المنبرالحر

عوداً على ما بدأوا / فلاح هاشم

مرةً أخرى نعودُ الى بهاء سمائك السامقة .. أيها الشهيد السعيد.. يا من أغدقت العطاء.. ولما لم تجد بين يديك سوى روحك .. لم تبخل بها.. قربانا لحلمك الجميل.. مما دعوته وطناً حراً .. وتوسمتَ ناسَـه شعباً سعيدا.. ورأيت الحرية والسعادة غايتين مقدستين.. وأن العيش بدونهما لا معنى له.. فهانت عليك الحياة من أجل بلوغهما.. غيرَ نادم.. وأنت تردد أمام الموت :
(لو تيسر لي أن أولد من جديد لما أخترتُ غيرَ هذا الطريق)
فأنعم بشهادة الشرف الرفيع من أجل الشعب والوطن يا خالد الذكر.
وإذ نتنادى كلّ عام في ضيافتك .. فأنما لكي نرى ما آلت اليه آمالُ شعبنا وما انتهت لأفقه أحوالُ الوطن. وهل هما في أيدٍ أمينة تضعُ مساراتهما على الطريق الصحيح رغم تضاريسه الصعبة
أو التي تبدو كذلك؟
اسمح لي أن أطلعك على ما رأيت بعينيَّ دون الأعتماد على روايات الرواة .. لكي لا أقع في مطبات مبالغاتهم أو تحريفات أهوائهم .. انني أحدثك كشاهد عيان زار الوطن بعد ثلاثة وثلاثين عاما من الغياب القسري مفارقاً الأهلَ والأصدقاءَ ومواطنَ الذكريات .. لا لسبب سوى أنه اقتفى خطاك ايمانا بنزاهة الأهداف وصدقية وطنيتها..
في البداية لا أُنكرُ نـشـوتي في كسر هذا الحاجز النفسي الذي ولَّـدتْهُ السنواتُ بيني وبين سماء العراق.. ولا أغمط شهامة الشباب العاملين في مكاتب المطار حسن تعاملهم وكذلك لجنة التشريفات التي كانت بانتظاري.. كوني ضيفاً على مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي كما لابد لي من أن أشكرالضيافة الكريمة التي حظيت بها أثناء المهرجان .
لكنني رأيتُ في غضون عشرين يوماً بعد المهرجان الذي دام عشرةَ أيام أشياءَ مذهلةً لم أكن أتوقعها رغم كل ما حصَّنت به عقلي كي لا يصدمني شئ .. ...
رأيت مجتمعاً وكأنه عاد الى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة .. من حيث استشراء الروح العشائرية وروح البداوة - أقصد الجانب السلبي منها - ولن أقول الحساسيات الطائفية لأن هذا - وفقَ ما أحسستُ - غيرُ موجودٍ سوى في أذهان القوى والأحزاب الطائفية التي تتناطح من أجل مصالحها الضيقة الأفق والمريضة .. رغم نجاحها في تسويق بضاعتها هنا وهناك لتُحرّكَها متى شاءت من أجل أن تسوقَ الرياح نحو شراع مركبها المتهرئ.
وبدلاً من تطوير الريف ومنح أبنائه الكرام كلّ ما يستحقون من رعاية صحية وتعليمية وتـثـقـيـفـية مع تطوير امكاناتهم في الأنتاج.. أقول بدلا من ذلك.. توفرتْ كلُّ الظروف التي دفعتهم للهجرة زاحفين الى المدن .. لتنقلب المعادلة .. من تمدين الريف الى ترييف المدن.
حتى العاصمة غارت سماتها المدنية فتخلفت عمرانياً وأجتماعياً.
وسوف أرجئ الحديث عن الخلل في العمران .. ولن أحدثك عن تدافع السياسيين الذين حولوا شاشات التلفزة الى حلبات للملاكمة فهذه مشاهد لا نحتاج الى ذكرها لكثرة ما أصابنا تكرارها وتفاهتها بالغثيان.
سأحدثك باقتضاب عن الخلل الأكثر عمقا هو ما حصل في بنية الأنسان النفسية والثقافية وما أصاب وعيه في الصميم ..
ولعل من آليات الشغل لتحقيق هذا الهدف .. اهمال الجانب التربوي والتعليمي. لقد ألتقيت شبانا في العشرينات من أعمارهم لم يدخلوا مدرسة ولم يتعلموا حتى كتابة أسمائهم؟
كانت سيارات السايبة - ايرانيةُ الصنع صفراءُ اللون - تغطي شوارع بغداد كسيارات أجرة .. حتى ان أعدادها تفوق أعداد السيارات الخاصة .. يقود الكثير منها من حدثتك عنهم ممن لا يقرأون ولا يكتبون. رغم أن أغلبهم لم يغب عنهم السبب فيما هم فيه من جهل. . بل ويعرفون من الذي أوصل البلاد الى هذا الدرك من سوء الخدمات واحتقان الشارع وتخلف البناء على كل صعيد. ترى هل نبني أملا على وعيهم ؟ ربما .. لكنني أأسف اذ أعتقد من جانب آخر أن أغلبهم سيدفعون لأنتخاب ذات الوجوه التي يقولون أنهم نادمون على انتخابها في المرات السابقة .. فوعيهم مهما زاد يبقى هشا أمام اثارة عواطفهم الدينية والطائفية.
