المنبرالحر

هل تختفي هذه المساوئ بعد انتخابات عام 2014 / فرات المحسن

في الأدبيات السياسية تصنف بعض الدول حسب استراتيجيات خططها للسير بحياة شعوبها، وما تقدمه من خدمات، وما يكسبه البشر من منافع جراء تلك الخطط. منذ عملية الإطاحة بالدكتاتورية البعثية في العراق ولحد اليوم درجت معاهد البحوث على توصيف دولة العراق بالدولة الفاشلة، وقدمت في هذا التوصيف الكثير من الدراسات والشروح عن الكيفية التي جعلتها توسم العراق بمثل هذه الصفة. ومن الجائز القول أن مثل هذا التوصيف يحمل شيء من التجميل، حين يشير للعراق بصفة دولة، رغم اختفاء ما يشي بوجود مؤسسات وهياكل رصينة توحي أو تؤشر لوجود مثل هكذا صفة . فانهيار الدولة العراقية إثر الاحتلال الأمريكي لم يجد ما ينفع من سياسات وبرامج لإصلاح مثل هذا الخلل الفادح والكبير.
ورغم ما بدر من السياسيين العراقيين من ردود فعل غاضبة واستنكار للتوصيف أعلاه، نجد أن أكثر من عشرة أعوام لم تستطع سياسات السلطة وأحزابها الحاكمة مجتمعة من أخراج العراق بعيدا عن وضعه في أسفل قائمة الدول الفاشلة. فالتخبط الاقتصادي والسياسي بقي السمة الغالبة لخطط السلطة، أو الأحرى السلطات العراقية المتعددة. وشكل هدر المال العام وسرقته وسوء الإدارة وفشل استراتيجيات التنمية والبناء الملامح الأكثر قتامه في المشهد العام.
مع ظهور المافيات السياسية وسيطرتها على الكثير من مفاصل الحياة الاقتصادية ، بقيت السلطة التنفيذية ممثلة بشخص السيد المالكي، الذي استحوذ على مصادر القرار في العديد من دوائر الدولة وبالذات منها أجهزة وزارتي الداخلية والدفاع ومعهما الأمن الوطني، دون أي معالجات يعتد بها. وما برحت الحرب ضد الإرهاب الذريعة المنتقاة وفي مقدمة التبريرات الجاهزة لمسببات الإخفاق.
في الغالب فأن الفشل العام لا يمكن اجتزاؤه عند نقطة سوء وأخطاء الخطط الأمنية والاقتصادية الموضوعة والمعدة لإدارة الدولة، بقدر ما يخضع للكثير من الاشتراطات التي توسم الحراك السياسي للقوى السياسية التي تدير مفاصل السلطة بالفشل وانعدام المهنية والتخصص، وسوء السلوك والتخلف والنفاق والطفولية والذرائعية والتهرب من المسؤولية. فالصراع على تقاسم المغانم دائما ما ترافق وسباق مميت لغرض الطعن بقدرات الأخر ومحاولات إفشال وتخريب خططه ونواياه وطموحه، رغم إدعاءات الشراكة والحرص على الوحدة الوطنية. ومثل هذان الملمحان طبيعة الخراب العام الذي أجتاح مفاصل السلطة وغيب بالكامل هيكل الدولة التي هي مخربة في أساس تركيبتها وهياكلها منذ بدأ سيطرة الدكتاتور صدام حسين على السلطة.
دون استثناء جميع القوى السياسية التي شاركت في الحكومة مارست عمليات تخريب الوطن سعيا للحصول على مغانم حزبية وشخصية. فإن كان السيد المالكي سعى دائما للاستئثار بحصة الأسد من مصادر الثروة والقوة فأن حلفاءه وكذلك الخصوم الذين شاطروه إدارة السلطة كانوا ومازالوا لا يقلون عنه جشعا وإيذاء للعراق، لا بل وفي العديد من المفاصل المهمة من شؤون الحياة كانوا ساعين للتخريب أكثر من المالكي ومجموعته.
لأجل خلق جو من الشراكة بين القوى السياسية أبتدع دون ضوابط مهنية ما سمي بمبدأ المحاصصة وأريد فيه تثبيت حقوق جميع الأطراف السياسية عبر تقاسم الثروة العراقية ومراكز إدارة الدولة، وقد قدمت الأحزاب لإدارة الوزرات والتسلسلات الإدارية فيها، شخصيات لم تكن مؤهلة تعليميا ومهنيا لإدارة شؤون تلك المؤسسات، ومنذ البداية لم تكن تلك الشخصيات مؤهلة لإعادة هيكلة الوزارات وإعادة بناء دولة العراق بعد سقوطها على يد الاحتلال الأمريكي. وتوافق الجميع على التقسيم والشراكة مع الإفراط بالتذمر والشكوى منذ لحظة الإعلان عن التشكيل، وكانت الشكوى والتذمر في حقيقتهما استباقا لنوايا مضمرة للجم الشريك الأخر وإحراجه كي لا يتجاوز الحدود والمنافع التي نالها .
