المنبرالحر

(ابو ذيبهْ) لمناسبة الذكرى الثمانين/ عبد الله السكوتي

جاء في كتاب افواه الزمن للكاتب ادواردو غاليانو، وتحت عنوان كلمات ضائعة انه في الليل، ينجز آبيل لدي الينكار مهمته المحظورة، بينما هو مختبىء في مكتب في برازيليا، يستنسخ، ليلة بعد ليلة، اوراقا سرية من ارشيف جهاز الامن العسكري: تقارير، بطاقات، ملفات تسمي عمليات التعذيب تحقيقا، والاغتيالات مواجهات مسلحة، خلال ثلاث سنوات من العمل السري، استنسخ آبيل مليون صفحة، انه سجل اعترافا متكاملا للديكتاتورية التي كانت تعيش آخر ازمنة سلطاتها المطلقة على حياة ومعجزات البرازيل كلها.
في احدى الليالي، بين صفحات الوثائق العسكرية، اكتشف آبيل وجود رسالة، وكانت الرسالة مكتوبة قبل خمسة عشر عاما، لكن القبلة التي تختمها بشفتي امرأة كانت سليمة، لقد وجد، منذ ذلك الحين، رسائل كثيرة، وكل واحدة منها مرفقة بالمغلف الذي لم يصل الى المرسل اليه، لم يكن يدري ما يمكنه ان يفعل، فقد انقضى زمن طويل، ولم يعد هناك من ينتظر هذه الرسائل، كلمات مرسلة من المنسيين والميتين الى اماكن لم تعد هي نفسها، والى اشخاص لم يعودوا موجودين، انها كلمات ميتة، ومع ذلك عندما يقرأها يشعر آبيل انه يقترف انتهاك حرمة، هو لا يستطيع ان يعيد هذه الكلمات الى سجن الملفات، ولا يمكنه اغتيالها بتمزيقها.
في نهاية كل ليلة، كان آبيل يدس الرسائل التي يجدها في مغلفاتها، ويلصق عليها طوابع جديدة، ويلقي بها في صندوق البريد، وفي الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي تجاذبت الافكار طويلا حتى احالتني الى سنة 1978 والى شارع الرشيد، حيث كنت لم ازل طالبا في الاعدادية، والتقيت هناك صديقي الذي يكبرني عمرا والذي هرب وحتى اهله لم يعلموا الى اين، انه الشيوعي العريق كاظم هاشم جبرة الله (ابو ذيبه)، ليعرفني على مجموعة من الشيوعيين العراقيين الهاربين من البصرة والعمارة، وهم يتخذون من فنادق شارع الرشيد ملجأ لهم، لكن الغريب في الامر انه دس في جيبي جريدة طريق الشعب وهي بحلة مختلفة، كانت عبارة عن استنساخ لاوراق طويلة، لكنني فرحت بها كثيرا، انفرد بي على جهة، وقال لي: قل لاهلي انني لن اعود، ولن اتنازل عن الحزب، لم يرد ان يعرضني للخطر وحاول ان يختصر اللقاء كثيرا، هذا اللقاء بقي معي سنين طويلة، لكنني كنت اتساءل عن ابي ذيبة كل يوم، الى ان توصلنا الى انهم قد القوا القبض عليه هو ومن معه، وهو في الامن العامة يخضع لتعذيب شديد لانه يسب حزب البعث كما عهدته وهو في الحرية، وبقينا ننتظر ابا ذيبة، تنازل الشيوعيون وهرب الشيوعيون، والبراءة كانت بسيطة، والدخول في النشاط الوطني سهلا مريحا، منهم من اودع في مستشفى الرشاد بعد ابرة زرقت له في العضلة، ومنهم من اضحك رجال الامن وخرج منتصرا ليستقل سيارة من علاوي الحلة ويحط رحاله في الاردن، ومنهم من احتج بعائلته، كما فعل زبون ، فقد بقي زبون لاعوام عديدة وهو بدون اطفال، ولكن بعد ان جاءته صابرين، القي القبض عليه، ولم يطول كثيرا فقد خرج وهو يقول: شتريدون ايتم صبرا، لكن بقي الحزب نبضا في قلوب الشيوعيين واصدقائهم على كثرة الجهاز الاستخباراتي الامني، وكثرة الوكلاء الامنيين، ليصل الامر بعلي تكنلوجيا ابو اوميد، وقد التقيته بالصدفة في البانزين خانة في الثورة داخل، حيث يتناول الجنود افطارهم ان يدعوني في سنة 1987 : الاتعود لقد اعدنا خلايا كثيرة للحزب، كان يرتدي الزي العسكري وهو مهندس، قلت له : الا تعلم ان الاعدام لكل عسكري يتحزب في الجيش لغير حزب البعث، فقال انا مؤمن بالاعدام، وافترقنا ولم اره ثانية فقد اعدم، بعد اعدام ابي ذيبة بثلاث سنوات، هذا الحزب وجد ليبقى وهو عصي على الفناء، لقد قارع الطغاة بمختلف الازمنة، قارع العنف بالفكر، وهو الان امام امتحان عسير آخر، كيف له ان يوفق حركته مع كثرة الحركات المناوئة والافكار المتطرفة، وهو من المؤكد قادر على اقتحام الساحة فهو صاحب الاوله كما يقولون وصاحب الاوله ماينلحك.