المنبرالحر

الذمم المالية المجهولة / ابراهيم المشهداني

ان المقياس الاخلاقي لأية امة يتجسد في التزام العاملين فيها بقواعد النزاهة والحفاظ على ثروتها ضد العابثين فيها بأي شكل من الاشكال ومهما كان مركزهم الاجتماعي والسياسي والديني، وثروة الامة واحدة سواء وجدت ضمن اطار ملكية قطاع الدولة او القطاع الخاص.
وبناء على هذا الفهم فان الدولة ملزمة بتوزيع الثروة على مواطنيها بمقدار الخدمة والنفع المؤداة من قبل المواطنين للقطاع العام او للقطاع الخاص وتوفير الخدمات العامة لعموم الشعب بصورة عادلة وشفافة ولهذا فقد وضعت الدولة التشريعات الخاصة بتوزيع الثروة والحفاظ عليها من الفاسدين الذين غالبا ما يمارسون مختلف الطرق والحيل لمصادرة الثروة الوطنية غير عابئين بحقوق المواطنين في هذه الثروة. والأخطر في هذه الحالة ، وهي من الجرائم التي يحاسب عليها القانون, ان يتحول الفساد الى منظومة من الهياكل والإجراءات تصب في نهب الثروة?الوطنية وتستخدم من اجل اهدافها الشريرة مختلف الاعمال، بما فيها السرقات المنظمة واعمال القتل والتهديد والابتزاز ,كل هذه الاعمال تدخل فيما نسميه بالجريمة المنظمة التي تتمتع اليوم بقوة نافذة.
لقد اتاح النظام الصدامي المقبور ،وبسبب من حروبه وعدوانه على دول الجوار، وما ترتب على ذلك من فرض اجراءات دولية تمثلت بحصار ظالم قل مثيله ربما كان الغرض منه عند اصحاب القرار الدولي الضغط على نظام صدام للتراجع عن عدوانه او ربما ارادوا تحريض الشعب على الانتفاض وقد فعل. لكن الامريكان وحلفائهم سمحوا للنظام بقمعه بكل ما يملك من وسائل الفتك باسوأ ما شهده التاريخ الانساني. وقادت هذه الاجراءات وضنك العيش العديد من موظفي الدولة الى اللجوء الى الرشوة والاختلاس والتلاعب بالمال العام وكذلك فعلت قيادة السلطة ما هو ابشع?من ذلك.
ولن ننسى عمليات السلب والنهب التي صاحبت سقوط النظام وغياب الامن وتشكلت في هذه الظروف عصابات منظمة تلتها تشكل ميليشيات ساهمت في خلق فوضى عصفت بأمن البلاد وثروتها فلم ينج مصرف حكومي او اهلي من عمليات السطو وتم ذلك ليس بمعزل عن اداراتها.
لهذه الاسباب مجتمعة اقدم الحاكم الاداري الامريكي بإصدار القرار رقم 57 لعام 2004 لتشكيل مكاتب المفتشين العامين ومن بعده مفوضية النزاهة في خطوة هشة لتشديد الرقابة على عمل مؤسسات الدولة والحفاظ على الممتلكات العامة ومحاسبة المتسببين بهدر المال العام وكان في مقدمة الاجراءات الكشف عن الذمم المالية ابتداء من رئيس الجمهورية حتى درجة مدير عام ومن درجة وزير حتى رتبة مقدم وعلى الرغم من صدور قانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011 الا ان النواب الذين تم الكشف على اموالهم لا يزيد عن 100 نائب حسب تصريحات النواب انفسهم وعل? الرغم من ان نهاية كانون الثاني هي اخر فترة للكشف عن الذمم المالية إلا ان هذه العملية لا يمكن الحكم عليها إلا بالفشل. ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه لماذا الاحجام عن كشف الذمم لكبار المسؤولين بالرغم من التحذيرات والتهديد باتخاذ الاجراءات القانونية بحقهم إلا ان المانع لم يكن سوى التستر على الاموال الضخمة التي تجاوز عليها هؤلاء ولم يكن مصدر هذه الاموال سوى عمليات فساد منظمة وهو بكل المقاييس تجاوز على حقوق الشعب فكيف اذا كان من نواب يفترض ان يكونوا المدافعين عن الحقوق العامة وبدلا من ذلك يناضلون من اجل سن الت?ريعات التي تضخم من ثرواتهم المجهولة؟ وإذا كان قانون هيئة النزاهة خاليا من تحديد العقوبة المقتضية فان العقوبة متوافرة ليس فقط في قانون العقوبات وإنما في قوانين اخرى عامة او خاصة ، القضاء كفيل بتكييفها قانونيا.
ان الحفاظ على الثروة الوطنية من خلال التصدي لعمليات الفساد والنهب المنظم والهدر المالي هي مهمة الدولة بالدرجة الاولى وخاصة السلطات الثلاثة كما انها مهمة المواطنين ومنظمات المجتمع المدني من خلال تشكيل حركة احتجاجية ضاغطة انطلاقا من حرية التعبير التي كفلها الدستور ومن خلال كشف ذمم «الطبقة» السياسية العليا تحت شعار (من اين لك هذا) ولكن يبدو ان التحذيرات الحكومية من مغبة استمرار ظاهرة الفساد لم تأت اكلها لسبب بسيط وهو ان في الجهاز التنفيذي نفسه من يتستر على الفساد.