المنبرالحر

نظرة قانونية: رئيـس البـرلمـان / د. فلاح إسماعيل حاجم

لم تتمخض جلسة البرلمان العراقي الأولى، التي عقدت عليها الكثير من الآمال، سوى عن أداء اليمين، الذي سرعان ما تم الحنث به من قبل ممثلي الشعب، حيث انسحب بعضهم بذرائع لا أعتقد أنها مقنعة، وخصوصا في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه بلدنا، والذي يتطلب التسامي على المصالح الفئوية الصغيرة والنظر إلى الأمور من خلال موشور المصلحة الوطنية العامة، المتلخصة في توحيد كل الجهود لدعم الجيش والمؤسسة الأمنية لمجابهة الإرهاب، الذي بات يهدد ليس العملية السياسية وحسب، بل ويضع مستقبل الدولة العراقية ووحدة أراضيها أمام مصير مجهول.
بالإضافة إلى ذلك فان الانسحاب من الجلسة الأولى والتسبب في تعطيل عمل مجلس النواب جاء في خرق واضح للدستور العراقي، الذي تنص مادته الخامسة والخمسون على أن " ينتخب مجلس النواب في أول جلسة له، رئيسا، ثم نائبا أول ونائبا ثانيا، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس، بالانتخاب السري المباشر". ولا أعتقد أن هنالك ثمة ضرورة للتذكير بأهمية عمل البرلمان في هذه المرحلة، حيث الدولة في سباق مع الزمن لإصلاح العملية السياسية وإحداث التغيير المنشود للتغلب على آثار المحاصصة الطائفية (كما وعد المنسحبون أثناء الحملة الانتخابية)، التي أرى أن ممثلي الشعب المنسحبون يحاولون إعادة إنتاجها، ذلك أن كافة المؤشرات تشير إلى أن سبب الانسحاب جاء بسبب الاختلاف على توزيع المناصب بين زعماء الكتل السياسية والطائفية، الذين لم يكف عقد من الزمن لتعليمهم التفكير بعقلية رجال الدولة، والكف عن التصرف كزعماء قوميات وطوائف وقبائل.
لقد شكل الخلاف على منصب رئيس البرلمان بين أعضاء الكتلة التي قدر أن يكون هذا المنصب من حصتها وفق نظام المحاصصة، كما يبدو، ذريعة لتعطيل عمل الجلسة. من هنا ربما يكون مناسبا تناول موضوع رئيس البرلمان وأهميته في منظومة أجهزة الدولة.
رئيس البرلمان(الانجليزية – speaker)، مصطلح واسع الانتشار في الأدبيات السياسية والقانونية، ويستعمل بشكل رسمي في المملكة المتحدة والمستعمرات السابقة للإمبراطورية العجوز، وكذلك في بلدان العالم الثالث التي تأثرت منظوماتها السياسية والقانونية بالنظام الأنجلو- سكسوني.
تتفق أغلب المصادر التاريخية على أن منصب رئيس البرلمان، بمفهومه المعاصر، ظهر في عام 1377 في مجلس العموم البريطاني، وكان الرئيس الأول لبرلمان بريطانيا العظمى هو توماس هانغيرفورد (Thomas Hungerford) .
إن الصلاحيات المهمة لرئيس البرلمان، أو هيئة الرئاسة، تشمل جميع جوانب النشاط البرلماني. فهو يمثل السلطة التشريعية في العلاقة مع أجهزة الدولة، وكذلك مع برلمانات الدول الأخرى، ويمتلك سلطة إلزام أعضاء البرلمان التقيد بالنظام الداخلي وعدم الإخلال بالنظام العام، أي كل ما يدرج تحت ما يسمى بالسلطة التأديبية. ويقوم، بالاتفاق مع نوابه ورؤساء الكتل، بتحديد جدول عمل جلسات البرلمان ويؤمن التسلسل الزمني للنظر في مشاريع القوانين المحالة إليه من الحكومة وقراءتها، حسب الأهمية. وبطبيعة الحال يقوم رئيس البرلمان، أو أحد نوابه، بإدارة النقاش حول المواضيع المطروحة، وبإمكانه استخدام سلطته لاتخاذ إجراءات رادعة بحق زملائه البرلمانيين، بما في ذلك حجب حق العضو البرلماني في الحديث، أو مقاطعته أثناء الجلسة، إذا ما وجد ثمة خرق لنظام البرلمان الداخلي، أو الإخلال بالنظام العام والعرف البرلماني. ويحدد رئيس البرلمان أيضا نظام ونوع التصويت على مشاريع القوانين والقرارات البرلمانية ويعلن نتائج التصويت. ومن صلاحيات رئيس البرلمان الحساسة والمهمة هي الأشراف على الجوانب المالية في نشاط البرلمان والتصرف بميزانية الجهاز التشريعي بمساعدة نوابه. ومن بين صلاحيات رئيس البرلمان الأخرى تعيين الموظفين والمستشارين في البرلمان، ويقع ضمن مسؤولياته أيضا الإشراف على الأجهزة الأمنية المكلفة بحماية البرلمان، ويترأس تلك الأجهزة في بعض البلدان.
