المنبرالحر

مفهوم إعادة كتابة التاريخ بين دكتاتورية السلطة وسلطة المنجز التاريخي / خضر عواد الخزاعي

منذ فجر التاريخ ونشوء أولى السلالات الحاكمة أصبحت السلطة التي تكونت على أنقاض النظام القبلي والحياة البدائية حلما لكل المقامرين الذين كانوا يتحينون الفرص ليحظوا بفرصة الوصول إلى سدة الحكم وتسجيل أسمائهم في سفر التاريخ الذي سيتناولهم يوماً ما بالمديح أو الهجاء وكانت هذه السلطة وعلى مر العصور وبما توفره من إمتيازات كثيرة سواءاً كانت مجتمعية أو سياسية أو طبقية قد ساهمت في إحداث الكثير من الحروب والإنقلابات والغزوات وتغيير الخرائط الجيوسياسية والطوبغرافية لكثير من البلدان والأمم وكان الطموح للوصول إلى السلطة في أول الأمر يصاحبه بعد إستتباب الأمور للحاكم الجديد رغبة كبيرة في أعادة كتابة تاريخ مغاير لما كان قد كتبه او خطه سلفه في الحكم وفي أحيان أخرى كان التاريخ بكتّابه ومؤرخيه يأخذ على عاتقه مهمة تدوين ما خلفه الحاكم من منجزات سواءاً كانت مشرفة ساهمت في إعادة صياغة الأمة وتشكيلها من جديد على أسس حداثوية أو إرث منحط حول الأمة إلى حطام من الفقر والحروب والضعف في إدارة الدولة .
وكانت عملية إعادة كتابة التاريخ ترتبط بعاملين مهمين وهما :
1- قوة الحاكم ومؤسسة الحكم والتي تفرض نفسها من خلال بعض الإنجازات المؤثرة في الواقع الحياتي لتلك الأمة التي تكون تحت ظل السلطة الراعية لمفهوم إعادة كتابة التاريخ وقد تتم هذه الإنجازات عن طريق الحروب والغزوات أو صد أعتداء يستهدف كيان الأمة أو من خلال العمران والبناء والتشريعات والمحافظة على كيان الأمة .
2- المؤسسات الإعلامية والدعائية الداعمة لعملية إعادة كتابة التاريخ وما تقدمه تلك المؤسسات من خلال منظوماتها المقروءة والمسموعة والمرئية لترسيخ فكرة القائد وتاريخه الجديد وهذه المهمة يقوم بها نفر من الذين هيأت لهم ملكات أبداعية خاصة في التجرد من كل ماهو ذاتي أو شخصي وتبني عقيدة القائد التاريخي ولو كان على حساب ما يؤمنون به من معتقد ودين وفكر .
ومسألة إعادة كتابة التاريخ لاترتبط بفترة تاريخية معينة ولا بنظام حكم معين ولا بأمة دون غيرها وأن كان الدين والمذهب والقومية والطموح الشخصي من الأسباب المساهمة في عملية الدفع بعملية إعادة كتابة التاريخ فالتاريخ القديم والحديث يحدثنا عن شخصيات ورموز تاريخية أستطاعت وبزمن قياسي أن ترسم لها على صفحات التاريخ صور مشرقة أغنت العالم والحضارات الإنسانية بكل ما أسهم في رفد الإنسانية بمقومات النهوض والرقي والتطور ليومنا هذا ومن هؤلاء :
