المنبرالحر

حمادي فنان في ذمتنا / طه رشيد

رحل مؤخرا في بلجيكا الفنان التشكيلي المبدع محمد سيد جبار (حمادي) عن عمر تجاوز بالكاد الستين عاما وهو ما زال في عنفوان عطائه. فإن كان مجهولا لعدد كبير من الفنانين هنا فلأنه ترك العراق مبكرا، بعد الحملة الفاشية التي شنها النظام السابق ضد القوى التقدمية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولكن بالمقابل فانه اسم يشار له بالبنان في عموم بلجيكا باعتباره مبدعا تشكيليا مجددا وفنانا متميزا ذا شاعرية مرهفة تشبه الى حد كبير امواج المياه الهادئة التي تغفو عليها مدينته العمارة.وقد اكمل دراسته الفنية في بلجيكا.
مع مطلع التسعينيات وبعد احتلال الكويت، اقامت قوى المعارضة بالتنسيق مع «دار ثقافات العالم» في برلين، مهرجان الثقافة العراقية الذي استمر لسنوات عديدة وفد حضرت هذا المهرجان اسماء لامعة في الثقافة العراقية، وكان «حمادي» احد المساهمين. كان يرفض الحديث باللهجة ويعتمد الفصحى دائما حتى في نكاته العديدة! ولكن يوشوش مرات باذني بكلمات عراقية صرف خاصة حين يكون طلبا شخصيا كما فعل في هذا المهرجان حين طلب مني توزيع نسخ من قصائده على الحضور.
وفي حدود التشكيل فقد حمل معه سجادة كبيرة ورسم عليها مدفعا منكسا ليعلن صراحة موقفه من الحرب عبر اداته الفنية.
اكملنا الخدمة العسكرية الالزامية سوية وكنا في بادئ الامر في المسرح الوطني وكل صباح نسمع تهديدات الضابط : سانقلكم للشمال ( وكانت حرب الـ 74/ 1975 قد التهبت بين فصائل الاكراد والجيش العراقي). في صبيحة اليوم التالي كرر الضابط اسطوانته المشروخة.
تقدم الجندي المكلف خطوة الى الامام وادى التحية العسكرية وقال :
ـ سيدي ارجو ان تنقلني الى الشمال !
ذهلنا كما ذهل الضابط
ـ سيدي انقلني الى الشمال .
وطلب الضابط منه العودة الى الخلف اكثر من مرة فصرخ محمد «صير صاحب كلمة وانقلني الى الشمال».
قلنا لمحمد : انت مجنون كيف تطلب النقل الى الشمال والحرب مشتعلة ؟
قال : اردت ان اؤدب هذا الطرطور كي يكف عن تهديدنا .
لم يكن امام الضابط الا ان يصدر امرا بنقله الى الشمال. وبعد اسابيع معدودة جاءنا محمد فرحا مبتسما :
نقلوني الى الموصل. سألني امر الوحدة ماذا تعرف ؟ قلت له انا رسام .سألني ماإذا استطيع ان ارسم في المعسكر؟ فقلت له صورة السيد الرئيس ( كان البكر آنذاك) ..واضفت لكني بحاجة الى اصباغ وفرش وقماش . فقال لي اذهب واشتريها من الموصل فقلت له لا توجد المواد الا في بغداد واحيانا يجب ان نقدم طلبا وننتظر اياما حتى تصل المواد. وها هو منحني عدم تعرض مفتوح كي اشتري المواد.
انهى محمد سيد جبار خدمته العسكرية مسافرا بين الموصل وبغداد لكنه لم يكمل لوحة الرئيس !!
فنان مبدع غادرنا على حين غفلة . ما تركه من منجز يبقى بذمتنا كي نجمع قصائده ولوحاته ونتعاون جميعا كي نصدرها في كتاب تخليدا لذكراه الطيبة .