مدارات

الخطوات الاولى.. الرحلة الدراسية (8) / الفريد سمعان

فقد خرج الرجال الى اعمالهم.. والطلاب الى مدارسهم لم تكن الحقائب ملونة.. وليس هنالك زي موحد، ولكن الفرح كان يلون الحدود.. ويرسم الابتسامات على الشفاه الصغيرة الناعمة.. ولم يتجرد الموقف من بعض المشاكسين من قبل بعض الصغار.
في هذا الجو الملون.. سارت خطاي. باتجاه منطقة السيارة الحمراء. الباص الذي كان يستخدمه عشرات الالاف من الموظفين والطلبة بأجرة قدرها (10) عشرة فلوس أرجو الا تنظروا لها بتهكم. فقد كان للفلس مكان في التعامل اليومي وشراء البضائع والمواد الغذائية.
اخذت مقعدي وجلس بجانبي رجل متوسط العمر يشد رأسه باليشماغ ويرتدي الدشداشة.. مع سترة التصق بي تجرعت ذلك وقبلت الامر الواقع بلا احتجاج. وانسحبت قليلا قرب النافذة. اخذتني الافكار.. كيف سيكون استقبال الكلية. هل يمكن ان ترفض النقل من جامعة دمشق الى كلية الحقوق في بغداد.. كيف ستكون مقابلة الاصدقاء الذين ودعتهم في ثانوية البصرة.. ماذا سيقولون عني وانا عائد اليهم بخفي حنين.. اية افكار ستجول في عقولهم. وما هي الاستنتاجات والانطباعات وبماذا سيفسر الاصدقاء ذلك.. بالعبث واللهو، والاخرون.. بخلل في القدرات الفكرية.. وقلة?الذكاء توقف الباص في المحطة الاخيرة في الباب المعظم واتجهت الى الكلية سيرا على الاقدام. وقبل الوصول رأيت احد الاصدقاء القدامى من اهل البصرة تصافحنا وتبادلنا الاحاديث بضمنها الفشل الذي حملته ومعي من دمشق مع التبريرات.. وكان وفيا يمتلك قدرا كبيرا من المودة والحنان.. وقام بتلطيف الجو وطلب مني عدم السقوط في هاوية اليأس. لأني ما زلت صغير السن. ثمانية عشر عاما.. على حافة التجنيد الاجباري لغير الطلبة والمرضى والذين لا تساعدهم صحتهم على الانخراط في خدمة الوطن والاستعداد لحمايته عند الشدائد.
لقد وصلنا الى الكلية، بوابة حديدية. تقودنا الى القسم الاداري. وغرفة العميد وعلى الجانب الايمن حديقة، تصطف على سواقيها شتلات الزهور، وفي وسطها ساحة خضراء من (الثيل) سألت العامل الذي يأخذ موقعه في باب العميد فقال: اذهب الى الادارة، الملاحظ (س) غرفته في آخر الممر، القيت عليه التحية والخوف يتردد على لساني.. وصوتي خافت النبرات.. مع ارتفاع مستوى الخلق الرفيع. واشعار الملاحظ بالاحترام الشديد وطلب ان اسلمه شهادة النقل وبقية الاوراق التي كانت مدفونة في اضبارة متواضعة.. وبعد ان قام بالنظر في الاوراق. علق على غلاف ال?وراق.. السيد العميد.. يرجى النظر في طلب الطالب.. (الف) علما ان التعليمات تسمح بالنقل.. ثم نظر الي بمودة مع ابتسامة لطيفة وقال خذها الى السيد العميد..
نوبة من الفرح رفرفت على وجهي لان التعليق يبشر بالخير. توقفت عند باب السيد العميد ومنعني العامل من الدخول. لان لديه ضيوفا ولم اناقش، فقد كنت متوجسا حتى من العامل، وكأنه هو الذي سيقرر مصيري، وخرج الضيوف بعد ربع الساعة تقريبا.. وادخلني العامل.. كانت ساقي ترتجفان واشعر باضطراب. قلت لنفسي: تماسك ايها الرجل.. القيت التحية على السيد العميد.. كان يتمتع بمهابة خاصة تفرض احترامه على كل من يلقاه.. رد التحية بلطف وتساءل ما هي قصتك يا ولدي.. قلت: انني كنت طالبا في كلية الحقوق في دمشق ولم اوفق. وها انا احمل شهادة النقل ?لى العراق. وكلية الحقوق بالذات.. وناولته الاضبارة، قلب صفحاتها.. وقال: لماذا رسبت، هل الدراسة صعبة هناك؟ قلت: كلا ولكن الظروف.. وتناول القلم الرابض امامه.. وكتب شيئا.. ومد يده بالاضابرة.. وقال: تهانينا للقبول.. ولا بد ان تنجح، لم اصدق ما سمعت، اردت ان اقفز واقبله، قلت: شكرا سيدي وانا استدير لاغادر الغرفة الكبيرة واخذت عملية النقل مجراها.
