المنبرالحر

تمرير قانون التقاعد نص كوميدي / عبدالمنعم الاعسم

وقائع الجلسة البرلمانية التي مُرر خلالها قانون التقاعد الموحد، والملاسنات التالية لها، تصلح ان تكون موضوعا مسرحيا كوميديا، في المعنى الموصول بعملية التصويت نفسها وما رافقها من نفاق مصمم له، وفي المبنى الذي يتصل بالنص والابطال والكومبارس والأقنعة والسينوغرافيا.. لكن، ثمة ما يسمى بالكوميديا السوداء التي تثير البكاء والعويل قدر ما تثير من الضحك والسخرية: منتفعون قليلون ومتضررون بالملايين. هناك حفنة وهنا وطن. ممثلون يضحكون على بعضهم، وجميعهم يضحك على الجمهور.
توم ستوبارد، كاتب مسرحي بريطاني، كتب نصا ساخرا وآسيا، من الكوميديا السوداء، عن ممثلين وجمهور تحولوا الى حالة من الجنون بعد ان اوصلهم تجار السياسة ووكلاؤها الى انعدام الوزن، بقوة القمع والكذب.
حسنا ما الذي حدث في قاعة مجلس النواب يوم الاثنين، الثالث من شباط عام الفين واربعة عشر؟ في الفصل الاول، مُرر قانون التقاعد الموحد. لكن المهم هو ما حدث خارج القاعة، وقبل التئام المجلس، إذ تحلّق رؤساء الكتل والماسكون بأرواح النواب من القوى المقررة، حول طاولة رئيس مجلس النواب، ووقعوا وثيقة القانون التي تضم المادة 37 موضع الجدل والانتقاد بما تتضمنه من امتيازات مفرطة وغير مقبولة لأعضاء المجلس والرئاسات. ثم اعطي النواب الاشارة الخضراء للتصويت بـ"نعم".
حتى الآن لا شيء خارج سياقات التصويت الاصولية، لكن الكوميديا تتمثل في ان بعض رؤساء الكتل والكثير من النواب لم يكونوا ليفضلوا ان تُظهرهم الشاشات الملونة وتقارير الصحف والاذاعات باعتبارهم موافقين على القانون وذلك لدواعي الدعاية الانتخابية، وكان مسرح الاحداث، بما يحتفظ به من مرافق (صالة. اجهزة تصويت الكترونية. كافتيريا. ممرات..) قد اعطى النص هامشا للنفاق والضحك على الذقون. فقد كان جميع الحاضرين (باستثناء افراد بعدد اصابع اليد الواحدة) موافقين على تمرير القانون لأنه يؤمن لهم منافع اسطورية، منتزعة من قوت الشعب، لكن البعض منهم اختار الانتظار، وتجنب التصويت ريثما تتضح مناسيب الـ"نعم" لينعم بالادعاء الزائف بمعارضة القانون إذا ما هبت العاصفة. اما البعض الآخر فقد فضل متابعة المعركة من الممرات او من الكافتيريا ليكون حاضرا وغائبا بحسب الموقف.
الفصل الثاني، ينفتح على مجلس النواب وهو يشرّع قانون التقاعد الموحد والمادة 38 منه بـ120 صوتا، لكنه يؤشر بعض النواب المحسوبين علنا على (لا) وهم يصوتون بـ(نعم)، والمشكلة ان طريقة التصويت الالكتروني قامت بواجبها في اخفاء الاسماء وتركت المجال امام المهاترات والادعاءات والتخاشن بالكلام والتهديد باللجوء الى القضاء والتسقيط. حتى ان نائبة اضطرت الى اعلان "الاعتذار الى الشعب العراقي" لكنها، وفي نفس الوقت، هاجمت الذين كشفوا عن تواطئها مع مادة الامتيازات وشكت من انها ضحية لمحاولات التسقيط (لماذا اعتذرت إذن؟) وكُشف عن موقف نائب كان يريد التصويت بـ(نعم) لكنه حين رصد وصول الموافقين الى العدد المطلوب لإمرار القانون صوّت بـ(لا) لتسويق معارضته للقانون، في وقت لا قيمة لهذه المعارضة، إلا لخداع الجمهور.
اما الفصل الثالث، فهو ثيمة المعارك على الشاشات وفي كواليس البرلمان، إذ تتسرب قذائف من الشتائم المتبادلة، تصلح ان تكون مؤثرات صوتية للمسرحية الهزلية التي عرضت، ولا تزال تُعرض، في صالة مجلس النواب الذي يفترض ان يكون مكانا مهيبا ومقدسا. والحق، انه لم تحل قدسية القبة البرلمانية، عبر التاريخ، دون ان تنشب مشادات من العيار الثقيل، فقد شهدت كاتدرائية القديس بارثولوميوس في فرانكفورت العام 1562 عراكا بالايدي والالواح على خلفية تمرير قرار بتتويج احد الاباطرة الجرمانيين.
المعركة واحدة كونها تجري بين حرامية، لكن ادواتها تختلف.
ستارة.. تصفيق.
*******
"ان اسوأ ما يواجه الانسان من مصاعب يبدأ عندما يتاح له ان يفعل ما يريد".
أفلاطون