مدارات

الرفيق قحطان جعفر حسن المعروف "ابو جعفر" : من منهل الحزب غرفنا المعرفة وحب الشعب والوطن

تحقيق كوريا رياح، احمد الغانم، سالم الحميد
ولد سنة 1936، ورغم تجاوزه السابعة والسبعين من العمر لم تخبُ فيه همة الشيوعي. فهو شعلة متقدة من الحيوية والحركة الدائبة، يغذيها تاريخ نضالي حافل، وعزم ثابت على المواصلة. يعمل في الحزب وفي التيار الديمقراطي، وناشط وفي المنظمات المهنية والنقابية. لم توهنه الملاحقات والاعتقال والتعذيب، بقي مخلصا للحزب وفيا لمبادئه. لطفه وحسن تعامله مع الناس هما انعكاس لأفكاره ومثله ، فليس غريبا ان يسميه ابناء منطقته "قحطان الطيب" .
هذا المناضل كان لنا معه اللقاء التالي..
سألناه:
كيف كانت البداية، رفيقنا أبو جعفر؟

كنت صغيرا، في الخامس الابتدائي على ما اعتقد، حين نادى علي في السوق احد أصدقاء أخي وقال لي : خذ هذه ( الليفة) وسلمها لأخيك . قلت له ان أخي لم يوصني بأن أشتري له شيئا. قال: لا عليك، خذها واعطها له. فلما أعطيتها لأخي كانت دهشتي كبيرة حين اخرج من داخلها ورقة مطبوعة (عرفت في ما بعد انها جريدة القاعدة)، اخذ أخي يقرأ فيها على ضوء الفانوس، وانا أنصت إليه.
هذه الحادثة كانت البداية ..

وكيف تم انتماؤك للحزب؟

كانت جذور الوعي مغروسة فيّ، فعائلتنا عُرفت آنذاك بنضالها الوطني والديمقراطي، وقد نهلت من بيتنا ومن والدي جعفر المعروف، عن طريق أخي الذي كان يكبرني، الحب للحزب وللشعب والوطن. وانعكس ذلك لاحقا في مسيرتي النضالية .
كان أخي الكبير شيوعيا ، اما الوالد فكان عضوا في حزب الأحرار بقيادة السياسي الوطني سعد صالح . وكان في بيتنا أيضا الشهيد ستار مهدي محمد رضا المعروف ، وهو ابن أختنا وقد اكتسب لقب المعروف لكونه عاش معنا .
كل من هؤلاء كانت له بصمة خاصة تركت أثرها في تكوين شخصيتي .
وأود الاشارة الى ان الشهيد ستار استشهد مع الرفيق الخالد سلام عادل، حيث وجدوه معه في بيته الذي اعتقل فيه بعد انقلاب شباط الأسود 1963 وظل هذا المناضل وفيا لمبادئه ولحزبه، متحملا التعذيب على ايدي المجرمين البعثيين، حتى لفظ أنفاسه الاخيرة ليلة 9 -10 شباط. كنت متأثرا جدا بشخصيته الرائعة وثقافته واخلاقه، وكان هو والرفيق الدكتور محمد علي الماشطة أول من أعطياني دروسا في النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي، وفي ما بعد اخبراني انني اصبحت مرشحا لعضوية الحزب. حينها كنت كمن حصل على وسام كبير.
كانت نضالاتنا آنذاك متنوعة، واتذكر إني شاركت - على سبيل المثال – في أعداد عريضة عن مشاكل الطلبة ومطالبهم، وقد نشرتها لنا جريدة الحرية. وكنت مشاركا في الإضرابات والاحتجاجات الطلابية عام 1956، ولكني لم اصبح عضوا في الحزب الا في بداية ثورة الرابع عشر من تموز عام1958 وكنت حينها في الصف الثالث بدار المعلمين.

وبعد ثورة الرابع عشر من تموز ، كيف سارت الأمور؟

بعدها بدأ ت بالنسبة لي مسيرة النضال الحقيقي التي رافقها نضج سياسي. وحدث ذلك في مجرى التحرك في اتجاه الجماهير، ونشر أهداف الحزب، والمشاركة في فعالياته. وبالنسبة لي بدأت ايضا مرحلة مهمة من التثقيف الذاتي.
وكنت برأي الكثيرين متميزا في نشاطي الحزبي والجماهيري، وكان للحب الذي احاطني به الناس انعكاس إيجابي على حب الجماهير المستقلة للحزب. وارتباطا بذلك تم اختياري سكرتيرا لإتحاد الطلبة. ومن ثم اصبحت عضوا في اللجنة الحزبية لمدينة الحلة.
لم تكن تلك المرحلة سهلة. كان الحزب يعمل على ترسيخ اسس العمل الديمقراطي وتحقيق الأهداف الآنية والبعيدة للشعب، لكن القوى الرجعية كانت قد بدأت تسلك سلوكها المعادي لتطلعات الجماهير ومساعي الحزب.

