المنبرالحر

ذكريات من ايام شباط 1963/ بشار قفطان

يوم الثامن من شهر شباط عام 1963 جرى تنفيذ عملية الانقضاض على ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 في ابشع انقلاب دموي استهدف قادة الثورة الاماجد وكل من وقف الى جانب تأييد مكتسباتها الديمقراطية والتقدمية .. وجرى انقلاب بدعم دولي واقليمي معاد لمصالح الشعب العراقي .

وسبق تنفيذ الانقلاب، الإضراب الذي قاده الاتحاد الوطني لطلبة العراق في شهر كانون الاول من عام 1962. والاتحاد الوطني من واجهات حزب البعث العربي الاشتراكي . وقد حذرت بعض القوى اليسارية والديمقراطية خصوصا الحزب الشيوعي العراقي واتحاد الطلبة العام، من ان الإضراب مؤشر بداية العمل لتنفيذ مخطط الإطاحة بمكتسبات ثورة الرابع عشر من تموز التقدمية، يضاف الى ذلك تهاون أجهزة الأمن وبعض الأجهزة العسكرية مع المتآمرين ومثيري البلبلة في الوسط الطلابي. وقيامها بمطاردة واعتقال العناصر الطلابية التي وقفت بوجه ذلك الإضراب. في يوم الجمعة الأول من شباط انطلقت تظاهرة جماهيرية من شوارع الكفاح والجمهورية والرشيد، شاركت فيها جماهير واسعة من اتحاد الطلبة العراقي وأنصار السلم ورابطة المرأة العراقية وبعض النقابات العمالية والمهنية. وكانت نقطة التقائها في ساحة الميدان متوجهة الى وزارة الدفاع ،الهدف من التظاهرة مطالبة الزعيم عبد الكريم قاسم بضرورة تطبيع الأوضاع في كردستان وعدم تحديد فترة لوقف القتال الذي اندلع في كردستان في أيلول عام 1961 وتوقف في مطلع عام 1963 بتأثير الضغط الشعبي بمهلة وشروط محددة. وكان بعض المتظاهرين من ممثلي الاتحادات والنقابات يحملون تواقيع ومذكرات فيها مطالب اهمها عدم تحديد مهلة لوقف القتال والنقاط الواجب تنفيذها لتعزيز السلم في كردستان، وحل المسألة الكردية حلا عادلا واتخاذ الإجراءات الضرورية لتعزيز الديمقراطية في العراق. وقد تصدت أجهزة الأمن والانضباط العسكري الى المتظاهرين وتم اعتقال العديد منهم. يوم السبت الثاني من شباط كان محبو شاعر العرب الأكبر ألجواهري على موعد مع جريدة المستقبل ورئيس تحريرها الاستاذ رسمي العامل، الذي وعد القراء بنشر قصيدة (دجلة الخير) على صفحات الجريدة. في ذلك اليوم نفذت أعداد الجريدة من المكاتب والباعة بسبب تلهف الجماهير الى قراءة ما يقوله الجواهري وسط الوضع السياسي المتردي الذي ينذر بالشؤم . وعصر يوم الاثنين الرابع من شباط كانت المنظمات الجماهيرية (اتحاد الطلبة والشبيبة ورابطة المرأة وبعض النقابات العمالية والمهنية) خرجت بتظاهرة جماهيرية انطلقت من ساحة المتحف في علاوي الحلة، وقبل انطلاق التظاهرة كانت الجهة المقابلة للمتحف تغص بالناس، وحسب بعض الباعة على الأرصفة وأصحاب المحلات ان هذا الزحام هو للتبضع ، ولكن في تمام الساعة الخامسة هتف احد المتجمهرين مطالبا بإحلال السلم في كردستان .اخذ عدد من المتجمهرين يخرجون الشعارات من بعض المحلات الموجودة ويَنّضمون للتظاهرة. وكنت انا قصير القامة نحيف البنية، وأسير في المؤخرة، عندما طلبت من احد المتظاهرين ان يحملني، لبى طلبي.. وهتفت بالمجد والخلود للشهيد (بولص متي) الذي اغتيل في احدى مناطق بغداد مطلع شهر كانون الثاني من قبل رجال الامن اثناء تعليقه لافتة تدعو (للسلم في كردستان). كان اتجاه التظاهرة نحو ساحة جسر الشهداء، وأثناء السير سألني احد المتظاهرين الذين يسيرون بجانبي وهو طويل القامة: هل أنت مكلف بالهتاف..؟ اجبته بالنفي، ولكني تصرفت .. رد علي قائلا : لا تكرر ذلك، وكن في وسط التظاهرة. نفذت الأمر بدون اي اعتراض او جدل.. وصلت الحشود الى ساحة الشهداء وكان في استقبالها مجموعة من أفراد الأمن والشرطة والانضباط العسكري ومجموعة شقاوات من منطقة الجعيفر. وأثناء إلقاء مطالب المتظاهرين، قامت تلك المجموعة بمهاجمة المتظاهرين بالعصي والهراوات وبوكسات الحديد .. وبعد مواجهات الدفاع عن النفس واعتقال البعض ، تفرقنا وكانت وجهة البعض منطقة الشواكة التي كانت أفضل ملاذ آمن للخلاص من ملاحقة أجهزة السلطة، نظراً لتعاطف أبناء المنطقة مع المتظاهرين. استطعت الوصول الى الفندق الذي اسكن في احد غرفه مع شقيقي الأكبر في محلة الذهب منطقة علاوي الحلة. هكذا كانت فعالية يوم الاثنين الرابع من شباط، قبل حصول الانقلاب بأربعة أيام.

