المنبرالحر

العقل الجمعي ونتائج الانتخابات البرلمانية العراقية وفسحة الأمل !!!/ د. عامر صالح

كل متتبع للأوضاع السياسية في العراق لا يراوده الشك أن التغير المنشود الذي يبني حاضر ومستقبل الأجيال القادمة كي تنعم بالأمن والاستقرار والخدمات ورفع مستوى العيش وتحسين ظروف الحياة العامة لا يزال بعيد المنال في ظل الصراعات السياسية ـ الطائفية والاثنية التي افرزها نظام المحاصصات السياسي ـ الجغروطائفي، وهي صراعات ليست تنافسية سلمية من اجل فرز القيادات السياسية والمهنية والتكنوقراطية لقيادة البلد، بل هي صراعات من النمط ألتناحري العدواني بعيدا عن مصلحة الوطن، والذي يفضي بنتائجه البعيدة إلى تفتيت الوحدة الوطنية وتمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع عبر إشاعة العداوة والكراهية والأحقاد بين المكونات الثقافية والدينية والاجتماعية والاثنية والقومية للوطن الأم !!!.

وان العملية الديمقراطية بأداتها الانتخابية لتعزيز التداول السلمي للسلطة، وان بدت من الناحية الشكلية سلمية في الأداء، أي لا يوجد فيها أكراه للصوت الانتخابي في إقرار مرشحيه والجميع يذهب إلى صناديق الاقتراع بإرادة " حرة " أو يمتنع عن التصويت " رغم مضاره الكبيرة " بعيدا عن تقاليد الإكراه الانتخابي لمرشح ما كما جرت العادة في النظام الدكتاتوري الفردي، إلا أنها مجردة من موضوعيتها العقلية ـ المعرفية في منح الأصوات لمن يستحق، وبات التصويت ليست على برامج كما هي العادة في الديمقراطيات الراسخة، بل أن التصويت يعكس بمقياس كبير فحوى الصراعات التناحرية ـ العدوانية للكيانات السياسية بعيدا عن انتقاء الأفضل والأصلح من المرشحين والبرامج لنقل البلد إلى بر الأمان والاستقرار الفعلي، وبالتالي أصبحت صناديق الاقتراع في هذه التجربة الانتخابية البرلمانية 2014 كما في سابقاتها تعيد إنتاج الصراع المحاصصاتي وتكريسه وإضفاء الشرعية عليه عبر صناديق الاقتراع، وتشكل نتائج الانتخابات كتحصيل حاصل مقدمات لازمة للدخول في عقد الصفقات السياسية المذلة بحق الوطن والمواطنة كما جرت في السابق، وبدورها تعيد تكريس الأوضاع السابقة بما فيها من حالات احتراب وحرمان !!!.

لقد أتت صناديق الاقتراع هذه المرة أيضا بالزعماء السابقين الذين لم يلق منهم غير الوعود التي لم تغنى ولم تسمن، والتي عاش في ظلها التوافقية والمحاصصة والنزعة الطائفية، واستشراء الفساد المالي والإداري والمحسوبية والمنسوبية، ولم يتلق شيء من الخدمات العامة من كهرباء وماء وصحة وتعليم، ولم ترى في ظلهم النور أي من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.

من الناحية المنطقية وفي ظروف تجذر الممارسة الديمقراطية في المجتمع فأن حصول المرشح على أصوات الناخبين يتعلق بكفاءة المرشح وقناعة الناخبين أن يعمل المرشح لتحقيق انجازات ومكاسب لناخبيه في حالة فوزه، وتلك هي ثوابت مستقرة في الوعي المعرفي والعقلي للناخب في مجتمعات الديمقراطية العريقة واستنادا إلى الخبرات السابقة مع مختلف المرشحين وأنتمائاتهم السياسية.إذن فلماذا حصل العكس لشعبنا العراقي عندما أقدم على صناديق الاقتراع فمنح أصواته...فأتى بمن أتى وهذا حقه المشروع من الناحية الشكلية في اختيار ممثليه !!!.

ليست بالضرورة أبدا أن تكون الانتخابات العراقية مزوره من خلال التلاعب بفرز الأصوات أو إلغاء أصوات أو الشك بمجهولية العديد من الصناديق الانتخابية وعزلها من عملية الفرز، بل الأخطر من هذا هو تزوير إرادة الناخب من خلال تعبئته تعبئة خاطئة قبل وصوله إلى صناديق الاقتراع، تستند في جوهرها إلى تقنيات تشكيل الوعي ألقطيعي الحشدي وتحويل شرائح واسعة من مجتمعنا إلى كتل حشديه متأثرة بالعقل الجمعي الانفعالي وليست كتل انتخابية متمايزة ومتنوعة تقتضيها ضرورات البقاء النافع والتطور اللاحق للبلاد، ومن هنا فقد الصوت الانتخابي قيمته في إرساء ملامح مستقبل أفضل، رغم هناك بصيص أمل لملامح تشكيل بديل ديمقراطي رغم اكتنافه صعوبات جمة !!!.

أن عهد الديمقراطية في العراق هو وليدا وأن الثقافة الديمقراطية لشعبنا لا تزال قيد التشكيل والاختبار، فلازالت ذهنية الانقضاض على المنافس الآخر وإقصاءه هي الفيصل في السلوك السياسي، بل يرى البعض في الديمقراطية هي الفرصة الذهبية " للفرهود" و للفساد بمختلف مظاهره، ومع هذا فأن شعبنا لا يريد العودة إلى الوراء، بل هناك تجليات للمضي قدما من اجل إرساء دعائم الديمقراطية.

