المنبرالحر

بناء الانسان العراقي في ظل تحديات المرحلة/ احمد عواد الخزاعي

عرف علماء الاجتماع الانسان على انه الكائن الاكثر تطورا من الناحية العقلية والعاطفية ، سواء بالمنظور الديني او المادي ، الذي يعتبر هذا الانسان نتاج عملية معقدة من التطور لكائنات بدائية ..وقد جاء مفهوم الانسان في المثيولوجية الدينية ، على انه الكائن الذي يمتلك روح ، في حين وردت مفردة بشر في الاشارة الى الجانب الحيواني الغرائزي لدى الانسان.. وفي الفلسفة الاغريقية اختلف تعريف هذه المفردة تبعا لتطور وتقدم المجتمعات الانسانية ، لكن اروع ما صورها هو تعريف ارسطو والذي عرف الانسان بمفردة غاية في العمق والرقي وهي (المواطن )..ومن هذا التوصيف المهم انطلقت النظريات الدينية والوضعية محاولة بناء هذا الانسان ، الذي يعد الركيزة الاساس لهذه الحياة الموجودة على الارض ..من اجل تمكينه من امتلاك القدرة على مواجهة تحديات الحياة بكافة اشكالها ، وبناء شخصية له بصورة شاملة كي يستطيع التعامل والتعاطي مع محيطه بالشكل الصحيح ..وهذا ما يحتاج اليه الانسان العراقي في هذه المرحلة المهمة والخطيرة من تاريخ العراق، فبعد عقود طويلة عاشها الانسان العراقي مورست خلالها عليه كل انواع التغييب والتهميش ، نتيجة السياسات الخاطئة لنظام البعث .. نتج عنها حدوث حالة عدم استقرار نفسي وسلوكي لديه ولدها الكم الهائل من الازمات والانتكاسات والحروب التي مر بها عبر هذه العقود ..ابتداء من الحرب العراقية الايرانية عام 1980والتي دامت لثمان سنوات ، وحرب الخليج الثانية واحتلال الكويت عام 1990، وحرب اسقاط الصنم عام 2003 ..ضاعت بين ثنايا هذه الحروب احلام وتطلعات جيل بأكمله ، و احرقت الاخضر واليابس مخلفة ورائها طوابير من (الايتام والارامل والاسرى والمعاقين والعوانس والمحبطين نفسيا )..اضافة الى انها ساهمت في حدوث فراغ اسري نتج عنه غياب الرمز والقدوة في أغلب الاسر العراقية (الاب والاخ الاكبر) لاشتراكهم في هذه الحروب العبثية ..اضافة الى الحصار الاقتصادي الذي مر به المجتمع في فترة التسعينيات من القرن الماضي ، وما احدثه في تغيير الكثير من السلوكيات والثوابت لدى هذا المجتمع ودخول الكثير من المفاهيم والاساليب الخاطئة، كالغش والتزوير والسطو المسلح وقتل الاخرين بدم بارد ..والتي افرزتها سنوات الجمر والعوز والجوع التي مسخت شخصية بعض افراد المجتمع العراقي ..وكقول ابا ذر الغفاري (اين ما ذهب الفقر قال له الكفر خذني معك )..ان هذا الكم الهائل من التراكمات الصعبة والمريرة عبر كل السنين التي مرت على الانسان العراقي ، وجدت لها اليوم متنفسا لتفصح عن نفسها في ظل هذه الفوضى السياسية والامنية والادارية التي نعيشها اليوم ..وها نحن نقتل بعضنا البعض ونهجر بعضنا البعض ونسرق بعضنا البعض ..في ظل افكار واديولوجيات ذهبت اقصى اليمين او اليسار والغت الاخر، لذا نحن اليوم بحاجة ماسة الى اعادة بناء الانسان العراقي فكريا وروحيا وسلوكيا، في ظل مشروع كبير تتبناه الدولة ومؤسساتها التربوية والعلمية والثقافية ، وبمشاركة فاعلة من قبل اصحاب الفكر والرأي من مثقفين ورجال دين معتدلين ومؤسسات مجتمع مدني ..وتكون من اساسيات هذا المشروع بناء الانسان العراقي الجديد على ثوابت وحقائق هي ..الاعتراف بالاخر والاختلاف ، واقرار التعددية ابتداء من حقه في بناء دولته والمساهمة في خدمة مجتمعه دون ادنى تمييز على اساس العرق او اللون او الدين او المذهب، وتحرير العقل العراقي وتجريدة من كل الاملاءات والقوالب التي ساهمت في تقيد حركته الفكرية وعطائه الانساني طيلة القرون الماضية، واهمها التطرف الديني والتعصب المذهبي ..ولدينا تجارب عالمية كثيرة ماثلة امامنا اعطت ثمارا كبيرة وعظيمة يمكن الاخذ بها مع مراعاة بعض الخصوصيات لطبيعة المجتمع العراقي ، ومنها تجربة اسيوية تحمل ملامح شرقية ليست بعيدة عن مجتمعنا وهي التجربة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية.. فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 خرجت منها اليابان منهكة دمرت الحرب معظم بناها التحتية وقاعدتها الصناعية وهزم الانسان الياباني فيها ، فعمدت الحكومات اليابانية الى تبني مشروع بناء الانسان جنبا الى جنب مع بناء ما دمرته الحرب وبدأت بالتعليم ، فأستحدثت درس (التربية الاخلاقية ) وجعلته منهجا لكل المراحل الدراسية ..يعطى فيه الطالب مجموعة من الاساسيات والمفاهيم والقيم النبيلة التي تساعده على بناء نفسه والثقة بأمكانياتها وتمنحه القدرة على قبول الاخر والتعايش معه مهما تقاطعت الآراء والتوجهات والرؤى بينهما ..ومن اهم هذه الاساسيات هي (الاخلاص والانضباط بالعمل ،الاعتدال ، الحرص على التعاون مع الاخرين ، الشجاعة في مواجهة مصاعب الحياة ، الفهم العميق للحرية ،السعي لتطوير الذات ، حب القراءة والبحث ، احترام العمل ، الشعور بالمسؤولية ،الاسهام في تطوير وبناء المجتمع ، احترام النظام ، احترام ثقافة ومعتقدات الاخرين والعمل على تعزيز اواصر الصداقة بين شعوب الارض )..ان هذه المنظومة الاخلاقية والتي لاتبتعد كثيرا عن مفاهيم وروح ديننا الاسلامي الحنيف هي التي اوصلت اليابان الى ماهي عليه الان من تطور ورقي وبفترة قياسية اذا ما قورنت بحياة وتاريخ وتطور الشعوب ، وفي ظل مايشهده مجتمعنا العراقي اليوم من حالة نكوص وتراجع على جميع الاصعدة امام التحديات الخطيرة والمصيرية التي تواجهه والتي تهدده في وجوده ووحدته وسلمه الاهلي ، فما احوجنا الى استنساخ هذه التجربة وتبنيها بخطى واثقة وجريئة ،وبنية صادقة نستطيع من خلالها تجاوز هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العراق الحديث ، نعيد الثقة بالنفس للانسان العراقي الذي سحقته عجلة الحروب والقتل والازمات التي مر بها طيلة الفترة الماضية ..ونمكنه من اعادة صناعة الذات والايمان بالاخر والشعور بالانتماء الذي افتقده نتيجة تلك المحن التي عاشها .