المنبرالحر

صناعة الأصنام وعبادتها بين عراق الرافدين والعراق الحديث/ خضر عواد الخزاعي

أذا كان الدين ركناً من أركان قيام حضارة وادي الرافدين وتطورها على مدى ألاف السنين وما قدمته هذه الحضارة من علوم ومعارف للأنسانية في شتى المجالات والفروع العلمية والفلسفية والتدوينية فأن صناعة التماثيل والأصنام كان جزءاً مهماً من هذه الحضارة وديمومتها لما كان لهذا الدين من أثر معنوي وروحي في حياة أنسان وادي الرافدين حيث شيدت المعابد ودور العبادة مع البدايات الأولى لنشوء المدن والممالك .
ففي الألف الخامس قبل الميلاد بدأت تتشكل المظاهر البدائية للحضارة المدنية حيث أبتدع العراقيون التعدين وفن الخزف والآجر والعربة المدولبة ذات العجلات والمحراث وأستخدام الشراع في قيادة السفن وبدأت محاولاتهم في فن النحت التي كانت خطوة لما تلاها من عمليات بناء المدن والمعابد وتشييدها وكان التدين والعبادة في أول نشاته مرتبط بعبادة القوى المؤثرة بالطبيعة والذي كان يقوم بالأصل على فلسفة تقديس الخصوبة وعناصرها في الطبيعة وكانت الكواكب هي من لفت أنتباه الأنسان الرافديني في اول الأمر مثل ( الشمس والقمر والزهرة وعطارد ) .
أن تعدد الالهة ووجود أكثر من ديانة وصنم أسس الحاجة لأطلاق التسميات على تلك الالهة والمعابد المنحوتة فكان ﺇله السماء ( أيا أو انليل ) والشمس ( ألاله شمش ) والذي كان يمثل قوة النور والعدالة و (الالهة عشتار ) المشتقة من كوكب الزهرة والتي كانت تشير ﺇلى الأنوثة والخصوبة والاله ( تموز ) أبن المياه وﺇله الذكورة والثنائي الحيوي في حضارة وادي الرافدين مع عشتار ثم ﺇله القمر ( سين ) ﺇله المشاعر وما يرتبط بها من تأثيرات روحية ونفسية كذالك الاله (ارشيكغال ) ﺇله القحط والموت وهي أخت الألهة عشتار و (مردوخ ) الاله الاكبر و( نمو ) آلهة المياه الأولى و( كي ) آلهة الأرض المؤنثة و (أنليل ) ﺇله الهواء و (ﺇنكي ) ﺇله الماء والحكمة و ( لهار ) ﺇله الماشية و ( أشنان ) آلهة الحبوب و ( تيامة ) ماء المحيط البدائي المالح و( أبسو ) آلهة المياه العذبة و (ممو) آلهة الضباب وآلهة الارض والأنوثة ( أنيني العذراء) وﺇله الشفاعة (ننكرساج ) وﺇله الفيضانات (تنرجسو) والاله ( آرلو) ﺇله الجحيم و( نمتار ) ﺇله الامراض و(أشنان ) ﺇله الشعير و (شوموكان ) ﺇله الماشية و ( كولا ) ﺇله الأنجاب و( باساك ) حامي المسافرين والاف الالهة المنتشرة في أرجاء بلاد ما بين النهرين .
ويمكن تقسيم العلاقة بين ألالهة والبشر في هذه الحضارة ﺇلى ثلاث مستويات :
الاول آلهة شخصية : حيث أن الارتباط الروحي بين الالهة والفرد وصلت حد أن يكون لكل أنسان ﺇله شخصي دون الالهة الآخرين .
الثاني آلهة مناطقية : أي آلهة على مستوى الحي أو المدينة أو المنطقة الصغيرة حيث كان هناك معبد صغير يوضع فيه هذا الاِله ويكون رمزاً لهذه المدينة او الحي .
الثالث ﺇله الدولة : كما هو الحال مع الاله مردوخ ﺇله بابل وآشور ﺇله الاشورين ويكون هذا الاله رمزاً ومعبدها الرئيسي حيث يخصص له الكهنة والحراس والمعماريون لصيانته والاهتمام به .
وجِدَتْ نصوص لاهوتية تتضمن قوائم باسماء وأعداد الآلهة في حدود (2000- 3000) آلهة أو أكثر من هذا الرقم خصوصاً أذا أخذنا بعين الاعتبار حجم المدن وتزايد أعدادها مع توسع الأمبراطوريات الحضارية في ذلك الوقت حتى وصلت ﺇلى حدود البحر المتوسط والتي كان فيها الدين والعبادة والتوسل جزء لا يتجزء من هذه الحضارة .
اذاً فصناعة التماثيل تعتبر من الحرف المهمة التي أبدع فيها العراقيون منذ العصور التاريخية الأولى ﺇلى جانب ﺇبداعاتهم الأخرى في فنون العمارة والصناعة والزراعة والملاحم العسكرية والكتابة وسن القوانين ، وأذا كانت هذه الصناعة قد وجدت لها في تلك العصور مبرراً وقاعدة روحية عوضتها لفترة طويلة عن ﺇفتقادها للعلاقة المباشرة بينها وبين الله عن طريق الأنبياء والكتب السماوية فأنها تحولت في حقب تاريخية لاحقة ﺇلى صناعة مهمتها الترويج للحاكم المطلق أو الحاكم المستبد وتحويله من مؤسسة حكومية مهمتها خدمة الشعب ﺇلى معبود مقدس تسخر له كل أمكانيات الدولة ومؤسساتها .
