المنبرالحر

حكاية من ساحة الاندلس / حسن مظلوم

منذ أحد عشر عاماً وأنا أشارك في المسيرة التي ينظمها الحزب كل عام في الاول من أيار عيد العمال الأممي تضامناً مع طبقتنا العاملة، وكنت قد شاركت في هذه المناسبة منذ زمن بعيد وتحديدا في سبعينيات القرن المنصرم زمن الجبهة الوطنية. ذلك التحالف الذي كان خنجراً في الظهر إلا انه وكما اعتقد أفرز جيلاً من المثقفين يتصدرون اليوم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وانا من جيل الجبهة فحين اعلانها عام 1973 انتشر اعضاء الحزب وأصدقاؤه في كافة مجالات الحياة وكنت عهد ذاك في ربيعي الثامن عشر واعمل بدرجة عامل فني في الشركة العامة للغزل والنسيج الواقعة في قضاء الكاظمية ولم اكن أعي من دروس الحياة إلا القليل والذي دفعني الى العمل منذ بدئي المبكر هو اصابة والدي عطر الله ثراه بالشلل النصفي الذي اقعده في البيت. كان والدي يعمل في مجال البناء اسطة، كما يسمى باللهجة الدارجة فعانت العائلة من الوضع المادي المتردي وحاصرتنا الحاجة من كل اتجاه حتى وصل الأمر بنا مرات عديدة الى حرمان الأفواه من لقمة العيش ولم يكن بأمكاني ان اقف مكتوف الأيدي على ذاك التردي لذلك طرقت بوابة الشركة وبتدخل من الوسطاء صدر أمر تعييني يوم الاثنين 13/9/1969 وكنت قد أنهيت الأمتحانات النهائية للصف الاول المتوسط وقبلها جلست على رصيف المساطر كذلك فعل شقيقي تحسين الذي امتهن مهنة البناء فاصبح من "الأسطوات" المعروفين في مدينة الحرية ثم راح ضحية الحرب العراقية الايرانية.
بين ضغط الحاجة ومتطلبات الحياة من جهة وبين الطموح الشخصي من الجهة الأخرى استطعت ان اكمل دراستي المتواضعة فانتقلت الى سلك التعليم. في العمل عرفت العمال ومعاناتهم وتصادمهم اليومي مع مرارة الحياة. تأثرت ببعض الأصدقاء اخص منهم ابن خالي وصديق الطفولة ورفيق الطريق، وصديق الفكر والروح الفنان والانسان صباح شاكر، صاحب محل خياطة، السياب، اشهر محل للخياطة في مدينة الحرية والمقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية وبالتدريج وجدت نفسي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.
ورغم ان هذا الطريق عرضني الى الاضطهاد والملاحقة إلا انه رتب شتات فكري وجعلني انظر الى جزئيات الحياة بشكل اوضح. وجل ما تعلمته كبرياء الروح والمكابرة في احلك الظروف واحترام الذات والنظر بغير احترام للانتهازيين والوصوليين وعشاق ذواتهم دون محبة الآخرين.
انطلقت المسيرة من ساحة الفردوس الى ساحة كهرمانة والرايات الحمراء المزركشة بالمطرقة والمنجل ترتفع الى الاعلى والورود الحمراء توزع على المارة والحناجر تصدح بشعارات المناسبة يتقدم الجماهير بعض قادة الحزب يتوسطهم الرفيق ابو داود الذي قاد الحزب في أحلك الظروف وأقساها. استقرت المسيرة في ساحة الاندلس عند بيت حمد. وحمد هو مقر الحزب الشيوعي وقد انتقيته من القصيدة الشائعة "الريل وحمد" ومثل كل عام جرت العادة باطلاق بعض الحمامات البيضاء في الفضاء تعبيرا عن تطلعات الحزب في المحبة والسلام لشعبنا ولشعوب العالم. وفيما نحن نستمع الى كلمة الدكتور صبحي الجميلي شعرت ان هناك يدأً تربت على كتفي بحذر. التفت خلفي فوجدت شابا في مطلع الثلاثين من العمر يدعى سلام حسن، تعانقنا بحرارة وهمس بهدوء "اشلونك عمي" أجبته بذات الهدوء بعد عمي انت اشلونك ووضعت يدي على كتفه حتى انتهى الدكتور من كلمته ثم سألته عن والدته واخوته وكان بجوارنا الرفيق خماس سباع "ابو رائد" وأضفت قائلا.
يا ابن اخي استمع مني الى هذه الحكاية، اليوم نقف أنا وانت في ساحة الأندلس وكلانا ننتمي الى هذه الجماهير وهذا الحزب. وقبل ثمانية وثلاثين عاماً صيف عام 1976 كنت وأبيك رحمه الله نقف في نفس المكان مع جماهير الحزب ايضا للمشاركة في المسيرة الني نظمها الحزب تضامناً مع الشعب اللبناني وقواه الوطنية بعد ان شهد لبنان صراعاً داخليا ادى الى الاعتداء الصهيوني على جنوبه. انطلقت المسيرة الساعة الرابعة عصر ذلك اليوم من ساحة الاندلس الى ملعب الشعب الدولي تقدم المسيرة بعض قادة الحزب اذكر منهم الراحل زكي خيري وتقدمت خلفهم النسوة من الرفيقات والصديقات وقد بلغ عددهم اكثر من الألف امرأة وبعدهن سار الرفاق والاصدقاء. كانت مسيرة رائعة.