الحديث عن المؤامرة واطرافها المدبرة و ساعة التنفيذ يجري على الألسنة بشكل علني .. وقد أشيع ان الوزير الكردي عوني يوسف ابلغ الزعيم عبد الكريم قاسم عن تحركات اعداء الثورة.
كنت مع شقيقي نذهب مساء كل خميس الى مدينة البياع ضيوفا عند بيت عمتي نغتسل وننظف ملابسنا وصباح الجمعة نعود من حيث اتينا. وهذا ما حصل لنا مساء السابع من شباط , صبيحة الجمعة الثامن من شباط وكالمعتاد خرجنا متوجهين الى مركز العاصمة. وقبل الوصول الى سيارات الأجرة قطع التلفزيون العراقي بث برامجه المعتادة وأخذنا نسمع من المارة عن حدوث انقلاب . وسمعنا إطلاق العيارات النارية .
عدنا أدراجنا الى البيت وسط اضطراب في حركة المرور وكثافة إطلاق العيارات النارية .. صعدنا الى سطح الدار فشاهدنا طائرتين نوع ميغ تتناوبان القصف. اتفقنا بيننا أن وزارة الدفاع هدف الطائرتين. بدأ الانقلابيون بإذاعة المارشات والبيانات العسكرية عن نجاح انقلابهم وإناطة المهمات الحرس القومي بالإضافة الى الجيش وإعلان منع التجول في جميع أنحاء العراق، وبرقيات التأييد من قبل عناصر البعث المتغلغلة في القوات المسلحة وبعض أجهزة الدولة .
صباح التاسع من شباط أذيع بيان عن استسلام الزعيم عبد الكريم قاسم. وكنا نتابع التلفزيون عندما أعلنوا إعدامه ظهر ذلك اليوم هو والشهيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب والشهيد طه الشيخ احمد والشهيد كنعان. وكان عرض صور الإعدام منظرا مؤلما و موجعاً .
يوم العاشر من شباط قررت الخروج من البيت والنزول الى مركز العاصمة .. غادرت البيت بالرغم من معارضة شقيقي . شاهدت أفراد الحرس القومي يمسكون بالساحات العامة وتقاطع الطرق , وصلت الى ساحة الشهداء وعبرت جسر الشهداء باتجاه شارع الأمين وأردت الدخول الى "قمبر علي "للاستفسار عن اقاربي الذين يسكنون فيها لكني صادفت احد اقاربهم سيد نعيم السيد خلف خرج منهم توا يروم الذهاب الى مدينة الحي وأكد لي ان اقاربي في خير ..وأبلغته طمأنة الأهل في الحي . واصلت السير باتجاه ساحة زبيدة ومن ثم دخلت شارع الكفاح باتجاه ساحة النهضة محلة الكولات. حركة المرور في الشوارع التي قطعتها تكاد تكون معدومة وأثار الدمار والقصف واضحة للعيان. واصلت السير في شارع الكفاح وعند وصولي تقاطع سينما الفردوس شاهدت مجموعة من افراد الحرس القومي تقف بالقرب منهم سيارة جيب عسكري واحدهم بيده جهاز لاسلكي والآخرون يغسلون الدماء الموجودة في الشارع بواسطة صوندة ماء. أردت التوجه نحو الكولات فمنعوني. عدت أدراجي ودخلت في احدى الدرابين القريبة من سينما الفردوس , أترقب فرصة أخرى . أعدت الكرة واستتطعت دخول المكان الذي اروم الوصول اليه وسط اجراء تفتيش دقيق واستفزاز من قبل اثنين من افراد الحرس القومي. ثم سمحا لي بالدخول الى المحلة , حيث رأيت مجموعة من الحرس القومي اخرجوا ساكني الدور من منازلهم وراحو يجبرونهم على إرسال برقيات تأييد الى حكومة الانقلاب , استغرب أقاربي من هذه الزيارة غير المتوقعة , وبعد الاطمئنان عليهم غادرتهم مشيا على الأقدام إلى اقرب محطة وقوف باص رقم 17. جعلت وجهتي مدينة الكاظمية منطقة النواب ( بستان علاوي ) حيث دار سكن احد أصدقائي محسن يونس العاني .. استطعت الوصول الى بيت الأخ محسن وسط دهشته واستغرابه من كيفية وصولي اليهم, ومدينة الكاظمية كانت لها خصوصية في مقاومة الانقلاب. واخذ يتحدث لي عن البطولات التي سطرها ابناء المدينة ضد الانقلاب واحتلال مركز شرطة النجدة والقائم مقامية، والدور البارز الذي لعبه الشهيد سعيد متروك وكيفية إعدامه.
