مدارات

في لقاء مع الجالية العراقية في باريس رائد فهمي: التحدي الأكبر هو الخروج من نظام المحاصصة

نظمت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في باريس في 10 كانون الثاني الجاري لقاءً للرفيق رائد فهمي، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب، مع نخبة من كوادر الجالية العراقية في باريس تطرق فيه لأوضاع العراق الحالية والسابقة منذ سقوط نظام الطاغية سنة 2003.
استهل الرفيق رائد فهمي حديثه بعرض ملامح الوضع الراهن في العراق الذي يتسم بتوالي وتعمق الأزمات والصراعات بين القوى السياسية المتنفذة ما يعكس تعمق أزمة العملية السياسية وخروجها عن السكة السليمة واستمرار انحرافها عنها. وأكثر ما يثير قلق العراقيين حاليا تصاعد وتيرة الاعمال الارهابية وتنامي النشاط الاجرامي للجماعات الإرهابية التي باتت تقوم بعمليات نوعية وكمية متقدمة ومنظمة، وصلت الى حد مهاجمة سجون مركزية واطلاق سجناء مجرمين وارهابيين كبار وخطرين واحتلال مدن صغيرة وقرى عديدة، وتقطع طرق رئيسية وتهدد مؤسسات الدولة.
والتراجع في الاوضاع العامة امتد لمختلف قطاعات الحياة ويمس جميع فئات المجتمع. وخلص الرفيق من العرض ليطرح سؤالاً جوهريا يتوجب الاجابة عليه لتحديد اولويات التحرك والعمل لمعالجة الأوضاع: هو كيف نفهم العناصر المحركة للوضع العراقي برمته، وكيف آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن ومن انتعاش وانتشار جماعات ارهابية كـ"داعش" ومثيلاتها وتراجع الوضع الأمني وحدوث اختراقات، بل انهيارات الأمنية في بعض المناطق؟
واستطرد ليتناول أبعاد الأزمة القائمة، فالأزمة اليوم هي أكبر من أزمة حكومة وشخص. ودعا إلى الابتعاد عن الشخصنة، فكل القوى المشاركة في السلطة والتي تقاسمت وتتقاسم الحكم اليوم، مسؤولة عما آلت إليه الأوضاع، ويتناسب حجم مسؤوليتها مع اهمية الموقع الذي تحتله في الدولة والسلطة. فتفاقم الأوضاع مرتبط بالمنطقة وتطورات الأوضاع الإقليمية، والأمور يحتمل أن تسير نحو الأسوأ، فهل العراق مستعد لمواجهة الخطر الإرهابي الإقليمي والمحلي ودرء هذا الخطر عنه من الناحية الأمنية والعسكرية؟ للأسف لا تزال الرؤية السائدة قاصرة، فالحل العسكري والأمني وحده، على اهميته، غير كافٍ. فمثل هذه المواجهة تشترط توفر خطاب وطني جامع مناسب، وأن يقترن بمبادرات واجراءات اقتصادية واجتماعية تتجاوز حالة الشلل والتنافر المجتمعي الناجم عن أزمة نظام حكم المحاصصة، والتي تتبدى في حالة الشلل الحكومي وضعف الأداء الحكومي وغياب الخطاب المشترك الجامع والموحد. فاللوحة الاجتماعية متشظية جداً لم تعد تتلائم مع الخطوط العامة للديموقراطية التوافقية التي كان من المفترض أن تؤدي إلى وضع الأسس الصحيحة لقيام مؤسسات حقيقية، وأدت الاوضاع إلى اهتزاز ثقة المواطن بالمؤسسات الحاكمة لأنها باتت بعيدة عن همومه واحتياجاته الحقيقية وغرقت في لجة الصراعات على النفوذ والمصالح الفئوية والطائفية والحزبية الضيقة حفاظاً على حصصها ومواردها وامتيازاتها ومحاربة أي تأثير يمس هذه المصالح.
ثم عرج الرفيق رائد فهمي على تشخيص عمل الحكومة، وقال بهذا الصدد أن أداء الدولة ضعيف وهناك عجز في مواجهة الفساد وفي تأمين الخدمات الضرورية والأساسية منها. ويؤشر ذلك ارتفاع نسب البطالة، وخصوصاً بين الشباب التي بلغت 20-22% حسب الارقام الرسمية، ولكن النسب الفعلية أعلى من ذلك بكثير، ولا سيما بين الخريجين وحملة الشهادات. وينعكس ذلك على المزاج الشعبي وبمدى ثقته بالمستقبل، واصبح يشكك في جدوى التعليم لأنه لا يؤمن فرص العمل. وتوقف عند العلاقة بين ظاهرة البطالة الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي اقتصاد، كاشفاً عن الجانب الخادع لارتفاع معدل النمو الذي كان بحدود 10% سنوياً، فهو يعود كليا إلى ارتفاع العوائد النفطية. فالاقتصاد الريعي لا يخلق فرص عمل. واورد الرفيق ارقاماً تؤشر الضعف في تنفيذ المشاريع الاستثمارية، حيث تقل نسبة المشاريع المنجزة عن العشرة بالمائة والباقي إما مهمل أو متوقف أو وهمي أو معطل لأسباب عديدة الى درجة أن الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية اخذت تفكر جدياً بالتعاقد مع شركات خبراء أجنبية للقيام بمهام التخطيط والتنفيذ للمشاريع، ما يعكس انحسار الثقة بامكانيات مؤسسات الدولة والكوادر العراقية في تنفيذ المشاريع. وتوقف الرفيق رائد عند ظاهرة تضخم جهاز الدولة الذي ارتفع تعداده من 800 ألف شخص قبل التغيير إلى حوالي 4 ملايين موظف في الدولة، ما انتج ترهلاً يسبب ضعفاً في الاداء.
