المنبرالحر

العراق الحديث وثقافة تغييب رموزه الوطنية وطمس هويته الوطنية/ خضر عواد الخزاعي

يعرف المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي الثقافة الوطنية ( انها منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي وتتميز لوحدتها التي تتجسد في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصية الاحساس بالهوية والشعور بها ) .‏
أن التكامل في وحدة المعطيات المادية هو بالأصل انعكاس لوحدة التكامل الروحي والنفسي والذي تكوّن خلال بيئة حضارية نوفرت لها ظروف متمايزة عن غيرها جعلتها متقدمة في تحديد خصوصية هويتها الثقافية والحضارية الذي جعل من تنوع التراث الفلكوري واللغوي والديني والفكري المحلي وحدة ثقافية واحدة منسجمة ومتميزة عن باقي الثقافات الثانوية المحيطة حتى وأن كانت أصيلة في نشأتها وعطائها الحضاري كما هو الحال في التلاقح الثقافي بين حضارات وادي الرافدين ووادي النيل مع أحتفاظ كل أمة حضارية بخصوصيتها المحلية .
لكن المتتبع للثقافة المنهجية العراقية وخلال عقود من السنين تلت مرحلة تأسيس العراق الحديث يلاحظ وبوضوح عملية التغييب القسري الممنهج التي تبنتها المؤسسات الرسمية للثقافة الوطنية وأهمالها لشريحة مهمة من شرائح العرق ألا وهي رموزه الوطنية والعلمية والتأريخية والتربوية التي عملت وبكل أخلاص لبعث الثقافة العراقية وجعلها في مراحل متقدمة من العطاء والوعي على مستوى العراق والوطن العربي والعالم في مجالات مهمة وحيوية مثل العلوم والفنون والتاريخ والتربية والاجتماع والتراث والعمل في ساحات النضال الوطني أنها عملية تجريد منظمة لواقع قائم بحاله وتقزيمه لينسجم مع محيط كان يتسم على الدوام بالتخلف والتبعية لعدم أمتلاكه أهم خاصية لبقائه وديمومته وهي هويته التاريخية والوطنية .
وظلت كتبنا التعليمية ومناهجنا الثقافية أسيرة لثقافة المحيط العربي مقيدة بشروطها الأيدولوجية ومناهجها القومية والدينية وسبب آخر لهذه المشكلة أن الطبقات الحاكمة التي توالت على حكم العراق كانت دائماً تنظر لهذا الشعب بنظرة فوقية وبروح التفضل وأن هذا العراق لا يساوي شيئاً بدون ما تمنحه له هويته العربية والدينية، لذا عومل وفق منظور تحجيمي فئوي على أنه أقلية من كيان أكبر هو محيطه العربي والأسلامي، فالحاكم وخلال أكثر من ثمانين عاما ظل أسير هذه النظرة الضيقة ولم يستطع أن يتحرر من قيوده التي توارثها عبر أجيال وأقام عليها مفاهيم دولة على طريقة الخلافة العربية الأسلامية كما أنتهجتها منظومة الحكم الملكي بين الأعوام (1921- 1958 ) على أساس انها امتداد طبيعي للخلافة الأسلامية والعربية ومرحلة لاحقة بين الأعوام ( 1963 – 2003 ) التي أعتبرت نفسها ممثلاً لقيادة وبعث أمة فصلت مقاساتها بعيداً عن الوطنية والدين والخلافة قريباً من القومية والشوفينية .
وخلال (77 عاما ) من عمر مرحلتين مهمتين تسيّدتا الواقع العراقي ( الحكم الملكي – حكم البعث ) كانت عمليات الهدم والسلخ والتمزيق لموروثات حضارية وتراثية عمرها تجاوز ( 7000 عام ) جارية على قدم وساق .