لم يكن السيد المالكي وحزبه يمتلك من الوزارات غير الرئاسة وأثنين أو ثلاث، ولكنه أعتمد على شركاء من كتل حليفة تمتلك وزارات سيادية مثل السيد حسين الشهرستاني وهادي العامري وحسن الشمري، ومع مضي الوقت أستطاع وضع اليد على وزارتي الدفاع والداخلية ليكون القوة الضاربة التي ترعب الشركاء قبل الأعداء. ولم يتوقف عند تلك الحدود بل راح يمد أذرعه لتحتوي مجلس القضاء الأعلى ولجنة النزاهة والبنك العراقي وهيئة المسائلة والعدالة، وأبتدع مجلس للعشائر والإسناد ثم وضع تنظيمات الصحوات بإمرة مريديه لتكتمل مصادر تفوقه على الشركاء . وبالمقابل فأن الشركاء (الخصوم) في باقي الوزارات ودوائرها اختلقوا معادلة ترضي النفس وتطمئن الطموح لتبعدهم عن سطوة رئيس وزرائهم، فقد سعى هؤلاء للاستحواذ على مصادر قوة وثروة وزاراتهم ليبقيهم هذا الحال كأنداد لباقي الأخوة الأعداء لتصبح الوزارات قطاع خاص أو شركات عائلية وحزبية للوزير وحزبه أو عشيرته وأتباعه لينتفعوا بما تدر عليهم ميزانية الدولة من تخصيصات، ودوائر الوزارة من ريع المقاولات وبيع وشراء الذمم. وظهرت جميع الوزارات ومؤسساتها دون استثناء بعيدة كل البعد عن الاهتمامات اليومية للمواطنين، وليس في وارد خططها ضمان توفير الحاجات الأساسية للحياة ومن ضمنها الحريات المدنية والبيئة الصحية والغذاء والسكن والتعليم والكهرباء والماء الصافي والصحة وغيرها الكثير، وأصبح المواطن يشعر بأن أغلب ما تفعله الوزارات وبالذات الخدمية منها لم يعد معني بتحسين معيشتهم ولا يوجد لدى الوزارات معايير ثابتة لممارسة وحل المشاكل المألوفة للشعب.
وبناءا على تلك الصورة المشوهة من التركيبة السلطوية وأدائها غير المتزن وعدم تنظيمها وربكتها فقد فقدت بالكامل الثقة الشعبية بها، وما عاد المواطن يثق بقدرتها على إدارة الدولة وعلاج ما خلفته فترة حكم الدكتاتور صدام ومن ثم الاحتلال وما تبعه من خراب عام.

البرلمان العراقي

أن كانت السلطة التنفيذية قد وقعت في كومة الجنايات والأخطاء التي سببت مجمل هذا الخراب والخيبات فأن السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان العراقي كانت عاملا مهما في ديمومة واستشراء تلك المآسي والنكبات وشاركت بقوة في إفشال مشروع بناء دولة المؤسسات والقانون. فهناك خطوط واضحة وغير قابلة للمساومة لتحمل المسؤولية القانونية في التشريع. ولذا يقع على عاتق هذه المؤسسة الثقل الأكبر في تحمل المسؤولية للحفاظ على نظام ثابت ومتوازن للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. فالمجلس التشريعي أي البرلمان هو السلطة المفوضة للحفاظ على تراتيبية العملية السياسية باختيار التشريعات التي تمثل التيارات الرئيسية للرأي العام، ووضع القوانين التي تضبط الأداء الفعال والمناسب للخدمات العامة، عبر إخضاع جميع أعمال وخطط السلطة التنفيذية للمراقبة التشريعية من خلال مقاربتها للدستور المقر، وعبر معايير وأسس لتشريعات تصب في مجمل محاورها لصالح المواطن العراقي.
أن العلاقة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية خلال الدورتين الدستوريتين، يمكن لها أن تؤشر الكثير للامساك بالمشهد العام وتفسير الخلل الحاصل في العملية السياسية بنموذجها الحالي، ولذا يطرح السؤال الأتي: هل كان البرلمان العراقي بمستوى تلك المسؤوليات؟. الإجابة على هذا السؤال تحتاج لمجموعة ليست بالقليلة من الوقائع التي تمكن المرء تقييم العلاقة ومن ثم وضع توصيف كامل لما حدث من إشكالات بين السلطتين. وأختصر لأقول أن واقع المحاصصة قيد بالكامل عمل المؤسستين وفرض عليهما العمل بمنظومة سداها ولحمتها وغايتها ووسيلتها عدم الثقة ثم النفرة والخصومة والمنافع الحزبية والشخصية وهذا مجمل العلاقة بين السلطتين وداخلهما.