1- الملك العظيم حمورابي : وهو سادس ملوك بابل وأول ملوك الإمبراطورية البابلية حكم بابل بين عامي ( 1728 – 1686 ق.م ) ورث الحكم من أبيه) سين موباليت ) وكانت بلاد الرافدين دويلات منقسمة تتنازع السلطة فوحدها مكوناً إمبراطورية ضمت كل العراق والمدن القريبة من بلاد الشام حتى سواحل البحر المتوسط وبلاد عيلام ومناطق أخرى وكان حمورابي شخصية عسكرية لها القدرة الإدارية والتنظيمية والعسكرية وكان من إنجازاته مسلته الشهيرة المنحوتة من حجر الديوريت الأسود والمحفوظة الآن في متحف اللوفر بباريس والتي تعتبر من أقدم وأشمل القوانين في وادي الرافدين بل والعالم وتحتوي مسلة حمورابي على 282 مادة تعالج مختلف شؤون الحياة الاقتصادية و الأجتماعية وهو على جانب كبير من الدقة لواجبات الأفراد وحقوقهم في المجتمع كل حسب وظيفته ومسؤوليته و يشتمل قانون حمورابي الذي صدر في السنوات الأخيرة من عهده قمة ما وصلت إليه وحدة البلاد السياسية و الحضارية حيث طبق القانون على جميع المدن و الأقاليم التي ضمتها الدولة البابلية و ضم القانون مختلف القواعد و الأحكام القانونية كمبدأ التعويض و مبدأ القصاص و مبدأ عدم جواز التعسف باستعمال الحق الفردي و مبدأ القوة القاهرة وقام حمورابي باتباع سياسة مركزية تعتمد على سلطته دون أي تدخل من قبل الكهنة و كانت الإمبراطورية تدار من قبل الحكام الذين يعينهم في المدن و الأقاليم المختلفة و كان كل حاكم مسؤول عن إدارة شؤون إقليمه بصورة عامة و تتركز واجباته في حفظ الآمن و الاستقرار و الإشراف على تنفيذ المشاريع العامة و المحافظة على أمن و سلامة طرق المواصلات إضافة إلى مسؤوليته المباشرة عن إدارة المقاطعات و الأراضي الملكية و كان حمورابي على اتصال دائم بحكام أقاليمه و موظفيها يوجههم و يبعث إليهم بالتعليمات التفصيلية في مختلف القضايا كبيرها و صغيرها و يستدل على ذلك من مجموعة الرسائل الملكية الكثيرة التي أرسلها إلى حكامه و لا سيما إلى حاكم مدينة لارسا .
ربما لم يكن يدور بخلد الملك حمورابي وهو يعيد تأسيس مملكة بابل من جديد أنه كان يعمل من حيث لايدري بإعادة صياغة تاريخ جديد غير كل التواريخ التي سبقه فيها ملوك بابل فلقد كان حمورابي مثالا للحاكم القوي ظهر في بلاد الرافدن في فترة مهمة وخطيرة من تاريخه ولأجل ذلك أستحق العديد من الألقاب منها : ملك بابل وملك الجهات الأربعة وملك أمورو وملك سومر وأكد ورئيس العائلة والسيد العظيم وكان من أعظم انجازات حمورابي بالإضافة إلى مجمل إنجازاته هو :
أولاً : تحديده لسلطة الكهنة وأخراج المعبد من معادلة قيادة الدولة ووضعه في مكانه الطبيعي كمكان للعبادة وتقديم النذور وبذلك جعل من سلطة الدولة بثياب علمانية غير خاضعة للمعبد والكهنة .
ثانياً : قيامه بإنشاء العديد من المدارس لتوحيد الهوية الثقافية للدولة حيث عثر على مدرستين يعودان لفترة حكم الملك حمورابي في ( سبار) والثانية في ( كيش ) ويبدو ان الغرض كان بالأضافة إلى العامل التربوي والثقافي كان الغرض منه نشر ملامح الثقافة الجديدة التي بشر بها حمورابي في مجالات تشريع القوانين ونشرها وفرض سلطته المركزية التي دامت 42 عام .