عملنا سلاسل يدوية من الجانبين لمنع اي اعتداء قد يحدث لاسيما وان الغيرة السياسية قد بدأت تطفح على وجه الحزب الحاكم. كنا نهتف بشعارات نظمها الحزب لتكون منسجمة مع احداث لبنان. أذكر منها "جيش.. شعب.. احزاب ثورية/ لبنان قوة صارمة موتي يا رجعية" و"يالغاصب بيروت تنادي/ شيل ايدك عن ارض بلادي" دخلنا بوابة ملعب الشعب وارتفعت اصواتنا اكثر مثل لحن يتطاير في الفضاء فيه مشاعر الجميع. فتفاجأ واندهش الحزب الحاكم بتلك المسيرة. وكان عدد جماهيره اقل بكثير من جماهيرنا وكلهم كانوا من عمال وموظفي القطاع العام وقد نقلتهم سيارات الدوائر الى ملعب الشعب بعد الانتهاء من الدوام الرسمي وعبثا كانوا يهتفون شعاراتهم الهزيلة البعيدة كل البعد عن الحدث. مثل: "بالروح بالدم نفديك ابو هيثم".
غطت جماهير حزبنا ادراج الملعب وبعد الغروب انتهت المسيرة وعدنا ادراجنا أبوك وانا الى منطقة الكاظمية، جلسنا في مقهى ام كلثوم في ساحة قريش وكلانا يشكو للاخر التهاب حنجرته، ما أن انتهيت من حكايتي حتى وجدت سلام يدفع يده اليمنى في الخفاء نحو عينيه.
واليوم وانا اقف على هذه المحطة من محطات الحياة لابد ان اشير ولو بأختصار شديد الى ان الراحل حسن جبر كان صديقي ورفيقي وزميلي في الدراسة المسائية. وكان يعمل مصوراً فوتغرافياً في ستوديو الفارابي في سوق الكاظمية ومع نهاية سبعينيات القرن المنصرم استطاع بمجهوده الشخصي تاسيس ستوديو خاص به أطلق عليه ستوديو الواثق في مدينة الحرية.
ولم تزل قائمة يديرها ولده البكر سلام. كنا نلتقي مساء كل يوم تقريبا ومع مطلع ثمانينيات القرن المنصرم اقترن بكريمة ابن عمه ثم شتتتنا الحرب العراقية الايرانية فاتجه الى القاطع الجنوبي واتجهت الى القاطع الشمالي وقلما كنا نلتقي لتفاوت الاجازات الدورية بيننا.
مع عام 1984 اصيب بشظايا عدة في راسه فأجريت له عملية فتح الدماغ لإخراج الشظايا مما أدى الى فقدان الرؤيا في عينه اليسرى أحيل بسببها الى التقاعد والاعفاء من الخدمة العسكرية. مع عام 1985 تم انتدابي للعمل لدى وزارة التربية. وهكذا عدنا نلتقي بشكل يومي مع كل مساء,
في مناسبات آذار حيث ميلاد الحزب وآيار عيد العمال اعتدنا ان نعد عدة المساء فندعو الاصدقاء المقربين جداً، كنا نغلق باب المحل بحيث يعتقد على انه مغلق فنتلوا قصائد النواب ونغني مع جعفر حسن حتى ساعة متأخرة من الليل واحياناً.
نبكي على الأصدقاء الذين غيبتهم الحرب او الذين غادروا البلاد ولم نعرف شيئاً عن مصائرهم كان حسن طيب القلب يحب الآخرين ويشاركهم افراحهم واحزانهم ويؤدي واجباته الانسانية . كان يحب الحياة والأطفال. ولقد انجبت له زوجته سبعة من الذكور وواحدة من الأناث وكان يردد دائماً " "اتمنى ان اعيش لأرى نهاية الطغاة".
بعد عام 2003 وما رافق الأحتلال من انهيار البنى التحتية للبلاد وانتشار القتلة واللصوص والحواسم اللتي نهشت البلاد من كل صوب ثم تلتها الصراعات الطائفية والتفجيرات في كل مكان والميليشيات السائبة والقتل على الهوية فمات الكثير وهاجر الكثير. كل هذه كانت اشد الماً على النفس من كل غزوات جنكيزخان وهولاكو ومذابحهما. كل هذا اثر على صحته ووضعه النفسي ومع الزمن بدأت الأمراض تنخر جسده حتى فصل الموت بيننا.
عام 2011 رحل عنا جسدا لكنه لا يزال فينا فكراً وروحاً وارثا فكرياً متمثلاً في ولده سلام وبقية اولاده المعلم الجامعي والنشط اعلامياً وحزبياً.
نم قرير العين ايها الصديق فأنت لم تمت بما تحمله كلمة الموت من اندثار وفناء. سلام لك يا سلام وانت تخطو خطى ابيك متمنياً لك المزيد من التقدم والعطاء.
سلام لكل الشابات والشباب الذين نراهم بين صفوفنا وهم ارثنا لأجيالنا المقبلة.
سلام لكل ألولئك الذين رصعت مبادئ الحزب جباههم منذ عقود من الزمن. وطوبى لكم يا ابناء واحفاد فهد.