لذلك يمكن تقسيم مراحل التغييب القسري للثقافة والرموز الوطنية العراقية إلى مرحلتين مهمتين هما :
المرحلة الاولى : في العهد الملكي ( 1921 – 1958 )
خلال هذه المرحلة أي العهد الملكي بسنواته السبع والثلاثين عاماً كانت الثقافة العراقية معلقة بين تأريخ قائم يأبى الأندثار ويفرض نفسه على الدوام من خلال ما كانت تنتجه بقايا هذه الحضارة ورموزها المحلية على يد نخبة وطنية أخذت على عاتقها العمل بكل جد وأخلاص لتقديم موروثات هذه الحضارة بطريقة البحث والتنقيب وأعادة أكتشاف التراث الملحمي والثقافي بكل قوالبه الرمزية من كتابات ولقى وبحث دؤوب في مكنونات تلك الحضارة وقدمت أسهامات رائدة في هذا المجال على يد العلامة طه باقر والعلامة احمد سوسة بالأضافة إلى العمل المميز الذي قدمته رموز أخرى في مجال الأعلام والصحافة والفنون التشكيلية وكتابة المقالة والقصة والمسرحية وأبداع اللوحات الفنية لنخب عراقية مبدعة مثل جعفر الخليلي وفهمي المدرس والجواهري واحمد الصافي النجفي ومحمد سليم وعبدالقادر الرسام وجواد سليم وغيرهم الكثيرون، لكننا نرى أن الواقع الثقافي والتربوي في هذه المرحلة كان أسيراً لأرادة رجل واحد بعيد كل البعد عن هذه الثقافة ومعطياتها المحلية حيث أصبح مصطفى ساطع الحصري اليمني الأصل السوري الجنسية مدير دار المعلمين العثمانية باستانبول ووزير التربية والتعليم في أول مملكة عربية أقامها فيصل في سورية وأبرز دعاة التتريك والطورانية وأحد مؤسسي الفكر القومي رغم أنه عرف عنه عدم أجادته اللغة العربية الفصيحة بصورة صحيحة عراباً للثقافة العراقية بأعتباره مجسداً للمشروع ( الخلافوي – العروبي ) حين أصطحبه الملك فيصل معه إلى العراق في مرحلة تأسيس العهد الملكي وعينه معاوناً لوزير المعارف ( التربية ) ثم مديراً عاماً للآثار ثم مديراً لدار المعلمين العالية في بغداد وحتى بعد أحتجاجات المعلمين على سلوك ساطع الحصري وقيامهم بنشر منشور ( سر تاخر المعارف العراقية ) وخصوماته المستمرة مع التربوي العراقي فهمي المدرس حول ( جامعة آل البيت ) فأن فيصل ظل متمسكاً به كواجهة تعليمية وتربوية للعراق رغم وجود نخب عراقية عرفت بثقافتها الأكاديمية وعملها الدؤوب في مجالات الثقافة العراقية في حقول الآثار والمعرفة والفكر والتربية من أمثال العلامة ( طه باقر ) صاحب البحوث القيمة في حضارة وادي الرافدين وأحد الباحثين والمكتشفين الأوائل في آثار العراق في أور ودوكان وعكركوف وواسط وتل حرمل وتل الدير وله العشرات من المؤلفات والبحوث في هذا الشأن كان أهمها موسوعة ( تاريخ الحضارات القديمة ) المطبوع في العام 1951 وكتابه ( ملحمة جلجامش ) المطبوع في العام 1962 وترجماته الشهيرة لأمهات كتب البحث والتنقيب مثل كتاب (بحث في التاريخ ) للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي ومؤلف ( ألواح سومر) لنوح كرايمر .
لكن للأسف ظل هذا العلامة مركوناً على هامش ( الثقافة الحصرية ) لسنوات حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 حينها قام الزعيم عبدالكريم قاسم بتكريمه وعرض عليه وزارة التربية لكنه رفضها مستعيضاً عنها بعرض آخر وهو أدارته لمديرية الآثار العامة حتى العام 1963 بعد الانقلاب الغادر في 8 شباط حيث قامت سلطة الانقلابين بسجنه بتهمة الولاء للزعيم عبدالكريم قاسم .