2- بطرس الأكبر : ولد بيتر الكييفيتس رومانوف في العام 1672 وفي سن العاشرة في العام 1682 قدر لبطرس الأكبر أن يتوج قيصراً على عرش روسيا مناصفة مع أخيه ( إيفان الخامس ) الذي توفي بعد أربعة عشر سنة في العام 1696 لينفرد بالسلطة المطلقة لروسيا وأول ما أتجه لتحديث الجيش وتقوية قدراته لأنه سيكون ذراعه التي يبطش بها ويعيد توحيد روسيا ويضمن توسعها لتكون روسيا الإمبراطورية الدولة الأكثر مدنية وانفتاحاً على أوربا والعالم وحقق أول نجاحاته العسكرية في أنتزاع مدينة أوزوف من الدولة العثمانية 1696 والتي كانت تحول بين روسيا والبحر الأسود وبعد إحتلاله مدينة أوزوف توجه لإحتلال منطقة بحر البلطيق ولقد تم له ذلك في العام 1709 وبذلك أضطرت السويد للتنازل لروسيا عن أستونيا ولتوانيا وأجزاء من فنلندا وعرف عن بطرس الأكبر قوة شخصيته وغزارة ثقافته وتمتعه بإرادة قوية لخدمة بلاده يصفه ( فردريك الثاني ) ملك بروسيا ( كان محاربا شرسا وخبيرا واقتصاديا ولم تكن تنقصه إلا المعرفة الحقيقية بالتعليم حتى يكون قدوة لجميع الملوك ) وكان يردد دائما : لا معنى لأي إمبراطورية إن لم تمتلك جيشا أرضيا وأسطولا بحريا قويا .
في العام 1742 رحل بطرس الأكبر بعد ان ترك إرثا كبيراً لروسيا الكبيرة الموحدة .
3- ماو تسي تونغ : ( 1893 – 1976 ) تزعم الحزب الشيوعي الصيني منذ العام 1935 حتى وفاته أعتنق الماركسية خلال دراسته في جامعة بكين وبعد سنوات قليلة كان مع أثني عشر ناشطاً من الذين أسسوا الحزب الشيوعي الصيني في العام 1921 في شنغهاي وفي العام 1937 أصبح زعيماً للحزب وأسس مفهوم ( الماوية ) وهو مزيج من شيوعية لينين وماركس مركزاً اهتمامه على شريحة الفلاحين في قيام الثورة بالصين وفي العام 1927 أقام اول حكومة صينية بدعم سوفيتي قوامها الفلاحون بعد مواجهات مع حكومة ( شيانج كاي شي ) في سنة 1934 أحاط القوميون بسوفيت هيوان – كيانجسي فانسحب الشيوعيون وبدأو في الهروب برحلة طولها 6000 ميل نحو الحدود الغربية وكانوا يقدرون بأكثر من 100000 رجلوامرأة وطفل سافروا سيراً على الاقدام لمدة عام مارين خلال 12 مقاطعة و 24 نهرالعديد من سلاسل الجبال الغابات الكثيفة والصحارى المهجورة ولم ينج منهم إلا 20000 وفي العام 1947 أستعاد ماو بعض قوته وشرع بوضع خطة لإسقاط حكم (شيانج كاي شي ) ولقد نجح بعد سنتين في عام 1949 حيث أنتصرت قواته واعلن قيام جمهورية الصين الشعبية التي كانت في أسوء حالاتها واعتمد ماو على ثلاثة محاور رئيسية لنهضة الصين وهي :
4- تحويل أقتصاد الصين من أقتصاد رأسمالي إلى أقتصاد أشتراكي .
1- سيطرته على كل أجهزة الدولة من خلال أدارة بوليسية قمعية وظف فيها كل مؤسسات الدولة للدعاية لمشروعه في تأسيس دولة مدنية قوية .
2- اهتمامه بالتعليم وجعل منه ركيزة أساسية بالنهوض بالصين من تركة الأرث الديني والعقائدي وجعل من شعار تقديس الصين فرضاً على كل الصينيين ولقد كان للطلبة دور مهم خلال الثورة الثقافية التي قادها ماو في العام 1966 .