دائما ما يتذرع البرلمان العراقي بتدخل السلطة التنفيذية بأعماله ومحاولة الضغط عليه لإيقاف أو إلغاء محاولات سن نوع من أنواع التشريعات التي تتعارض أو تقيد خطط السلطة التنفيذية أو الأحرى سلطة السيد رئيس الوزراء، ومثل هذا القول يحمل من الصحة الكثير مثلما يمكن نفيه لو تسنى للمرء الإطلاع على حيثيات يومية يعيشها البرلمان وأعضائه وأحجام الكتل. فالبرلمان العراقي ومنذ الدورة الأولى توزع وفق أسلوب المحاصصة على ثلاث كتل كبيرة، سميت كتل الأقوياء، ضاع بينها الصوت المستقل، الذي بقي خافتا خجولا لا يتمكن من وضع لمساته في أي تشريع كان. ثم حدث ما كان متوقعا، حين انشطرت تلك القوائم لأسباب حزبية وشخصية مبتعدة كليا عن أولويات التشريع الخاص بمصلحة ممثليها وعموم الشعب، متخذة جانب المصالح الجهوية بعيدا عن النزاهة والعودة إلى مصادر الدستور والنصوص القانونية. وعلى وفق هذا التوجه الحزبي الضيق أختصر مجموع البرلمان برؤساء الكتل، وهم وحدهم من يحدد كيفية علاج المشاكل وأولوياتها ومدى توفر المنافع الحزبية والطائفية لهذه الكتلة أو تلك وما على باقي الأعضاء غير الطاعة العمياء لتنفيذ تلك الرغبات. عند هذا المشهد أختزل عمل البرلمان ليتحول لصراع أضداد ومناكفات ولي أذرع . وانعكست على أداء البرلمان الصورة المشوهة للعمل الحزبي الداخلي الذي في غالبيته يفتقد حرية التعبير ويتمتع بالمركزية الصارمة التي تضيق الخناق على العضو وتمنعه من أن يكون له صوتا مفردا، لا بل اجبر عضو البرلمان ومنع من أن يصنع رؤيته الذاتية للحدث. ولذا فقد القدرة على أن يكون فعالا في النظام التشريعي.
ورغم صفة الشراكة المزعومة التي أطلقت على تشكيلة السلطة التنفيذية فان مثل تلك الصورة نجدها تختفي بالكامل داخل أروقة البرلمان ليحيلها التخندق الطائفي والقومي إلى نزاعات تعدم بسببها المبادرات والترتيبات التشريعية الخاصة بمعالجة المشاكل المتراكمة، والتي تم تحديدها كأوليات من ضمن اهتمامات الشعب ومطالباته. وتختفي في أروقة البرلمان الكثير من الترتيبات والإجراءات المهمة والضرورية لحل النزاعات وبناء الثقة بين أبناء الشعب العراقي. كذلك تختفي في أدراجه نتائج كثيرة دبجتها لجان تحقيق في حوادث كان من الممكن للبرلمان أن يعرضها بشفافية وصدق للجمهور الذي صنع البرلمان.واختفت بالكامل قدرة البرلمان على نقد السلطة التنفيذية ومحاسبتها وفق الصيغ الدستورية التي منحت له، لا بل لم تكن للبرلمان سلطة حتى على أصحاب المناصب الرسمية ومحاولة إخضاعهم لإجراءات المسائلة وحكم القانون حين تقع الخروقات والجنايات الكبرى. وتمحورت معارك الكتل وبالذات رؤسائها حول كيفية منع وإفشال خطط الأخر ولجمه ، لتكون نتائج هذا الصراع في نهاية المطاف وبالا على الشعب العراقي.
أذا أستمر الحال بعيد الانتخابات الحالية على ذات الآليات المشوهة في العلاقات بين القوى السياسية، وأعيدت ذات الهياكل التراتيبية في عمل السلطة التشريعية والتنفيذية، فأن ما ينتظر العراق لهو أسوء مما عليه الحال الآن، وسوف تستفحل صورة الخراب دون أن توجد حلول حقيقية ومنطقية. ورغم ظني الذي أرجو أن يكون خاطئا، فان الانتخابات الحالية لن تظهر تغيرا حاسما يمكن له إنقاذ العراق وشعبه، وأبعاده عن أسفل قائمة الدول الفاشلة.