في العراق الحديث الملكي تحول فن النحت ﺇلى حرفة صناعية لصناعة تماثيل الحكام والمسؤلين وكان في المقدمة منهم شخصية الملك فيصل الأول حيث صنع له تمثال في ساحة الصالحية نحته النحات الايطالي ( كانونيكا ) النحات الذي سبق له أن عمل تمثال الزعيم التركي كمال اتاتورك ولقد تم افتتاح التمثال في 20 أيار 1933 بعد أن رصدت له ميزانية قدرت بخمسين ألف روبية جمعت من ميزانية الألوية والمتصرفيات في ذلك الوقت وفي نفس العام تم نحت تمثال آخر لشخصية عراقية أخرى هو تمثال رئيس وزاء العراق في عشرينيات القرن الماضي عبد المحسن السعدون ولنفس النحات الذي قام بتشييد تمثال الملك فيصل الأول (بياترو كامونيكا ) .
في العهد الجمهوري حاول الزعيم عبدالكريم قاسم رئيس وزراء العراق أستلهام الموروث الحضاري لبلاد وادي الرافدين وربطه في ثورة تموز 1958 وسخر لأجل ذلك فن النحت تعبيراً عن التلاحم الحضاري للعراق بين تلك الحقبتين فأختير الفنان العراقي التشكيلي جواد سليم الذي أبدع واحداً من أهم النصب النحتية في العراق والوطن العربي ( نصب الحرية ) الذي بدأ العمل فيه في العام 1959 وتم الأنتهاء منه في العام 1961 وتم وضعه في ساحة التحرير مقابل جسر الجمهورية من جهة الرصافة والذي أستطاع أن يحافظ على هويته الوطنية والفنية رغم تباين النظم الحكومية التي توالت على حكم العراق منذ نصبه وحتى الوقت الحاضر أما الزعيم قاسم شخصياً فلم يكن له في وقت الاطاحة بحكمه بالأنقلاب البعثي في شباط 1963 أي تمثال في بغداد سوى تمثالين في محافظتي كربلاء والنجف تم نحتهما في العام 1959 قام بنحتهما الفنان النجفي ( سعد عبدالرضا الكعبي ) .
كانت مرحلة حكم البعث التي استمرت من العام 1963 وحتى سقوط النظام في 2003 من أكثر المراحل التاريخية الحديثة التي روجت لصناعة التماثيل وخصوصاً بعد أنقلاب تموز 1968 وتسلط الطاغية على سدة الحكم بالعراق فلقد وصل ألوله والنرجسية بهذا الحاكم حد أنه أمر أن يكون له تمثال مركزي في كل محافظة وتمثال رمزي لكل مدينة عراقية ولكل حي أو منطقة ولم يكتف بذلك بل أنه عمل على أن يكون لكل مؤسسة مدنية او عسكرية أو أمنية تمثالها الخاص بها بل وزاد في ذلك الأخذ بالأعتبار نوعية المؤسسة التي سينصب لها التمثال فمثلاً أذا كانت المؤسسة عسكرية قتالية أي أنها متمركزة في ساحات القتال أو على شكل مدرسة لأعداد المقاتلين فأنه ينحت له تمثال بزي عسكري بقيافة الحرب والأستعداد العسكري أما أذا كانت المؤسسة العسكرية مركز قيادة أو دائرة لترويج معاملات العسكر فأنه يراعى للتمثال مواصفات أخرى مثل الزي الرسمي وما يتبع ذلك من الاهتمام بالأوسمة والانواط والقلائد والمكان أما أذا كانت المؤسسة طبية مستشفى أو مستوصف فيكون تمثال الطاغية بلباس العسكري مرتدياً فوقه الصدرية الطبية وأذا كانت المؤسسة زراعية فيراعى بالتمثال ان يكون فيه الطاغية ممسكاً بالمنجل وينحني بقوة لحصاد الزرع وأذا كانت جامعة او مدرسة فتكون وضعية الطاغية وهو ممسكاً بكتاب وسط التلاميذ وغيرها الكثير من التماثيل التي كان عليها أن تراعي وضعية الطاغية والشكل العام للمؤسسة حتى بلغت الالآف في كل بقعة من أرض العراق ولم يكتفي الطاغية بالأهتمام بتماثيله الشخصية بل تعداها ﺇلى أنه حاول أن يطبع عصر العراق بشخصيته وحزبه فقام بألغاء نصب مهمة في حياة العراقيين مثل نصب الجندي المجهول لللفنان العراقي رفعت الجادرجي في ساحة الفردوس الذي تم نصبه في عام 1959 وكلف الفنان خالد الرحال بعمل نصب جديد كانت فكرته الرئيسية من مخيلة صدام نفسه راعى فيها المد العروبي على حساب الهوية الوطنية العراقية فكان نصب الجندي المجهول في ساحة الاحتفالات الذي تم أفتتاحه عام 1983 وقوس النصر الذي حاول فيه توثيق الحرب العراقية الايرانية من وجهة نظر المحارب المنتصر ثم نصب الشهيد لاسماعيل فتاح الترك .
هذا جزء مما حملته الذاكرة العراقية لتوظيف فن النحت من رمز ديني حضاري في بلاد وادي الرافدين ﺇلى عبادة وثنية لحكام ومستبدين وفي فترة ما لم يكن هناك من فارق بين التمثال والحاكم فكانت الأساءة الغير متعمدة للتمثال يحاسب عليها الشخص كأنه أساء لحضرة الحاكم فيحاكم ويقتل لأنه لم يقدم الأحترام والتبجيل لهذا التمثال الوثني .