيا جعل بغداد مركز ا للتآمر على دول الجوار وعلى حركات التحرر العالمي، فربطت بغداد بأحلاف واتفاقيات عسكرية. لذلك قمنا بنشاط واسع جدا يفوق التصور، وعملنا على تثقيف الفلاحين بضرورة نبذ الحروب والسعي من أجل سلام عالمي وقد كسبنا الكثير من الفلاحين، مما جعل السلطة تتخوف من انتشار هذه الحركة، خصوصا إن امتدادها وصل إلينا في الميمونة. لذا بدأت حملة معاكسة وشرسة للقضاء عليها، وشنت حملة كبيرة ضد المنتمين إليها. في تلك الفترة أرسل صديق للحركة رسالة إلى أبو خولة (عاتي عزيز ) يوضح فيها أهداف الحركة بقصد تأمين انضمامه أو تأييده للحركة، فالأخير كان يعمل بالخط المعاكس للحركة. لكنه اضطر لتسليم الرسالة إلى الشيخ عبد الواحد بن عبد الكريم الشواي، والذي كان من ألد أعداء حركة السلام. وسلمت الرسالة بعد ذلك للأمن عن طريق الشيخ المذكور. فجاءت قوة أمنية وارسلوا يطلبوني أنا وجاسم الشواي وخالد حمود وعبد العالي. جاءوا إلى قصر مطلك السلمان للتحقيق معنا بأمل معرفة مصدر الرسالة. قال لي الشيخ: أنت من أنصار السلام، وانتم لكم نشاط سياسي ملحوظ حاولت الإنكار إلا أنهم لم يصدقوا ذلك، فقاموا بتسليمنا إلى الأمن حيث اعتقلونا وأرسلونا مخفورين إلى مركز الشرطة. حققوا مع عبد العال وخالد وبعد التحقيق أرسلوهما إلى مركز شرطة الدبيسات. أما نحن: أنا ومحمد جاسم الشواي فبقينا في مركز السنية حتى يتم التحقيق معنا.
ارتاب الموقوفون بنا حين شاهدونا بزينا الفلاحي ( زي الشيوخ ) ولم يقتربوا منا خوفا من أن نكون مندسين عليهم. لكن شخصا صاحب مكتبة قال لهم وهو يشير الي أن هذا الشخص أعرفه جيدا وهو دائما يشتري مني كتب تقدمية، مما بدد خوفهم منا.
فبعدها تقربوا إلينا وظلوا يساعدوننا ويقدمون لنا كل ما نحتاجه. وبقينا في السجن ثلاثة أشهر.
في تلك الفترة وصلنا خبر اعتقال ثلاثة من كبار قادة الحزب الشيوعي معنا ، وكان من بينهم الشهيد ستار خضير وخلف الجمالي وآخر لكن لم يحضرني اسمه والرفيق ستار كان معلما . والذي كان مثالا للشيوعي البطل الملتزم، والذي لم تلن عريكته رغم الاعتقالات ومحاولات النفي والأبعاد.. وقد وصلت الأخبار بأنهم وضعوهم مع عبد العالي وخالد. تمت المحاكمة. ترافع عنا محامون. قد أوكلوا من قبل ذوينا. وكانت النتيجة الإفراج عنا.. بعد ذلك.. عدنا لأهلنا. ونحن نشعر بفخر وزهو...