عدت الى مدينة البياع عصر ذلك اليوم وقصصت على من في الدار جميع مشاهداتي .
في يوم الخميس 14 شباط أذيع بيان يدعو جميع العاملين في اجهزة الدولة وطلبة المدارس والكليات والمعاهد والجامعات الدوام يوم السبت 16 شباط والذي يتخلف يفصل من الوظيفة والدراسة .
يوم السبت 16 شباط ذهبت الى الدوام في معهد الصحة العالي في منطقة العيواضية وقد وضعت في الحسبان ما يحصل في ذلك اليوم. لم يتعرض لنا طلبة الاتحاد الوطني وقد ارتدوا ملابس الحرس القومي و يعرفون مواقف معظم الطلبة من الإضراب.
يوم 17 شباط تم استدعائي وزميل أخر وهو عادل شمخي الى إحدى الغرف في المعهد التي اتخذها الحرس القومي مقرا , وجرى التحقيق معنا حول رأينا في ثورتهم ... وسبب موقفنا المعارض للإضراب.
أرسلونا بسيارة خاصة الى احد الدور السكنية التي استغلها الحرس القومي في منطقة العلوازية. وجدنا في تلك الدار العديد من المعتقلين وخصوصا الطلبة. وشاهدنا بعض المراسلين وخصوصا المصريين . وانبرى احد افراد الحرس القومي خاطبا فينا وكنا مجموعة من الطلبة قائلا : مساء البارحة استطعنا تصفية القيادي الشيوعي توفيق منير وهو يقاومنا من على سطح داره من دون جدوى ..
اصعدونا الى الطابق الثاني من الدار، وجدت الزميل عدنان حسوني . الذي حثنا على التخلص من السريات التي بحوزتنا تحت الكاربت المفروش. وكان عدد المعتقلين غير مستقر في تلك الدار، وعند المساء اخذوا منا سبعة عشر معتقلا واركبونا في سيارة بيكب وسط حراسة مشددة وساروا بنا في طريق مظلمة غير معبدة كثيفة الاشجار والنخيل. كانت محطتنا النادي الاولمبي في الاعظمية, أصعدونا إلى الطابق الثاني وسط الاهانات والكلمات النابية الاستفزازية وإجراءات التشخيص من قبل أفراد الحرس القومي ونحن نسمع العويل والصراخ نتيجة التعذيب الوحشي الذي يمارس ضد المعتقلين .
في ساعة متأخرة من تلك الليلة تم إرسالنا بسيارات شرطة مشبكة إلى معتقل خلف السدة، وأودعنا في القاعة رقم عشرة والتي صار عدد نزلائها أكثر من مائتي معتقل من مختلف الديانات والقوميات والمذاهب , عدنان صالح بابجان نائب المدعي العام في محكمة الشعب . محمود شاكر طوبيا , سعدون الزهيري . ماجد عبد الستار . عبد الوهاب عبد الرزاق . غالب حاج محمد الجنديل . الشهيد عيسى اليوسف , حسن عيدان. وصار ممثل المعتقلين في القاعة جواد كاظم التعيسي . ليلة اطلاق سراحي سألني: عندك مصرف؟ اجبته نعم . قال لي كم عندك.؟ قلت له دينار براسه. قال لي تتبرع للحزب الشيوعي ..؟ قلت له نعم .. كم تعطي؟ أعطيته الدينار وأعاد لي ثلاثة أرباع لتبقى مصرفا لي ..
ولا انسى عندما وصلنا في احد الايام ( زنبيل ) احتوى عدة انواع من الطعام عن طريق الخطأ. وكان من محتوياته دجاجة محشية وجدنا بداخلها بياناً للحزب عن الاوضاع في البلد، مع رسالة الى من امرأة زوجها تخبره فيها عن الوضع الذي تمر به العائلة وعن استعدادها موافاة زوجها عن المستجدات. استطعنا انا والزميل عادل شمخي التعرف على زوجها وسلمناه البيان والرسالة, فتنازل هو عن محتويات ( الزنبيل ) من الطعام.