بدأ الدوام في الكلية وكانت هنالك مفاجأة لم يحسب لها حساب.. فقد صمم الوزير صادق البصام على فتح القبول في كلية الحقوق في حين انها كانت تقبل ما لا يزيد على مئتين وخمسين طالبا سنويا.. وقد آثار القرار حفيظة العميد منير القاضي الرجل الذي يشهد له الجميع لحرصه على الكلية واعتزازه بها.. وادارتها بنظام دقيق وصراحته في كل ما يتعلق بها.. من الحديقة الجميلة الى اختيار الاساتذة وكان بينهم مصريون.. على مستوى رفيع من الاداء والتعمق في القانون ويمتلكون قدرات خاصة من بسط الهيمنة على الطلبة رغم ان الصف كان يضم اكثر من مائة و?شرين طالبا وطالبة. احتج العميد على هذا الانفلات في القبول واعتبره انتهاكا للحرص على خلق كادر قانوني يستطيع ان يملأ الفراغ القضائي.. ويبسط ارادة الحق والعدالة على المجتمع ويضع حدا للانفلات العشائري والطوفان العائلي المترفع.. المتعالي.. وتوقف العميد عن الدوام بعد ان اجرى اتصالات على مستوى رفيع مع رئيس الوزراء والعمداء والاساتذة وحتى نقابة المحامين.. ولكن دون جدوى فقد اصبح للكلية منهاج جديد لم يقتصر على الدراسة الصباحية بل مسائية ايضا وحشر طلبة الصف الاول وكنت واحدا منهم في قاعة الكلية التي تجري فيها الفعاليا? الخطابية والمسرحيات.. والنشاطات الاخرى.. ولكن دوامي لم يكن مسائيا بل صباحيا..
كانت هنالك حركة استثنائية لاسيما الدراسة المختلطة رغم قلة عدد الطالبات.. ووجود غرفة خاصة بهن اثناء الفرص.. الا ان الرغبة في ايجاد علاقة مع احداهن كانت تهيمن على التصرفات الصاخبة والهادئة والعناية الخاصة بارتداء الملابس الانيقة والاربطة المثيرة.. وتصفيف الشعر.. وسواها من المتطلبات التي تجذب اهتمام الفتيات. اضافة الى انماط من السلوك الشخصي. وللوصول الى مرافئ الاحلام، وهذا هو المألوف من الدراسة الجامعية وكانت هنالك علاقات انتهت بالزواج، وتكوين اسر جميلة.. كان يوسف العاني يتحرك بنشاط مع نزار سليم.. الفنان المش?ور، مع آخرين وشكلوا لجنة جبر الخواطر، انصب اهتمامها على العمل المسرحي. وكان من الطالبات المنطلقات الرائعات ايتن الرحال وسها ثنيان كما كان خلوق امين زكي بطل المصارعة يحظى بمنزلة خاصة لاسيما وانه من اسرة ذات مكانة اجتماعية كبيرة ومعروفة على نطاق واسع وكان هادي عباس، افضل جناح ايسر في العراق، جنديا في القوة الجوية.. اكمل الدراسة الاعدادية ودخل كلية الحقوق.. كان عاشقا للكرة.. يبحث عن اللاعبين الذين كانوا مشهورين في مدارسهم الثانوية يلتقطهم ويتابع الادارة واستاذ الرياضة ليشكل فريقا كرويا جيدا ينافس به الكليات ا?اخرى، وكانت هنالك سباقات سنوية على صعيد الكليات في الالعاب الاولمبية وكرة القدم والطائرة والسلة، لا كما يجري من هذه الايام حيث تفتقر المدارس، كل المدارس الى ساحات يمارس فيها الطلاب والطالبات نشاطهم الرياضي.. وكان من ابطال السباقات الفنان سامي عبد الحميد بطل الركض لخمسة الاف متر كما اظن.
كما كان هادي عباس يحظى بتأييد شقيقه عبد الامير عباس وهو قائد نقابي منح حياته للنضال.. والحزب ومع النشاط الرياضي والاجتماعي والمسرحي، كان هنالك حوار كثيف وصراع محتدم بين الحركة التقدمية والقوميين.. اسفر عن رسم الحدود والتحرك السياسي.