أن الصلاحيات الإجرائية الممنوحة لرئيس البرلمان ونوابه وأجهزته القيادية تؤثر بشكل كبير على قرارات البرلمان وسياسته، وخصوصا في مجال تشريع القوانين واتخاذ القرارات الأخرى الهامة.
ولابد من التأكيد هنا على أن بإمكان رئيس البرلمان التأثير على نشاط الجهاز التشريعي للدولة من خلال تشجيع، أو إهمال جوانب محددة في نشاطه. فبإمكانه، على سبيل المثال، عدم إعطاء ممثلي المعارضة الوقت المخصص للحديث، أو مقاطعتهم، وكذلك من خلال التركيز على القضايا الثانوية وإهمال المسائل ذات الأهمية القصوى بالنسبة للبلد. وهو الأمر الذي شهدنا تجلياته الأكثر قتامة منذ الدورة الأولى لبرلمان دولتنا الناشئ. فيما يفترض برئيس البرلمان التزام جانب الحياد التام، حتى أنه يتوجب على المسئول الأول في جهاز الدولة التشريعي الخروج من الحزب السياسي الذي ينتمي إليه والبقاء، كما يعبر السياسيون الإنجليز" كخادم للمجلس" بدون ميول سياسية.
من الناحية الشكلية على رئيس البرلمان أن يكون عابرا للانتماءات الحزبية، ومتجاوزا انتمائه الأثني ( القومي والديني والطائفي والعشائري...) والتزام الحياد التام، كما أسلفنا، غير أن الكثير من رؤساء البرلمانات يخرق هذه القاعدة، خصوصا حينما تكون له مصلحة في هذه أو تلك من القرارات، فيما يكون من الصعب إثبات عدم حيادية الرئيس، ربما بسبب حيز المناورة الذي تتيحه له التشريعات والأنظمة، حيث يمتلك، في بعض الأحيان، حق تفسير القواعد الإجرائية، في حال بروز خلاف بهذا الشأن تحت قبة البرلمان(البرلمان الهولندي مثالا).
ونحن بصدد الحديث عن حجم الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس البرلمان أجد مناسبا الإشارة إلى أن تشريعات بعض البلدان اعتبرت رئيس السلطة التشريعية بمنزلة رئيس الدولة. فقد أوكلت تشريعات بعض الدول مهمة رئاسة الدولة، في حال غياب الرئيس، إلى رئيس السلطة التشريعية (البرلمان). ففي فرنسا، على سبيل المثال، حيث لا وجود لمنصب نائب الرئيس، تول رئيس البرلمان منصب الرئاسة، على اثر وفاة رئيس الجمهورية جورج بومبيدو ولحين انتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا لفرنسا. وفي العراق أيضا "يحل رئيس مجلس النواب محل رئيس الجمهورية في حال عدم وجود نائب له، على أن يتم انتخاب رئيس جديد خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوما من تأريخ الخلو" (المادة 75 "رابعا" من الدستور العراقي).
