المنبرالحر

زيـارة الى جزيرة روبن / د. حسام آل زوين

بهبوطها بدأت نثات مطر خفيفة تطرق الجناح. التصق بالنافذة كالطفل الصغير يراقب مايدور من حوله من جديد، وبعادته المكتسبة أخذ يستطلع المكان؛ جماليته، بتدرج الالوان لاوراق الشجر، ومن بعدٍ قوس قزح المطر، لم يستطع تحديد الالوان؛ أهي لفصل الربيع ام للخريف، أخضر فاتح، أخضر، مصفر، وردي، محمر، غامق، جوزي، بني .
دقائق وتوقف الرذاذ، اصبحت ساحة المطار كالمرآة كأنما البحر امتد اليها، لامسته قرصة نسـمة باردة خفيفة أطلسية ام هندية، احس بنشـوة، هبتْ به وارجعتــه الى أكثر من ثلاثة عـقود، لاول زيارة له خارج الحدود.
عند مراقبته جمال الطبيعة والمناظر الجميلة التى يزهـو بها هذا المكان كغابات موسـكو، لازالت تلك الصور مخزونة في اعماق الذاكرة لما فيها من مفاجآت وذكـريات جميلة غنية عزيزة بحبها وطعمها...هناك.
هنا وهناك؛ السماء ناصعة زرقاء، شـذرية نقيـة، "غيمات" هنا وهناك ؛ بيضاء ناصعة كانها القطن المنفـوش المنثــور. أهي الجنة في الحياة الدنيا !؟.
من خلال نافذته المطلة على المحيط؛ ظل يتطلع يميناً الى اطراف المدينة التي ترقد تحت السفح الطويل وحي الفقراء الذي توقف عنده عصـرا، الحي الزاهي بتلوين الجدران الخارجية للبيوت، كانه لوحة فنية مرسـومة للتو من كل الالوان؛ البنفسجية، الحمراء، الخضراء والصفراء، فاي اهتمام، اية رعاية ونظافة، اي ذوق رفيع، ببسـاطة.
أطال بتطلعه يساراً الى بصيص أضواء متناثرة تلوح من وسـط المحـيط، ولســاعة متأخرة من الليل الى ان اخذه النعاس، بأفكار تؤرجحه مابين الامس المفعم بالامال، أنصع النوايا الحسنة والاماني الخيرية في العـدل الاجتماعي للناس وحب الوطن، وما بين اليوم المبهم الذي تبخرت منه وسـرقت الاحلام، وما حل من ظلام دامس في بلده. ولم يخطر بباله يوماً ان يزور بلداً بهذا البعد ورحلة أستغرقت اثنتي عشرة سـاعة مستمرة بدون توقف على امتداد سـواحل أسـيا وافريقيا، ماهي الا صدفة.
بزيارته الاولى لموسكو في منتصف السبعينات جلب نظره أرتداء الطلبة الافارقة قمصان وجلاليب وأزياء بألوان بيضاء، صفراء منقوشة كانها جلد نمــر، وعلى الصدور رسمت عليها صور رجل افريقي ؛ سأل عنه من يكون ؟، علم بانه نيلسـون مانديلا، المناضل الافريقي الثوري المناهض لنظام الفصل العنصري (الابارثيـد) المسجون في جزيرة في جنوب افريقيا، والذي اصبح رمزاً للنضال، تذكر ما قرأه وما نشر عن ذلك في الصحف ايام المدرسة والجامعة في السبعينيات ببغـداد. تلك هي جزيرة " روبن أيلانـد " فيها السجون والمنفى للمناضلين من افريقيا.
منذ الصباح سـاقته قـدماه تلهفاً الى المرفأ لحجز تـذكرة للرحلـة البحـرية الى الجزيرة ، كأن له قريب او صديق سـجين هناك، واذا بقــاعة المرفأ تعـج وتفـوج بالناس من مختلف الاعمار... من كل فج عميق، في قاعــة الحجز جــدارية متدلية باللون الاحـمر خـط عليها شـعر ثـوري بمـفـرادته الانكلــــيزية في (التحرر، الشجاعة، النضال، المساواة والعدالة الاجتماعية)، تعود أبيات الشعر لكاتبه المناضل أحمد كـثرادا المسلم الهندي من أصدقاء مانديلا الذي رافقه أيام النضال والسجن. تبحر بك العبارة في الاطلسي وتبتعد عن مدينة كيب تاون بحدود الثلاثين دقيقة، تدنو من بوابة الجزيرة، وهنالك يافطات ونشريات جدارية فيها صور تأريخية عن السجن والسجناء المناضلين المنفيين الى هذه الجزيرة وتلوح صور نيلسون مانديلا. دخل القاعات، الساحات، غرف الاعتقال والزنازين الانفرادية وتهجى بعض الاسماء التي سكنت السجن، أوليفر تامبو، والتر سيسولو، واخرين من المناضلين الافارقة، توقف عند زنزانة مانديلا الانفرادية، واسـتمع الى شـرح مفصل من قبل الدليـل السياحي ماسـيبو سـيبا، والذي كان ايضا من السـجناء المناضلين الشباب، ولازال عضوا في الحزب. بعدها طافوا بجولة في اركان الجزيرة مرورا بالمقلع الحجري.. بقايا أجزاء حطام مركب أو سـفينة شـراعية هوت بها ريح عاصف، حملتها امواج ملتقى المحيطين الى الجزيرة منذ قــرون. أصبحت الجزيرة مزارا لالاف السياح في العالم.
