المنبرالحر

اصلاحات الكنيسة الكاثوليكية و احزابنا الثورية - 2- / د. مهند البراك

و رغم صيحات الاستنكار التي انطلقت من عقالها للهجوم على البابا فرانسوا سواء من الاوساط المسيحية او الاسلامية الاكثر تطرفاً . . يعبّر البابا بأن التغييرات ضرورة ملزمة، املاها التطور الفكري و الحضاري البشري في عالم اليوم الذي يؤدي الى " فهم جديد للعقيدة " . و ان حبّ الحقيقة و الوصول اليها يكون عبر طرق متنوعة، و انه ـ اي البابا ـ يصل الى الحقيقة عن طريق المثالية بجانبيها : الفلسفي و الديني، و هو ليس خروج عن العقيدة التي تضغط و تتطلب ذلك، و ان الواقع الموضوعي القائم هو مصدر تغيير الافكار و المعتقدات التي تفعل فعلها في ادمغة و فكر البشر، و في دماغه و فكره هو ـ اي البابا ـ كفرد منهم .
و يرى متخصصون بأن هناك مشاكل كبرى تواجه الكنيسة الكاثوليكية، و على البابا واجب حلّها، حيث تتزايد اعداد المؤمنين الكاثوليك الذين تُرغمهم مصالحهم الدنيوية و متطلبات حياتهم، على العيش بما يتناقض كثيراً مع المعتقدات الراسخة في الديانة الكاثوليكية، فتضيق بهم كنيستهم و ديانتهم، الامر الذي يؤدي الى هجرهم ايّاها و ابتعادهم عنها . حتى صاروا منغمرين سواء عن قناعة ام عن اضطرار، منغمرين في نمط حياة يناقض المعتقدات الدينية الكاثوليكية بشكل شبه كامل.
و يرى مراقبون، انه بعد ان فشلت محاولات المؤسسة الدينية الكاثوليكية لإعادتهم الى "الطريق القويم" بأنواع الإصلاحات و التعديلات، استجابت الكنيسة الكاثوليكية لحقائق الواقع العنيد . . وقررت أنْ تتغيَّر هي فكرياً وعقائدياً بما يجعلها أكثر تصالحاً مع هذه الحقائق وجماهيرها؛ أمَّا الغاية فهي استعادة المؤسسة الدينية ما فقدته من "نفوذ شعبي روحي" !!
و يضيف معلقون كنسيون، بأن البابا يقول الآن لذوي الميول الجنسية الملعونة دينياً من قبل، وللمثليين جنسياً، ولمؤيِّدي الإجهاض، وللمحافظين والليبراليين والشيوعيين والملاحدة، ولغيرهم: أبواب الكنيسة مفتوحة لكم على مصاريعها : أنتم، وعلى الرغم مما تحملون و ما عليه من أحوال فكرية ومعيشية وسلوكية، ما زلتم مؤمنين مسيحيين؛ وإيَّاكم أنْ تظنُّوا أنَّكم قد غدوتم مارقين من الدين؛ فالمعتقدات الدينية الجديدة والصحيحة تَتَّسِع لكم، وبما أنتم عليه !
و يضيف بأننا اليوم (أي الفاتيكان) لم نعد قضاة، و انما نحن الأب المُحِب لأبنائه جميعاً؛ وهذا الأب لا يدين أبنائه، نحن اليوم قومٌ حداثيون، عقلانيون، منفتحون و ندين التعصُّب. و يصف مراقبون مايحصل، و كأنه دعوة إلى تحويل "الكنيسة" من (حزب حديدي ـ صخري في وحدته ـ) إلى (حزب ليبرالي) يتَّسِع لجمهور أوسع من المسيحيين، ليتّسع نفوذه الروحي الشعبي.
بل حتى الخوف من (جهنَّم)، ومن (كل عقاب قاسٍ في الآخرة)، نزعه البابا من القلوب، بعودته و تطويره لتعريف الكنيسة الكاثوليكية الحديث، بأن " الرّب محبة " . . حبّه لأبنائه، و للبشر جميعاً، لا يحده حد، و من ثم فإنَّ (جهنَّم) تُناقِض هذا الجوهر الإلهي، فالرَّب ليس قاضياً، ليس جلاَّدا، ليس مُعذِّباً لأبنائه ولو كانوا من القوم الكافرين، إنَّه يحنو عليهم، ويحتضنهم، جميعاً.