وفي بعض الأحيان ينتخب رئيس البرلمان ونوابه فقط لفترة فصل تشريعي واحد ولا يعتبر من الشخصيات المهمة في الدولة، بل أوكلت إليه مهمة تنفيذ بعض الوظائف الخدمية، وخصوصا في الحالات الاستثنائية، تماما مثلما هي الحكومة الخدمية، أو حكومة تصريف الإعمال (الدستور السويسري مثالا). وما أحوجنا في الوقت الراهن لمثل هكذا نظام، على الأقل لإشباع رغبة رؤساء الكتل البرلمانية في الزعامة، وإن كان ذلك على حساب مصالح الوطن والشعب، في وقت يكون الخطر فيه ماثلا، ليس على حدود الوطن فحسب، بل وعلى أبواب عاصمته أيضا.
ونحن بصدد الحديث عن رئيس البرلمان، ربما يكون من المفيد الإشارة إلى المسئول الأول للغرفة الثانية في برلمان الغرفتين (مجلس الشيوخ، المجلس الفيدرالي، مجلس القوميات ... الخ)، الذي يكون، في اغلب الأحيان، من السمات المميزة للدولة الفيدرالية.
ويتم شغل منصب رئيس الغرفة الثانية في البرلمان، التي تسمى في الأدبيات القانونية الغرفة العليا، بأساليب مختلفة. ففي بعض البلدان يتم انتخابه، من قبل زملائه أعضاء البرلمان، تماما مثلما هو رئيس مجلس النواب (فرنسا، اليابان، ايطاليا، روسيا). فيما ذهبت بعض البلدان إلى إسناد مجلس الرئيس إلى احد المسئولين، بحكم منصبه. ففي الولايات المتحدة، وبعض الجمهوريات التي اعتمدت الشكل الرئاسي للحكم يصبح نائب الرئيس، تلقائيا، رئيسا لتلك الغرفة. وفي المملكة المتحدة يعتبر اختيار رئيس مجلس اللوردات من صلاحيات رئيس الوزراء، حيث يعين احد أعضاء الكابينة الوزارية ويسمى اللورد – المستشار. أما في كندا فيتم تعيين رئيس مجلس الشيوخ، مع جميع أعضاء المجلس، بقرار من الحاكم العام، بتوصية من رئيس الوزراء.
وفي كلتا غرفتي البرلمان يعمد الأعضاء إلى انتخاب ما يطلق عليهم نواب الرئيس الدائمين، الذين توكل إليهم مهمة تنفيذ وظائف رئيس الغرفة، عند غيابه. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، حيث يتعذر على نائب رئيس الدولة (رئيس مجلس الشيوخ) حضور جلسات المجلس بشكل مستمر، ينتخب المجلس رئيسا مؤقتا له، ويسمى رئيس مجلس الشيوخ المؤقت. على أنه لابد من الإشارة هنا أن هذه الحالة لا تنظم بقواعد مكتوبة، إنما تدرج ضمن ما بات يطلق عليه العرف البرلماني. ومن الممكن أيضا أن توكل وظيفة رئاسة الغرفة العليا في البرلمان إلى رئيس كتلة الحزب الحاكم، إذ يتم تعيينه لهذه المهمة من قبل الحكومة (مجلس اللوردات الانجليزي مثالا).
وما زلنا بصدد الحديث عن العرف البرلماني، أو العرف الدستوري بشكل عام، أود الإشارة إلى أن الاعتماد على التقاليد الدستورية (العرف) يمكن أن يكون ذا جدوى، فقط في حال تجذر تلك التقاليد واختبار فاعليتها في بناء منظومة الدولة السياسية والقانونية، ذلك أن العرف يعني في القانون الدستوري مجموعة القواعد غير المكتوبة، التي يمكنها أن تصبح مصدرا للقانون شريطة تكرار استخدامها لفترة طويلة واكتسابها المشروعية من خلال اعتراف الدولة بها.
إنني أرى أن المرحلة الراهنة تتطلب وجود سلطة تشريعية فاعلة (مجلس نواب) برئيس مشهود له بالكفاءة والوطنية، ليسهم فعلا بفاعلية في دعم الحشد الوطني للوقوف بوجه الهجمة الإرهابية الشرسة التي تهدد كيان الدولة، ومن ثم تفعيل العمل التشريعي والرقابي المثابر لتصحيح مسار العملية السياسية والتخلص من إرث الدكتاتورية البغيضة والمحاصصة الطائفية سيئة الصيت.