وفيما يتعلق الأمر بالاقتصاد العراقي فلا تزال طبيعته غير واضحة المعالم. فما هو نوع الاقتصاد في العراق؟ هل هو فعلا اقتصاد سوق؟ بالطبع لا، فلا يوجد تناسب منطقي مقبول بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، ولا وجود لتنافس حقيقي. كما يعاني القطاع الخاص من ضعف الاهتمام به ومت الفتح المنفلت للاستيراد وبالمقابل معظم معامل وشركات قطاع الدولة اما متوقفة او معطلة. واشار الرفيق الى الدور المخرب والمعيق للاعمار والتنمية الذي يلعبه الفساد المستشري في الدولة، والعجز العملي للدولة واجهزتها الرقابية من محاربته بفعالية.
وتناول الرفيق فهمي الأسس التي قامت عليها العملية السياسية وعملية بناء وادارة الدولة. اعتمدت الكتل السياسية الرئيسية في العراق على نظرية تقول إنه من أجل ضمان الاستقرار والسلم الاجتماعي توجب أن يشارك الجميع في السلطة عن طريق النخب التي تمثل الكتل السياسية وان يتم اعتماد مبداً التوافق في اتخاذ القرار وإقرار التشريعات. لكنهم لم يفهموا، أو لم يرغبوا الالتزام بالمعنى الحقيقي للتوافق، وتحوّل هذا المفهوم لديهم إلى ممارسة تعطيلية، وجرى التعامل مع الدولة كغنيمة حيث يجب أن يأخذ كل طرف حصة في الحكم ويجري التفاوض على تقاسم الوزارات ليس وفق مبدأ تقديم الخدمات للمواطن بل حسب ما تمثله من موارد تزيد من حصة كل طرف. واستفحل مرض السلطة في العراق الذي بني على أساس المحاصصة الطائفية وليس على أساس المواطنة، وبات من غير الممكن التوصل الى توافقات وبالتالي شلّت الدولة وبقيت بدون خدمات حقيقية وبدون بنى تحتية متينة وبدون مؤسسات فاعلة، ولذلك لم تحل أية أزمة منذ سنة 2010. وسادت سياسة تأجيل الأزمات بغياب الإدارة الاقتصادية السليمة كما لمسنا ذلك عدة مرات بمناسبة مناقشة ميزانية الدولة الاتحادية، فها نحن في الشهر الأول من سنة 2014 ومازلنا بدون ميزانية لحد الآن. واذا ما جاءت الانتخابات التشريعية أو البرلمانية القادمة في 30 من نيسان القادم بنفس تركيبة القوى فسوف لن تنتج لنا سوى الفشل، إذ لا توجد رؤية مشتركة لأي شيء. لذلك يمكننا القول بأننا لا زلنا لا نمتلك دولة بالمعنى المفاهيمي العلمي وعملية بنائها مشوهة، ما دى لأن يصبح الوضع اقرب إلى مجموعة سلطات مختلفة ومتصارعة.
كما اشار انه لا يتم التعلم من تجارب الأمس القريب واضاعة فرص كثيرة، كما نلاحظ اليوم ما يحدث في ملف الأنبار. ففي التجربة السابقة نجحت الصحوات في تحقيق مكاسب مهمة في محاربة الإرهاب التكفيري، وبدلاً من تجذير هذا المنهج وتحقيق مصالحة مجتمعية حقيقية انتكست التجربة وشعر جزء مهم المجتمع العراقي بأنه مهمش وبقلة الاهتمام بمطالبه المشروعة وما يتعرض له من غبن. فالجميع يتكلم عن المصالحة، ولكن لا يتم تعريف المصالحة مع من؟ وهل هي مصالحة طائفية أم سياسية أم مجتمعية؟ هل هي مصالحة مع البعث؟ لنكن واقعيين، أغلب أبناء محافظات الأنبار وصلاح الدين وحتى الموصل كانوا يتعاطون بشكل أو بآخر مع مؤسسات السلطة السابقة في الجيش والأمن والشرطة والمخابرات والمناصب الإدارية ومنهم من كان مضطرا لذلك ولا خيار له ونسبة منهم كانت متطوعة لذلك. فهل يجب معاقبة الجميع واجتثاث الجميع خاصة وغن غالبتهم محسوبين على مكون معين من مكونات المجتمع العراقي الرئيسية؟ ان عدم إدراك هذه الحقيقة أدى الى حدوث انقسام مجتمعي وفقدان الثقة المتبادلة. والحال ان العملية التصالحية تحتاج لحوار حقيقي ولخطاب توافقي تجميعي يعيد اللحمة المجتمعية بين مختلف المكونات وللأدوات العملية الملائمة من خلال الحوار والتشاور والتداول والتنسيق وإشعار الآخر بأهمية ودوره في القرار والتخطيط والتنفيذ والمشاركة في عملية إعادة البناء. عندها لن يتحول التوافق الى قدرة تعطيلية.