و يرى البابا ان " الحقائق الدينية " ليست ثابتة مُطْلَقة، لا تتغيَّر، ولا تتطوَّر . . بل انّها تتغيَّر وتتطوَّر باستمرار. وبعد أنْ يصف الإنجيل بأنَّه "كتاب مقدَّس جميل"، يُعْلِن البابا، وفي جرأة غير معهودة بتقدير متابعين، أنَّ بعض أجزاء هذا "الكتاب المقدَّس الجميل" قد عفى عليها الزمن، و بما معناه انها شاخَت، وتقادم عهدها .
وأخيراً، يرى خبراء بأن ثورة البابا فرانسوا بلغت اوجها، بانتقاله من آينشتاين إلى هيجل، قائلاً إنَّ الرَّبَّ نفسه لا يشذّ عن ناموس التغيُّر والتطوُّر؛ فهو في تغيُّرٍ وتطوُّرٍ مستمرين.
وعلَّل البابا تطوُّر الرَّب قائلاً: إنَّ الرَّب يسكن فينا، وفي قلوبنا . . ونحن البشر في تطوُّر مستمر، ولا بدَّ للساكن فينا، وفي قلوبنا، من أنْ يتطوَّر بتطوُّرنا !
لقد استنفذت البشرية زمناً طويلاً للتسليم بفكرة التطوُّر التاريخي للإنسان؛ أمَّا البابا فرانسوا، أو هيجل الفاتيكان، فشرع يؤسِّس لفكرة التطوُّر التاريخي للرَّبِّ نفسه، لكنَّه لم يُجِبْ بما يكفي من الوضوح عن السؤال الفلسفي العظيم الآتي: هل تطوُّرنا نحن البشر (مع مجتمعاتنا) هو انعكاس لتطوُّر الرَّب الساكن فينا، وفي قلوبنا، أم هل تطوُّر الرَّب نفسه هو انعكاس لتطوُّرنا نحن البشر؟ البابا يكاد أنْ يقول: كما تكونوا، يكون الرَّب !
وفيما يرى علماء تأريخ و اجتماع، بأن هذه التطورات و الخطوات الجريئة للكنيسة الكاثوليكية، القلعة الصخرية التي تشكّل كتلة من اقوى كتل المحافظين في العالم، ستفرض تغييرات كبيرة ـ شئنا ام ابينا ـ في المذاهب الكنسية الاخرى و في الاديان الاخرى، لأنها تقوم جميعاً على ذات الاسس التي تغيّرت و تتغيّر، و انها يمكن ان تؤدي الى تقارب الاديان و تآخيها رغم صيحات استنكار بيوتات اكثر تطرفاً مسيحية و اسلامية سعودية .
فإنها لاتشكّل الاّ نداءً قوياً لأحزابنا الثورية ذات التأريخ اللامع في النضالات الشعبية و التي قدّمت و تقدّم انواع التضحيات في سبيل خير و سعادة مجتمعاتها، للقيام باصلاحات اكثر راديكالية و جذرية فيها مما قامت به حتى الآن، بما يعزز قربها و تلاحمها مع تجمعات و حركات و مطالب و درجات وعي الشباب اليوم و بالذات الكادحين منهم، فان كسب الشباب هو البوصلة الصحيحة لنجاحها . . اصلاحات و تغييرات اعمق سواء في خطابها و اصول بناء و حياة تنظيماتها، او حركتها و اساليب عملها و التناغم الاكثر فعالية لنشاطها لكسب جماهير النساء، اللواتي يقع عليهن العبء الأكبر ممايجري في منطقتنا، رغم الاصلاحات التي قامت بها احزابنا، التي ان خدمت شيئاً، الاّ انها بتقدير حريصين لا تفي بما تتطلبه النضالات الشعبية في وقت يتسيّد فيه المال و السلاح و الخرافة المتلبسة لبوس الدين في مجتمعاتنا .
و يرى سياسيون و مجربون بأن التغييرات العميقة التي يقوم بها البابا ستزيد من الاعداد الهائلة للمناضلين من اجل الحرية و سعادة الانسان في مواجهة الواقع القائم على الارض و ليس في الخيال . . انها تغييرات تزيد كثيراً من فُسَحْ الامل بتوسيع قوى الجبهات المناضلة من اجل الحريات و الكرامة و المطالب الحياتية، لتصهر و تضم ملايين جديدة من جماهير الاديان الى القوى و الاحزاب الثورية العاملة من اجل التغيير، بتوسيعها فرص و تنوّع مجالات التوافق و الاتفاق على النضال من اجل الديمقراطية و العدالة الاجتماعية للجميع . . (انتهى)