بالأضافة إلى طه باقر كان هناك أيضاً الكاتب والتربوي والاعلامي جعفر الخليلي ( 1904- 1985 ) صاحب العشرات من المنشورات الاعلامية والادبية وخريج المدارس العراقية والذي ظل مهملاً لعقود من السنين تلت قيام الحكم الملكي حتى وفاته بدبي في العام 1985 وكذلك العلامة الدكتور العلامة احمد نسيم سوسة الحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة هوبكنس في أمريكا في هندسة ونظم الري في العراق القديم والذي قدم أكثر من خمسين مؤلفاً واكثر من 116 بحثاً واطلساً في مجالات علمية مختلفة .
هذه نماذج رمزية لبعض رجالات العراق الذين كانوا مؤهلين بحكم ثقافتهم وتربيتهم الوطنية ليشغلوا ويتقلدوا أدارة المؤسسات والوزارات الثقافية في ذلك العهد أي العهد الملكي البائد لكن بالمقابل كان هناك أصرار على أن يكون ساطع الحصري لا غيره هو من بيده مفاتيح الثقافة العراقية لحقبة مهمة من تأريخ العراق .
المرحلة الثانية : حقبة البعث ( 1963 2003 )
في هذه المرحلة التي أبتدأت مع الأنقلاب الدموي في 8 شباط 1963 والتي كانت أبرز سماتها عسكرة العراق من خلال أطلاق يد الميليشيات القومية كالحرس القومي لتشن حملتها الدموية بالبطش والتنكيل والقتل والمطاردة لكل الرموز الوطنية التي عملت في عهد الحكم الجمهوري الأول بعد ثورة تموز 1958 وفيها تم تعيين العميد الركن عبدالكريم فرحان وزيراً للثقافة والأرشاد القومي وهذه سمة من سمات التجاهل والاحتقار الذي قدمته سلطة الانقلابين لهذا البلد والتي توجت مشروعها القومي بأغتيال المناضل سلام عادل وبعض من رفاقه في 19 شباط 1963 وأصدرت مرسوماً ألغت بموجبه كل الصحف والمجلات في العراق وانقضت بهمجية على كل رموز العراق التاريخية والوطنية لبلاد تعتبر واحة لرموز الفكر والثقافة والتربية والعلوم والفنون بما كانت تعج به من أسماء كبيرة وهو العمل الذي أدى إلى هروب وخروج الكثيرين إلى خارج العراق لتنتهي مرحلة الخمس سنوات السوداء من تلك الحقبة لتحل محلها المرحلة الأخطر والتي كان عنوانها البارز انقلاب البعث في 17 تموز 1968 وأول من أنيطت به حقيبة الثقافة والتربية هو طه الحاج الياس وهو شخص مغمور لم يعرف له تاريخ أو موقف في مراحل العمل الوطني غير أن له بعض المؤلفات في مجال التربية ثم توالى على منصب وزارة الثقافة والأعلام مجموعة من المنتفعين الذين أرتبط مصيرهم بمصير الحزب ومؤسساته الامنية والقيادية أمثال (شفيق الكمالي شاعر وعضو قيادتين قومية وقطرية . طارق عزيز رئيس تحرير جريدة الثورة السابق ووزير خارجية لاحقاً . سعد قاسم حمودي رئيس تحرير جريدة الجمهورية ونقيب الصحفيين . حامد يوسف حمادي المستشار الدائم في القصر الجمهوري. لطيف نصيف جاسم رئيس تحرير جريدة صوت الفلاح وعضو منظمة حنين الأمنية . محمد سعيد الصحاف مدير مؤسسة الإذاعة والتلفزيون السابق ووزير الخارجية لاحق ) وخلال هذه المرحلة تم التأسيس لفكر شمولي عقائدي قومي جرد العراق من كل خصوصياته المحلية والتأريخية والوطنية وكان أشهر وأسوء ما قام به هذا النظام هو أسقاطه الجنسية العراقية عن شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في ثمانينات القرن الماضي وتشريعه قانون إسقاط الجنسية رقم 666 لسنة 1980 الذي قام بموجبه بإسقاط الجنسية عن مئات الألوف من العراقيين العرب والكرد الفيلية وتهجيرهم بالقوة بتهمة التبعية الإيرانية .