ثم ماذا رأيت ؟
رأيت خريجي جامعات يفضّلون أن يأخذوا مرضاهم الى المشعوذين وفتاحي الفال بدلاً من الطبيب. وثمة قنوات فضائية تضخ بهذا النهج من أجل الربح.. مسوِّقةً دجالين أصبحوا نجوماً في المجتمع دون أن تتدخل جهاتٌ مسؤولةٌ لحماية الناس من تخريفاتهم التي تسرق الوعيَ والمال.
قلت في نفسي: هذا هو الفرق.. كنا ومازلنا نعتقد بأن أي انسان يتعلم ويتثقف انما هو رصيد لنا .. وحتما أن القوى المنكفئةَ الوعي التي سجنت نفسها في غبار التاريخ ترى في كل جاهل رصيداً لها.
كما رأيت تغييراتٍ ديموغرافيةً لا أفهم لها سـبباً سوى منحى طائفيٍّ مقيت .. اذ أُفرغت مناطقُ بأكملها من أجل اصطفاف مذهبي واحد - لايهمني أيا كان - .. لكن أثر ذلك واضحٌ في تحويل حقولٍ منتجةٍ على مدِّ البصر الى مناطق ميتة تقطنها جماعاتٌ لا تُـتـقـنُ الزراعة وليس لها أهتمامٌ بتربية الثروة الحيوانية.
وتساءلت باستغراب: أين ذهب فلاحو مئات القرى في هذه الأرياف الجميلة وماذا حلّ بهم ؟ هل هناك من يقنعني ان هؤلاء البسطاء المنتجين الذين لم تصل عوائلهم الى الشارع العام قد هاجروا الى أوربا ؟ أو الى مدن أخرى ؟ ربما استطاع البعض .. ولكنني أسال عن مصير الآلاف منهم .. ممن وَجدوا على عتبات منازلهم رسائل تهديد بالمغادرة أو الموت .. لأن عقدة عمليات الأنفال ما زالت تؤرق الضمائر الوطنية الحية.
والسؤال مَن المسؤول عن هذا النهج الأعمى الذي جعل أبناء الشعب الواحد المتآخي على مدى مئات السنين يسمحون بتمرير أجندات تقودهم الى الأحتراب والقتل المجاني؟ هل سنضع رؤوسنا في التراب ونلقي اللوم والمسؤولية على مشجب النظام البعثي المقبور فقط؟
أم أن القوى التي احتلت الساحة السياسية بعد رحيله قد جاءتنا باصطفافات سياسية على خلفيات مذهبية جرّت البلاد لكل هذا الخراب وتركت وطننا عرضةً للتمزق شعباً وأرضاً؟ وهاهي الأحزاب والتيارات ذاتها ما زالت أمامنا متخندقةً تقود بلا هوادة سلسلةً من الأزمات التي لا تجد مناخاً تنتعش فيه خارجها. خالقةً هذا الجحيم اليومي دون أن تعبأ بما تلحق بالأرض والبشر من كوارث.
أيها الشهيد المضحي بالروح من أجل شعبك ووطنك. . ثمة من أجهض الأحلام مرتين ..مرة حين سدّد البندقيةَ لصدرك ولصدر شعبك من خلالك .. وثمة من اختطف البلد مرة أخرى لنعيش سنوات الجمر .. أمام نفق لا تُدرَك نهايتُه المظلمة .. ونحن نخوض صراع الظلمة والنور .. لكن الظلمة ما زالت شرسة.
فانعم مرة اخرى بعلوِّ سمائك البهية .. ولن أطيل الحديث أكثر لأن ثمة أشياء لا تثير في النفوس الا الحزن والأسى والخوف على مستقبل شعبنا الجريح الذي يعيش الفقر وانتهاك انسانيته أمام الحاجة لمقومات العيش الكريم وهو يملك ثروةً تعادل ميزانية ست دول مرفهة. الا فليخجل هؤلاء الذين يتراشـقون التهم عبر الفضائيات .. وهم يخوضون معاركهم الجبانةَ دون أن يتحملوا شرف مواجهة فشلهم والوضع المزري الذي أوصلوا اليه البلاد .. بينما تتورم حساباتهم الشخصية في الداخل والخارج.