لاشك أن ماو كان من الرؤساء القلائل في التاريخ الحديث الذين عملوا بجد ونشاط لتاسيس دكتاتورية سلطوية قوامها المؤسسات الإعلامية والأمنية العسكرية مستعيناً بقوة الحزب الذي جعل منه الواجهة الأيدلوجية للصين الحديثة وكانت الصين حينها تقترن بأسمه كما الحزب الذي كان المفروض به أن يكون وعائاً جامعاً للصين الحديثة قبل ان يتحول إلى اداة تصفيه لمعارضي ما والحزب ولقد حرص ما خلال سني حكمه على أن يجعل من الحزب ومؤسسته العسكرية رديفان لايفترقان فكان يقول ( من فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية ) وكان ذلك مدعاة لقيامه بحملات متلاحقة في تصفية خصومه وخصوصاً خلال مرحلة ( الثورة الثقافية ) في العام 1966 وفي طرح آخر لتدعيم سلطة الحزب التي هي سلطته يقول (الحزب هوالذي يجب أن يوجه البنادق ولن يسمح أبدا للبنادق بأن توجه الحزب ) وذلك كان سبباً كافياً في الطعن في وطنية من يشاء من أعدائه والتخلص منهم بحجة معاداتهم للحزب .
وهنا يطرح سؤال مهم هل تعادل دكتاتورية ماو وما قام به من أعمال عرفت بقسوتها وفظاعتها رغم أنها ساهمت بخلق نهضة كبيرة للصين جعلتها دولة عظمى في مصاف الدول الخمس في مجلس الأمن وقوة لايستهان بها ؟ سؤال نتركه للتاريخ لكن ليس التاريخ الذي أعاد صياغته ماو تسي تونغ لنفسه وللصين الحديثة .
3- نيلسون مانديلا : ( 1918 – 2013 ) سياسي وماضل أفريقي مناهض لسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا شغل منصب رئيس المهورية بين الأعوام ( 1994 – 1999 ) وكان أول رئيس أسود لجنوب افريقيا أمتاز تاريخه في القضاء على نظام الفصل العنصري وتعزيز المصالحة والقضاء على الفقر أنضم مانديلا لحزب المؤتمر الوطني وقاد عصبة الشبيبة التابعة للحزب في العام 1961 ألقي القبض عليه وأتهم بمهاجمة أهداف حكومية وفي عام 1962 حكم عليه بالسجن المؤبد حيث مكث بالسجن 27 عاماً وفي وسط ضعوطات دولية وحرب اهلية أطلق سراحه بالعام 1990 حيث أصبح رئيس لحزب المؤتمر الوطني وبدأ المفاوضات مع رئيس الجنوب أفريقي دي كليرك لإلغاء سياسة الفصل العنصري وإقامة انتخابات متعددة الأعراق وفي العام 1994 انتخب رئيساً لجنوب أفريقيا وقام بكتابة دستور ديمقراطي تعددي لجنوب أفريقيا وأسس لجنة ( الحقيقة والمصالحة ) للنظر في انتهاكات حقوق الانسان وعين الأب ديزمموند رئيساً لها وقام بأجراءات للأصلاح الزراعي والقضاء على الفقر بعد نهاية ولايته أمتنع عن الترشيح لولاية ثانية ليتفرغ للعمل الخيري في مجالات الفقر ومرض الأيدز من خلال مؤسسته ( نيلسون مانديلا ) حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1993 بالإضافة إلى 250 جائزة دولية منها وسام لينين وميدالية الرئاسة الامريكية للحرية وكانت من أشهر مقولاته ( الشعب الشجاع لايخشى المسامحة من أجل السلام ) .
هؤلاء القادة والزعماء التاريخيون ليسوا إلا نقاط صغيرة في مسيرة التاريخ الإنساني أسهموا كلاً حسب زمانه وبيئته في تقديم نموذج سلطوي قاد عملية كتابة أو إعادة كتابة تاريخ الإنسانية بما قدموه من إعمال خالدة غيرت ولو القليل من مجرى التاريخ الإنساني