الماء، الخضراء، صفاء زرقة السماء، نقاء الهواء، طيور البر والبحر بانواعها ترفرف، تزقزق، تغرد ؛ حمام، طيور حب من كل الالوان، البجع، القبج والبطريق تمشى الهوينا لم تنفـر من الزائرين... على مايبدو لم يرُعها الفـزع بعـد، كنيسة منذ عهد الاسـتكشافات البرتغالية والهولندية لرأس الرجاء الصالح، هلال ونجمة لقبة خضراء تقبع على هضبة يرقد فيها الامام عبدالله بن سمعان. اين هذه بمقارنتها بسـجون ومنافي ومعتقلات الامن العامة، قصر النهاية، سجن ابو غريب، الكوت، نكرة السلمان التي أعـدت للمناضلين، قـوافل وكواكب اسـدل عليهم التهميش والانكار والنسيان ؛ اليس هذا هو الحرام والطغيان .
كم هي منظمة الرحلة، الوقت، التهيئة والاعداد ( شـغل انكليز)، باخرة أو عباَرة تغادر وتعـود من والى المرفأ بوقت محـدد لثلاث ساعات، زيارة تشحنك بحافز ثوري يرتاح فيها الضمير، وبأن هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم وشبابهم لم ينسهم الناس والتاريخ، وان شمس الحرية حتمية بشروقها وباصرار صانعيها.
لقد شارك مانديلا بالاحتجاجات الطلابية على سياسة التمييز العنصري مع اوليفر تامبو عام 1940، بالتعاون مع الحزب الشيوعي في جنوب افريقيا شارك في تأسيس منظمة "رمح الامة"، وفي عام 1961 القي القبض عليهم وادين بالتآمر على النظام وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، مكث في السجون 27 عاماً. من خلال تصديه وما بذله من تضحيات في سبيل تحرر ابناء جلدته في جنوب افريقيا من نظام الفصل العنصري جعلت منه رمزا ً للكفاح، حقاً لقد فدى شعبه بحريته، خرج من السجن تحت تأثير وضغط المطالبة العالمية في 1990عهد دي كليرك، واصبح أول رئيس أسـود لعام 1994- 1999 أنتخب في أول انتخابات متعددة وممثلة لكل الاعراق حيث هنالك اكثر من 11 لغة وعدة أديان سماوية وارضية، وقد ركزت حكومته على تفكيك أرث النظام السابق من خلال تصديه للعنصرية، وعدم المساواة ومكافحة الفقر، تعزيز المصالحة الوطنية السياسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية لنزع التوترات العرقية، تأسيس دستور جديد ولجنة للتحقيق في انتهاك حقوق الانسان، اتخاذ تدابير لتشجيع الاصلاح الزراعي وتوسيع الخدمات والرعاية الصحية، امتنع عن ترشيح نفسه لولاية ثانية ، اليس هذا بكرسي ؟. اين نحن من ذلك ؟.
عندما تختلط بالناس فالكل يستقبلك بتحية الصباح والمساء، رجالا ونساء، بابتسامة لا تفارق الثغرالجميل، اسـودا ام ابيضاً او ما بينهما. عندما يأكل الابيض في المطعم فعليه ان يتذكر بان هنالك اسـودا فقيرا جائعاً ينتظر، يعيد النادل ما تبقى من الطعام وكأنه للتو قد أعـد طهيه، مغلفا بالورق، يقدمها الابيض للاســود المحتاج عند خروجه من المطعم، اصبح هذا الامر متبعاً ومعتاداً لدى الناس.
أن سـر الوصول الى هذا المستوى العالي الرفيع من العلاقات الاجتماعية ؛ هو من جراء انتهاج وسلوك وتطبيق سياسة التسامح التى زرعها مانديلا في المجتمع ووصاياه في هذه الاطر، ... نتذكر وصيته الموجهة للربيع العربي في مجال المصالحة للاطراف السياسية في هذه البلدان : أوصيكم بوصية نبيكم (ص) أذهبوا فانتم الطلقــاء.
يقول مانديلا اثناء المحاكمة ؛ دخل بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النـمر، وقد اختار الزي لابراز المعنى الرمزي لكونه رجلا افريقياً يحاكم في محكمة الرجل الابيض، يقول وكنت احمل على كتفي تاريخ قومي وثقافتهم، وكنت على يقين ان ظهوري بذلك الزي سيخيف السلطة من ثقافة افريقيا وحضارتها.
قال مانديلا؛ في اليوم الاخير من حياتي اريد ان أتأكد من أن من عاشوا بعدي سـيقولون: هذا الرجل الذي يرقد هنا، قام بواجبه من اجل بلـده وشـعبه.
وري جثمانه الثرى في مسقط رأسه، زاروه من كل البلـدان .
انتهت الانتخابات، ولازال عامة الناس في جنوب افـريقيا ينتخبــونه، وفي العراق لازال الزعيم عبد الكريم قاسم سـاكنا في القلـوب والقـمر....