المنبرالحر

دعارة / سلوى زكو*

في خمسينات القرن الماضي، كان مبنى جريدة البلاد يقع في منطقة الميدان، في زقاق رطب لا تدخله الشمس، تصطف على جانبيه دور البغاء. كانت الدور متداعية أكلت جدرانها السميكة رطوبة تتغذى من مياه الصرف الصحي فتبعث في المكان رائحة خانقة هي مزيج من روائح النتانة والتبغ والخمور وعطور البغايا الرخيصة.

مع ساعات المساء الأولى، تدب الحياة في المكان، ومعها يبدأ الدوام في الجريدة. كنت أدخل إلى ذلك الزقاق الضيق بإنارته الشاحبة فألمح رجالا بأعمار وأزياء مختلفة يمشون بخطى متسارعة وكأن هناك من يطاردهم، ثم يختفون وراء تلك الأبواب العتيقة الغامضة.

سيبدو غريبا في عين زمننا هذا أن أقول إنني لم أكن أشعر بالخوف أو التوجس من مصادفة هؤلاء الغرباء وأنا وحيدة في الزقاق. يوما بعد يوم، وسنة إثر سنة، لم يحدث قط أن ضايقني أحد منهم أو تحرش بي. كان هناك فرز مجتمعي بين هذا وذاك، وبين ما يصح وما لا يصح، وبالتالي بين زبائن المكان الباحثين عن المتعة وبين فتاة تذهب إلى عملها.

ويدور الزمن دورته العنيفة لأقف أمام لقطة من موقع جريمة زيونة، مجموعة من الأجساد الشابة تتكدس في الحمام غارقة بدمائها. يبدو أنهن هرعن للاحتماء بذلك المكان عسى ألا يتنبه القتلة إلى وجودهن. أين الفرز في هذا المشهد الدامي؟ ومن الداعر هنا؟

في هذا الجزء من العالم، يقبع الشرف بين فخذي امرأة، وكل ما عدا ذلك مباح لا علاقة له بقيم الشرف. هنا، لا أحد يصف ناهبي المال العام بأنهم بلا شرف، ولا ينتقص من شرف المرء أن ينتظم في عصابة مسلحة تثلم شرف الدولة، ولا ينزع أحد الشرف عن مزوري الشهادات وعاقدي الصفقات المشبوهة ومنفذي مخططات الجهات الأجنبية وقتلة خيرة الكوادر العلمية العراقية. كلهم شرفاء ما دام عفاف نسائهم فوق الشبهات.

في أجزاء أخرى من هذا العالم الحافل بالعجائب والمتناقضات، يمثل الشرف منظومة مترابطة من المثل والعادات والمفاهيم والقيم المجتمعية المتفق عليها. هناك يتمثل الشرف بقيم العمل والالتزام بالقانون واحترام حقوق الآخرين وعدم المساس بحرياتهم ومعتقداتهم. ويكفي أن يقول لك أحدهم أعطيك كلمة شرف لتوازي كل أنواع القسم بالله وبالمقدسات التي نمارسها هنا ليل نهار، صادقين أو من باب التقية.

أين موضع الخلل لدينا؟ أحسب أن جزءا من هذا الخلل يعود إلى اندحار القدرة على الفرز بين ما يصح وما لا يصح، بين الدولة وقوانينها وبين من يضعون قوانينهم الخاصة ويطبقونها بالقوة، بين الحق والباطل، وبين المجرم والبريء. لقد غامت الرؤية مع تداخل الخنادق، وما عاد سهلا أن تعرف الفرق بين من قتل النساء في زيونة وبين دعاة الدفاع عن الفضيلة وهم يحملون في جيوبهم كواتم الصوت.

هل يعرف هؤلاء القتلة أن الشرف ليس امرأة؟

* صحيفة العالم الجديد