المنبرالحر

صمت «مساعد اليعقوب» / جمال العتابي

«مساعد» يعد من ملاكي الارض في ريف الغراف ، وهو احد وجهاء قبيلته، لانه ابن الاسرة التي تتزعمها. لكن مساعد كان يدرك معنى امتلاكه صوته الخاص، واسلوبه المختلف بين اخوته وابناء عمومته،غيرمعني بالارض مكتفيا بالميسور منها، وهو وان لم يتعلم في مدرسة ، الا انه كان يحمل قدرا من الذكاء وسرعة البديهة بما مكنه من التحدث بجرأة وصراحة في (الدوواين) يخشاها الحضور ويحسب لها الشيوخ مائة حساب، ساخرا متهكما ،يعيش لحظة جدل دائم مع ذاته ومع الاخرين لا يتردد بلوم احد، يرمي الكلام حيث ما يجد ضرورة للقول، لارهاق الحضور بفك شفراته. يذهب بعيدا في مواجهات صريحة مع واقع يرفضه ويدينه، انه خياره الصعب للانسلاخ من انتمائه الطبقي، اذ لمس بكفيه جمرة العناء الذي عاشه الانسان وعرف قسوة الحرمان. كان متحدثا حكيما تعينه ذاكرته بما مخزون فيها من حكايات وموروث شعبي، يوظفها بمهارة ووعي يرفدها بمعطيات اللحظة، فهو صانع للافكار وله قاموسه المحفوظ اشبه بالمنجم، يطلق الحكاية اشبه بالعاصفة بسخرية لاذعة ، موحية بالتشبيهات والاستعارات الصادقة المعبرة عن مشاعره لمواجهة هشاشة الواقع وضحالته وضيقه.
قرر مساعد ان يستريح في مضيف احد شيوخ الشطرة المعروفين بعد عودته من مدينة الناصرية لمراجعة احد اطباء مرضى القلب. لم ينبُس مساعد ببنت شفة حتى بعد ان شرب القهوة في مضيف الشيخ ، احتراما لتقليد اعتاد عليه الحضور في عدم الكلام الا بأذن من الشيخ، وظل صامتا لحين تلك الاشارة التي جاءت متأخرة بالسؤال عن معنى الزيارة، فكانت اللحظة التي ينتظرها (ابورزاق) بالجواب: والله محفوظ اوصاني الطبيب بعدم الكلام لاني اعاني من انسداد في بعض الشرايين، فقلت ان افضل واصح مكان التزم فيه بوصية الطبيب، هو هذا المضيف. انه الصمت الذي يتضمن الكثير من الصراخ في حضرة الشيوخ، انه احدى منصات التوغل بالموضوعات الاكبر. صمت مساعد ليس استسلاما بل هو الوفاء للموقف والانسجام مع الذات المتمردة بهدوء.
ان موروثنا على قدر من الاتساع والتنوع، وهذه الحكاية واحدة من الاف الحكايات التي تدعونا دائما الى تأكيد ترابطنا بها، وبحقيقة عمقنا الحيوي وهويتنا الانسانية ،وكسر العزلة التي تحاصرالموروث فبعد ان نتوصل الى معرفة (رباط) الحكاية سنعود لاخرى..