وتبعاً لهذا القانون تم أقصاء المئات من كوادر الثقافة العراقية ورموزها الوطنية أمثال علي الوردي وطه باقر وعبدالرزاق الحسني وبهجة الأثري والجواهري والروائي غائب طعمة فرمان والأديب موسى كريدي والشاعر حسين مردان والشاعر النجفي عبدالأمير الحصيري والشاعر عقيل علي والفنان المخرج عوني كرومي والفنان المغترب جواد الأسدي والمعمارية زها حديد وقائمة طويلة من المبدعين في كل شؤون الثقافة والفنون والأعلام والأدب ليحل محلهم ثلة من الوصولين العرب الذين حاولوا أشغال الفراغ الذي تركه رحيل وتغييب العناصر العراقية المبدعة والمخلصة لتربة وثقافة العراق فامتلأت ساحة الثقافة بمن هب ودب من سماسرة الثقافة أمثال السوداني أحمد قباني الذي تقلد مناصب مهمة في الأشراف على برامج الاذاعة والتلفزيون واللبناني الشاعر خليل خوري والفلسطيني أديب ناصر وعبد المطلب محمود والمفكر القومي والمنظر لطروحات فكر البعث الياس فرح الذين قدموا الثقافة العراقية على شكل نصوص وبحوث وقصائد كانت مهمتها الوحيدة أن تمجد بفكر البعث وطاغية العراق وتصنع تأريخ جديد من الزيف غير الذي عرفه العراقيون وكان معهم من العراق عبدالرزاق عبدالواحد الذي نذر قلمه وروحه لخدمة الطاغية والتمجيد به ورعد بندر في صعوده الصاروخي حتى وصل إلى منصب وكيل وزير الثقافة والأعلامي وفاروق سلوم الذي كانت مهمته الرئيسية الأعداد لأحتفلات أعياد ميلاد الطاغية وعبد الأمير معله صاحب رواية الأيام الطويلة التي فصلت مقاساتها لتناسب مقاسات الطاغية وتأريخه المزيف والشاعر حميد سعيد الذي ترك مهنة الشعر ليستتر بعباءة الصحف والمؤسسات البعثية ومثله سامي مهدي ولا ننسى عزيز السيد جاسم الذي تحول من منظر للفكر الماركسي إلى كاتب سيرة الطاغية في عشرات من المؤلفات كان آخرها صدام وصلاح الدين الأيوبي الذي ختم به حياته ومسيرته بعد أن أعتقله النظام في العام 1991 مع شقيقه محسن جاسم الموسوي ليتم تغييبه للأبد وكذلك الشاعر شفيق الكمالي الذي تقلد عدة مناصب وزارية في الدولة أهمها وزارة الثقافة والأعلام والذي لم يشفع له كتابته للنشيد الوطني العراقي في عهد البعث ( وطن مدّ على الأفق جناحه ) ولا قصيدته العصماء في مدح طاغية العراق والذي شبهه فيها بوجه الله (تبارك وجهك الوضاء فينا كوجه الله ينضح بالجلال ) حيث تم سجنه وقتله مع ولده في العام 1982 أن أبرز سمات الظاهرة الثقافية والتربوية في العراق في تلك المرحلة التي أٌدخلت فيها البلاد في أتون معارك ومقامرات دكتاتورية كانت تنحدر به بقوة للوراء هو ظاهرة التطبيل والزعيق والتملق الذي علا فوق كل صوت وطني واعي ليستمر انحطاط الثقافة العراقية وتغييب رموزها الوطنية والتأريخية حتى سقوط النظام في العام 2003 في واحدة من أسوء حقب التأريخ الشوفينية التي عملت بكل جهد على محو ما تبقى من الهوية الوطنية والتأريخية للعراق .