مدارات

الخطوات الاولى ... مع المسيرة الثورية .. الرحيل الى دمشق (6) / ألفريد سمعان

كانت خيبة أمل كبيرة حين ظهرت نتائج القبول في الكليات ولم يكن إسمي بين المقبولين.. كانت هناك فرصة للاعتراض ولكن الأمل ضعيف في تعديل النتائج.. رغم ان معدلي كان يساعدني على الترشيح والقبول أسوة بأصدقائي جواد حمدان، وحسين السيد حسن من الشطرة، ولا ادري لماذا تمسكت بالتقديم إلى كلية الحقوق ولم أقدم أوراقي الى كلية الاداب وكنت فكرياً مؤهلاً لذلك بعد أن نشرت لي بعض القصائد في جريدة الاديب الموصلية التي كان يصدرها المحامي ابو الخطاب عمر ونشر لي القيصدة الاولى بعنوان (الحب الاول) وبعد اسبوعين نشر لي قصيدة (القبلة الاولى) وقد انتابتني موجة غامرة من الفرح والتباهي امام أصدقائي لاسيما بعد أن دعا الشاعر نعمان ماهر الكنعاني الأدباء لإرسال أنتاجهم الإبداعي إلى النادي الاولمبي حيث ستصدر مجلة النادي وبالمناسبة كان الوصي عبد الاله يرعى هذا النادي ويدعم نشاطاته وقد أقامت كلية الحقوق مهرجاناً سنوياً فيه ولم أكن متفائلاً وواثقاً من نشر القصيدة وعنوانها (تساؤل) مطلعها:

تسأل كيف تصوغ القريض
وتنظم شعرأ رقيق الغزل
وتبعثه في نفوس العذاري
بديع الخيال رقيق الجمل