هل تعرضتم الى مضايقات أو للاعتقال أثناء عملكم الحزبي؟

وكيف لا؟ فالأبواب لم تكن مفتوحة على مصاريعها للنشاط الحزبي والمهني، مثلما يتوهم الكثيرون. انا شخصيا اعتقلت ثلاث مرات في عهد عبد الكريم قاسم. وكان أول اعتقال بعد خطابه في كنيسة مار يوسف، الذي كان بمثابة الضوء الأخضر لشن حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين، رغم ما قدموه من تضحيات. كما جاء إرضاء للقوى القومية ولخطب ودها ومحاولة تبرئة النفس من مسؤولية ما جرى من أحداث في الموصل بعد محاولة الشواف الانقلابية. فعلى إثرها تحركت الرجعية وجرت اعتقالات واسعة في صفوف الشيوعيين، وشملت الحملة أخي مسؤول الشبيبة في منط?ة الحرية والدباش، كما اعتقلت أنا فيما كنت في زيارة لمحلية الحزب في الكاظمية، وبقينا سبعة عشر يوما رهن الاعتقال.
ثم اعتقلت بعد ان كتب لي أحد الرفاق المسجونين فوقعت رسالته بيد الأمن، فاعتقلوني وبقيت في السجن شهرا ونصف الشهر.
اما ثالث اعتقال لي فكان بعد أسبوع من ذلك.
وكيف جرى هذا الاعتقال ؟

لهذا قصة أيضا. حيث أن الرفيق حسن لطيف ( وهو ابن عم سعدون حمادي) جاء ليشرف على تنظيمات الحلة، وقد تم تأمين مكان لمبيته. وكان ذلك في بيت صديق لي كنت أسكنه احيانا واترك فيه بعض ملابسي. وحين اعتقلت قبيل ذلك خشي رفيقنا أن يداهم البيت هذا أيضا ، فانتقل إلى بيت حزبي بتوجيه من الرفاق، وقام بجمع كل ما في بيت صديقي وأخذه معه .
تم صادف ان كبس البيت الحزبي الذي نزل فيه، فوجد رجال الامن محاضر اجتماعات عثروا فيها على أسماء صريحة لبعض الرفاق . كما وجدوا بدلة لي مكتوبا عليها أسمي (بفضل صاحب المكوي الذي كان يكتب أسماء اصحاب الملابس التي يكويها) فاحضروا الأوتجي ) واسمه ما شاء الله جابر وهو من رفاقنا ) فأنكر معرفته بمن جاء له بالبدلة ورجح أن يكون شخصا آخرا غيري. وقد افادتني هاتان الشهادتان. وكان معي في الاعتقال المحامي حسن حجي وداي، الذي اوصاني بان اواصل إنكار معرفتي صاحب البدلة. وقد بقيت رهن الاعتقال شهرا ونصف الشهر، وكان?هناك آخرون تعرضوا للاعتقال، بينهم الرفيقة التي اصبحت في ما بعد زوجتي ووالدها وشقيقها، لان أسماءهم وجدت في البيت نفسه.

كيف التقيتم أنت ورفيقة دربك أم جعفر؟

في آخر انتخابات لنقابة المعلمين والتي تعرضت الى اعتداء من قبل قوى الأمن، كنتُ عضو اللجنة المشرفة عليها نيابة عن القائمة المهنية الموحدة، وكانت هي مشاركة في المظاهرة التي خرجت احتجاجا. كان ذلك قبل زواجنا طبعا، وجاءت مشاركتها سببا مضافا لنقلها إلى زرباطية عقابا لها على نشاطها الحزبي. وهذا جزء من المضايقات للشيوعيين آنذاك والممارسات التعسفية ضدهم .

وكيف جرى زواجكم بعد ذلك؟

بفضل صديقي ورفيق نضالي الشهيد محمد موسى التتنجي، حيث كان هو الوسيط الذي سعى الى خطبتها لي. وقد وجدت فيها خير رفيقة أكمل معها مسيرتي الحياتية والنضالية، نظرا الى أفكارها التقدمية ونضالها المشرف والتوافق الفكري والطبقي بيننا وحسها الإنساني.

هجمة عام 1963 وما رافقها من حملات عشوائية ضد الحزب وأصدقائه. اكيد انكم لم تكونوا بعيدين عنها، ولم يكن حالكم افضل من حال بقية الشيوعيين ؟

اعتقلت أنا واعتقلت أم جعفر .هي كانت ذاهبة الى الحلة وأنا بقيت في الرميثة. كانت فترة اعتقالي سهلة نسبيا، لكني عانيت اكثر من الخوف والقلق بسبب عدم معرفتي شيئا عن مصيرها.
لا أدري كم هي قدرة الإنسان على تحمل العذاب والألم. كنا نتباهى بآلامنا وكأن كل جرح وسام، وحين يأتي الرفيق منا من جولة تعذيب، ترى الرفاق الذين معه ينسون جراحاتهم وينكبون على تضميد جراحه.
أحد المحققين كان أسمه حامد الياسري ، وكان مجرما لا يملك أدنى مشاعر إنسانية. كان يعذبنا بالضرب بأغصان شجرة النارنج، التي تتطوّى بطراوتها موجعة على أجسادنا. وكان يضرب بكل قسوة ووحشية، وكأن هناك ثارات بينه وبين المعتقل الذي يقع بيده. لكننا كنا نتحمل كل شيء من أجل الحفاظ على كرامتنا وسيرتنا النضالية. كان كل جزء في جسدي هدفا للضرب، حتى توزعت الكدمات والرضوض في كل أنحاء جسمي، ونزت مني الدماء. كنت اتمنى الموت على أن أخون رفاقي ومبادئي.
بعد عشرة أشهر أحالونا الى محكمة فصدر حكم بحقنا مع وقف التنفيذ .
بعد الخروج من المعتقل عدنا إلى الرميثة وبقيت علاقتي بالحزب قائمة، لكن من دون علاقة تنظيمية. كنت على صلة بالحزب عن طريق الرفاق ، أتابع التفاصيل الدقيقة لما يجري على الساحة. وكنت أتابع الجريدة ونشرات الحزب في (علوة حبوب) يملكها شيوعي أسمه حمزاوي، استشهد عام 1970. كنت أقرأ الجريدة وبعد ان أكملها نتناقش في مستجدات الوضع ، ثم أودعه وأعود إلى بيتي محملا بأخبار الحزب .