وركز الرفيق رائد فهمي على حقيقة إنه بدون ائتلاف وتوافق وتلاحم مجتمعي لن يكون هناك سلام مجتمعي وسيبقى البلد مهدداً. وأشار الى ان هناك الى جانب ضعف الأداء وغياب الكفاءة، يوجد اشخاص اغلبهم من كبار التجار والمقاولين يؤثرون من وراء الستار سابقاً وظهروا علنا في الآونة الأخيرة وبأسمائهم الصريحة ليعلنوا تمويلهم واسنادهم لقوائم انتخابية. ويعكس ذلك تبلور الملامح الاجتماعية السياسية للفئات المستفيدة من الاقتصاد الريعي والاعتماد المتنامي للبلاد على الخارج، حيث يقدر اجمالي الاستيرادات اكثر من 70 مليار دولار خلال العام المنصرم. وهذا يفسر مقاومة تطبيق التعرفة الجمركية. وتكمن المخاطر والمحاذير في تكرس مظاهر التواطؤ بين هذه الشريحة مع مسؤولين كبار في جهاز الدولة، أي إن هناك مصالح متبادلة بين الجانبين مقابل تأمين الحماية وعدم الملاحقة القانونية. فلقاء المصالح هذا يولد قوة معيقة للإصلاح. ولقد جرى إعداد واصدار ما يزيد على اثني عشر استراتيجية تخصصية وخطة اصلاح كإصلاح النظام الإداري وإصلاح نمط إدارة الدولة وبنائها على أساس توفير الأمن والاستقرار وتأمين فرص الاستثمار. ولكن عملية الاصلاح تصطدم بمقاومة كما يدور صراع حول مضمونها.
ان التحدي الأكبر الذي يواجه العراق وقواه السياسية لأجل حل الازمة، هو الخروج من نظام المحاصصة عبر خطوات واجراءات متتالية، من اهمها حالياً تطبيق قانون الخدمة العامة حسب الكفاءة والتخصص ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب عبر مجلس الخدمة.
الداء الأخطر عندنا هو ضعف المواطنة، ولكي يشاع شعور المواطنة والانتماء للوطن وليس للطائفة أو المذهب او العشيرة أولاً، لا بد من وجود دولة مدنية ديموقراطية كشرط أساسي لمواجهة التحديات التي تواجه البلد والتي بدونها لا يمكن عمل أي شيء جدي. عدا القطاع النفطي الذي يعيش بصورة شبه مستقلة عن كافة هذه الصراعات لوجود الشركات الأجنبية التي تتولى عمليات التنقيب والاستخراج بعد جولات التراخيص. الدولة المدنية شرط موضوعي لحل مشاكل البلاد.
وفي الاجابة على اسئلة الحضور ومنها ما يتعلق بامكانية حدوث انقلابات عسكرية، اشار الرفيق إلى انه بغياب الوعي السياسي والانتخابي والايمان بآلية الاقتراع الديموقراطي وارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت حتى من قبل جماهير الكتل الكبيرة الحاكمة من شأنه أن يضعف المرتكزات المادية للتجربة الديموقراطية وآليات الممارسة الديموقراطية. فاليأس من شأنه أن يجعل الشعب ينتظر المخلّص، وما يثار من مخاوف عن حدوث انقلابات يرتبط بنمو دور العسكر والمؤسسة العسكرية التي يمكن أن تفرز مثل هذا المخلّص القوي. المشكلة تكمن في قانون الانتخابات الحالي الذي صيغ لصالح القوى السياسية المتنفذة التي تلجأ غالبا للخطاب الشعبوي وتلعب على مخاوف الناس. ومع ذلك علينا خوض المعركة الانتخابية بروح الايمان بالقوى الجماهيرية وليس بروحية انهزامية.
وبعد ذلك بدأ نقاش مثمر بين الرفيق رائد فهمي والمشاركين وأجاب على كل تساؤلاتهم واستفساراتهم، خاصة عن دور الجيش ومظاهر عسكرة المجتمع ومخاطر حدوث انقلاب عسكري وغيرها من المواضيع.
مقتطف من تقرير د. جواد بشارة