أن مجتمعنا العراقي هو مجتمع قبلي وقد كرست فيه القبلية بفعل مختلف السياسات منذ عقود ثم انتهاء بالطائفية والمذهبية لتضفي على ذلك شرعية جغروـ طائفية متحجرة، رغم أن هناك حقبا تنويرية بفعل تأثير قوى الديمقراطية فيها إلا إنها مرت بانحسار بفعل الضربات القاسية التي تعرض لها تلك القوى والتي كادت تقتلعها من الجذور، وبهذا ترك شعبنا أسيرا في العراء وضحية لمن يتجاذبه، وهكذا أيضا ترك شعبنا ضحية لثقافة الغنيمة والكسب والاستحواذ، مما كرس مفاهيم الشعب ـ الرعية، وأن التعامل معهم ليست ككيانات إنسانية مستقلة وإنما عبر ممثليهم من القبائل والطوائف والمناطق والحارات والأسر مما ترك شعبنا ضحية لمختلف مشاريع الاستمالة والإغراء، أن ذلك لا ينسجم مع صيرورة المجتمع المدني، وأن الخلاص من ذلك يستدعي ترسيخ مفهوم المواطنة والمجتمع المدني، وهذا بالتأكيد يتطلب جهدا ليس بالهين لكي يتخلص شعبنا من هذه الانتماءات الضيقة التي لا صلة لها بالمواطنة وبالخيارات الحرة وبثقافة الانتخاب التي تتطلب مزيدا من الاستقلالية في السلوك.

أن التجربة السياسية ما بعد سقوط الدكتاتورية في تعبئة الجماهير تعرضت إلى التشويه والمسخ من قبل الكثير من الأحزاب مستفيدة من ارث الدكتاتورية البغيض، لتعيد الكرة في تشكيل وعي الجماهير بما يتفق مع مصالح هذه الأحزاب عبر التزييف وتشويه معالم الوعي الإنساني الفردي للمواطن من خلال ترك الانطباعات المختلفة التي تصور الأهداف الذاتية والمصلحية والنفعية بأنها أهداف عظيمة ومقدسة ومشروعة ويتخيل إلى المواطن بأن هذا الحزب أو ذاك يسعى لصالحه، وبالطبع فأن هذا العمل يتطلب مهارات عالية "وقدرات استثنائية خاصة " للعبث بإحساسات وحواس الجمهور من خلال الإعلام المتنوع والمغريات المختلفة واستخدام للمال الحرام والإسراف في استخدام السلطات الحكومية، وقد تم تزيف الوعي من خلال شخصيات كاريزمية في الأحزاب أو في المجتمع، دينية أو سياسية يتم من خلالها تسويق أفكار الأحزاب إلى الجماهير التي تتقبل هذه الأفكار بناء على تقبلها وحبها البريء للشخصية الكاريزمية سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، وخاصة في مجتمع خرج للتو من نظام دكتاتوري كانت مهمته زرع قيم الذل والخنوع والعبادة الفردية والاستسلام واستلاب أرادة المواطن لتحويله إلى رقم أصم يسهل حسابه بمختلف الاتجاهات دون معنى يذكر!!!.

أن هذا السلوك السياسي المرضي يفضي إلى خلق اتجاهات تضعف الشخصية العراقية في تقبل أي تغير ايجابي مرتقب عبر ممارسة السلبية اتجاه الإحداث وإعاقة أي بادرة لشحذ القوى المجتمعية صوب الفعل الايجابي، وتكريس الأوضاع السابقة لما بعد 2003 برضا شكلي من قبل الجميع، انه حالة من استهلاك طاقة ملايين الأجساد والعقول عبر إضعاف ملكة التفكير النقدي وترك المواطن في حالة تلقي سلبي لكل ما يسمعه من بعض من مرجعياته الدينية والسياسية والاجتماعية، لكي تصل به إلى مستوى التفكير الخرافي الذي يشل الديمقراطية في عقر دارها، ويتم تخدير وتسكين معاناة الناس الحقيقية وشل وعيها النقدي المعارض اللازم لعمليات التغير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي المنشودة، وهنا تدخل الممارسات الدينية الخاطئة على نطاق واسع، عبر رموز مفتعلة له وليست حقيقية لتكرس حالة السبات العقلي وتشديد للاعتمادية السلبية من خلال " مفتون متخصصون " عند الشدة يشغلون الناس بقضايا هامشية تصل إلى حد التدخل حتى في شؤونهم الشخصية والخاصة جدا والتي لا صلة لها بمستقبل البلاد لأحداث حالة غيبوبة مستديمة تباع فيها عقولهم وقلوبهم، وكانت انعكاسات ذلك واضحة جدا في تقرير وجهة نتائج الانتخابات أو الامتناع عن المشاركة فيها !!!.

ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة، وضرورة خلق الوعي اللازم لقيمة الانتخابات ومسؤولية الصوت الانتخابي وخطورته في رسم المستقبل.ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة، لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل، وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال، أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب و تحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية، وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها، لضمان مزيدا من النزاهة و المشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه، وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي، ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون،وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة !!!!.