وأخذنتي موجة استغراب عندما وصلتني المجلة وقد نشرت القصيدة داخل اطار وفي الصفحات المتقدمة.... وغمرتني نجوم الفرحة الى مدرجات التباهي... وعززت الثقة بعطائي... وانا أردد مع نفسي (لقد أصبحت شاعراً يا الفريد... لقد تحقق الحلم) ومضت بي خطوات الطموح وأخذت أراسل مجلة الصباح المصرية التي كانت تهتم بشؤون الفن وتروي قصص الفنانين والحركة المسرحية والسينمائية وفيها صفحة مخصصة للشعر يحررها محمد... الذي كان ينشر اجزاء من قصائدي ويجري عليها بعض التصحيحات وكان صاحب ورئيس تحرير المجلة (مصطفى القشاشي) وكان ذلك نتيجة حبي للغناء والموسيقى وهذه الاجواء تتميز بها مدينة البصرة عشاقاً للغناء والطرب وقد دفعني ذلك لمشاهدة الافلام الهندية والعربية وأحفظ أغاني عبد الوهاب وفريد الاطرش وليلى مراد وكنت مولعاً بالرقص والغناء الهندي ولعل ما كان مدهشاً هو وصول فرقة فاطمة رشدي إلى البصرة كانت فاطمة مشهورة وفنانة تتميز بالجمال الهادئ والجرأة الفنية يرافقها محمود السباعي ومحمد توفيق وعناصر أخرى ولم تقم بزيارة مدينة اخرى بأستثناء بغداد والبصرة. كنت حزيناً واصابتني خيبة أمل كبيرة عندما علمت بفشلي في دخول الجامعة وأنا انقل الخبز لاهلي لا سيما أمي المرأة الطيبة البسيطة وهي لا تحسن القراءة والكتابة ولكنها كانت حريصة على أن يحصل ابناؤها على شهادة عالية وكانت تحثنا على مواصلة الدراسة وتراقبنا وهي تردد عبارة (أدرس أبني أدرس) وتوفر المتطلبات الشاي والكعك لخلق الاجواء المناسبة للدراسة ومتابعة المناهج. ولم تستمر حيرتي حيث خاطبني أبي... لا تهتم سوف أرسلك إلى سوريا وكان شقيقي الدكتور قسطنطين يدرس هناك في كلية طب الاسنان وبدأت الاستعدادات... إصدار الجواز.. جمع المستندات المطلوبة شهادت التخرج من الاعدادية.. تحضير الملابس المناسبة لمثل هذه الاجواء الجديدة... ومع فجر أحد الايام حملتني السيارة الى الهدف المنشود (دمشق) وكان الطريق متعباً وغير مبلط وخطراً بعد مغادرة الرمادي إلى البادية وكان معي عنوان أخي فاتجهت أليه واستقبلتني التي كان أخي يسكن في أحدى الغرف عندها وقادتني إلى غرفتي شابة جميلة إبنة صاحب الدار أسمها أينون رحمها الله... أصبحت فيما بعد زوجة شقيقي ولها منه ولدان باسل وثائر وابنة واحدة انتصار... في اليوم الثاني جاءني الفطور إلى الغرفة وعندما سألت عن أخي قالوا أنه مسافر إلى القدس... حيث كان لنا اقارب فيها وقد دعوه لزيارتهم ولبى الدعوة بتشجيع من والدي لانه كان مبتهجاً بالعثور على اقاربه بعد مرور سنوات تزيد على الثلاثين سنة... وصلت إلى مبنى جامعة دمشق وقدمت اوراقي... وبقيت انتظر المناداة علي... واذا بشاب يجري وهو يصيح (فريد)... وكانت لحظة لا توصف تعانقنا وفرت الدموع من العيون... ثم طلبوا مني العودة في اليوم الثاني واخذني شقيقي الى موقع الدراسة. في مختلف الكليات وكانت بالاصل ثكنة عسكرية للقوات الفرنسية وقد استلمتها سوريا بعد الحصول على الاستقلال وكانت هنالك حركة بناء واسعة الاتجاهات والمعامل. مع ساحة كبيرة تطل وتشرف على بعض اجزاء مدينة دمشق. كانت مفاجأة حين التحقت بالكلية.. في قاعة كبيرة يبدو أنها كانت مخصصة لمنام الجنود وكانت اللهجة العراقية طاغية.. ولم اشعر بالغربة في هذا الجو العراقي. وتعرفت على البعض منهم جعفر الجواهري ووليد اسماعيل صفوت الذي كان والده قائداً للقوات العربية لمقارعة الصهاينة عندما بدأ الصراع العربي الإسرائيلي وتهيأت القوات العربية... مع أبناء فلسطين لخوض المعركة ومنهم أيضاً علاء البياتي والدكتور (محمد حسين الفرطوسي) والمرحوم الفنان (أسعد عبد الرزاق) وحليم القيم الذي أصبح قاضياً بعد تخرجه. وعبد الصاحب خميس الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس الخدمة ومجموعة تتجاوز السبعين عراقياً.. منهم جاويد الذي ترك الحقوق واصبج طياراً مدنياً مشهوراً. كانت الاجواء تضج بالبهجة والاعتزاز بعد تحرر سوريا من الاستعمار الفرنسي... الاحزاب تتنافس لأنتخاب اعضاء مجلس النواب... القوتلي رئيس الجمهورية والأتاسي وزير العدل وكان يدرسنا القانون الدستوري.. ودروب دمشق تشد خطر الشباب والجميلات بملابسهن الجميلة واناقتهن يذرعن الشوارع ويطفن في الاسواق بحرية.. وكانت هناك من ترتدي الزي الاسلامي المتحفظ ولم يكن معقداً ولكنه محتشم والتنانير لا تصل إلى الأقدام بل تتوقف على حافة الركبتين أو تحتها بمسافة قصيرة.. والمقاهي الصيفية تستقبل العوائل بحرية حتى أن النساء كن يتناولن (الاراكيل) التي كانت متنوعة وانيقة عليها بعض النقوش.. وتعرفت على اصدقاء جدد منهم يوسف المنديل، وأمجد الزهراوي.. كان حزب البعث وليداً ولكن اعضاءه نشطاء وفي مناسبة وطنية قرر الطلبة الخروج في مظاهرة وتمسك البعثيون بفلسطين ولكننا نحن التقدميين أصررنا على فلسطين والاسكندرونة التي اغتصبها الاتراك وضموها الى اراضيهم .. وبعد جدال عنيف خرجنا بالمظاهرة التي مرت بالشارع الرئيسي الذي تقع فيه مقهى هافانا وسينما شهرزاد ومخازن انيقة ويؤدي الى ساحة السبع بحرات... حيث يطل عليها البحر المركزي بمهابة... إنصب اهتمامي على النشاط السياسي والرياضي وكان لشقيقي الدكتور قسطنطين تأثير كبير على توجيهي وكان منظما في لجنة الطلبة الشيوعيين وكان يقودها الدكتور جواد العبادي كما كان هنالك تنظيم أردني يقوده الدكتور رينيه أو شيدات والجميع يعملون وينشطون مع الحزب الشيوعي السوري بقيادة الراحل خالد بكداش الذي رشح نفسه نائباً عن دمشق وكان للشيوعيين رصيد كبير لجهود القائد خالد بكداش ودعم الحزب الشيوعي الفرنسي في تحرر سوريا من الاستعمار الفرنسي.. وبزغ نجم بعض الشخصيات السياسية منهم فارس الجوري والأتاسي والقوتلي واسماء اخرى كبيرة.. وكان الرفيق عبد القادر اسماعيل عضواً نشيطا في الحزب الشيوعي السوري اللبناني وقد ساهم الشيوعيون العراقيون في الحملة الانتخابية واذكر اجتماعاً حضرناه في ساحة لكرة السلة لأحد النوادي كما أقيم احتفال كبير في سينما شهرزاد حضرها رفاق من لبنان ولم يكن الحزب الشيوعي اللبناني قد تشكل بعد ومن الذين ساهموا في الاجتماع الشاعر الكبير رئيف الخوري الذي ألقى قصيدة استأثرت باهتمام وتهليل وتصفيق الحاضرين وما زال في ذاكرتي بيت من القصيدة استفز المشاعر الدينية ومفاده:

إني كفرت بدين الله في وطني
حرصاً عليه وبعض الكفر ايمان

وقد تراجع عنه الشاعر بعد حملة ضارية من قبل الاوساط الدينية. وكان لنشاط الحزب الشيوعي السوري- اللبناني تأثير كبير وكان بكداش نائباً عن دمشق وكان الرفيق ذا قامة فارهة وملامح متوازنة تتسم بالهدوء والصرامة وكان ذا شخصية مهيبة تحظى باحترام الاوساط السياسية.
على صعيد الادب كنت اتابع الحركة الادبية واقتني بعض الكتب ومنها التي تتعلق بالماركسية وبطولات المناضلين في الحرب العالمية الثانية واتابع الشعر والقصة. وقد نشرت قصيدة في مجلة "الفن والراديو" مطلعها:

حدثيني عن الهوى والصبابة
أرشف رحيقه أوصابه
يا رباب وليس ينعش قلبي
غير لحن الهوى بثغر الربابه

وفي مجال الرياضة التحقت بفريق كرة القدم لكلية الحقوق وكان يقوده لاعب اسمه احمد وكانت ابرز لعبة خضتها مع الفريق في لبنان ضد فريق الجامعة الامريكية.
لقد مرت ايام الجامعة بسرعة وبدأت الامتحانات وكان الاسلوب المعمول به في كلية الحقوق، هو دخول الامتحان التحريري بثلاثة دروس ومن ثم الشفهي بأربعة دروس بعد اجتياز التحريري وقد نجحت في جمع 35 درجة من 60 وتجاوزت مرحلة التحريري ورسبت في الشفهي، حيث لم اجمع 40 درجة من ثمانين واعدت الامتحان ثانية بعد العطلة الصيفية وتجاوزت التحريري وكدت ان اجتاز الشفهي إلا ان استاذ درس " النكاح " وكان اسمه الشيخ ابو اليسر عابدين اصبح فيما بعد مفتي الديار السورية. ظلمني حيث كانت اجابتي جيدة واستحق ما لا يقل عن 15 درجة من 20 إلا انه اعطاني 9 درجات واصبح المجموع 39 وكان يجب ان يكون 40 لكي انجح. وهكذا حرمني من النجاح وعدت الى بغداد مكسور الجناح.. ومعي شهادة نقل الى كلية الحقوق في بغداد.
وقعت لي حادثة لا يمكن نسيانها، حيث كنت اسكن في غرفة بمنطقة الصالحية قرب اعدادية دمشق ومقابل هذه الغرفة دار فيها مطبعة وكأنها دار نشر "القبيل" وفي احدى الليالي عدت متأخراً وحصلت بيني وبين الحارس الليلي مشادة استطعت ان اتخلص من الحارس وحاولت الهروب وعدم اللجوء الى المكان الذي اسكنه. وبدأ الحارس باستعمال الصافرة وتكالب عليّ اكثر من حارس وامسكوا بي واذا بالشخص الذي يتواجد في الدار المقابلة يطل من الشرفة ويقول لهم امسكوه انه هو الذي ضرب الحارس. اقتادوني الى نقطة البوليس وكان هنالك اكشاك صغيرة لرجال البوليس، وتصالحنا بعد ان عرف الشرطي اني عراقي وغريب.. وعند الصباح علمت ان الشخص الذي دلّهم عليّ هو ميشيل عفلق وكان يشغل دار النشر مع اكرم الحوراني واعتقد ان هذه الدار اصبحت دار اليقظة التي طبعت مؤلفات وتراجم رائعة من شتى الآداب العالمية.. وهكذا تعرض لي عفلق منذ ذلك الحين ودون ان يعرف انتمائي.