المنبرالحر

دور المخابرات المركزية الأمريكية في انقلاب الثامن من شباط 1963 / د . سيف عدنان ارحيم القيسي*

اشارت الكثير من مصادر تاريخ العراق المعاصر الى دور الولايات المتحدة الامريكية في ايصال حزب البعث للسلطة مستندين الى رواية القيادي في حزب البعث علي صالح السعدي بأننا" جئنا على متن قطار امريكي"،ونفى الكثيرون تلك الرواية بالرغم من وجود معالم واضحة لذلك الدور الذي بدأ بشكل مباشر بعد ثورة 14 تموز 1958 والمعلومات التي بدأت تتدفق على اروقة المخابرات الامريكية لمتابعة ما يرد من معلومات من العراق لاسيما بعد ان انتهج عبد الكريم قاسم سياسة التقرب من المعسكر الاشتراكي وصعود التيار اليساري في العراق مما اثار لغطاً واسعاً داخل الولايات المتحدة الامريكية والبحث عن امكانية للإطاحة بحكمه.
ومهما يكن من امر المؤامرات التي حيكت لقلب نظام الحكم، كان للمخابرات المركزية علم بها، ومن بينها تمرد الموصل في آذار 1959 في العراق الذي قاده عبد الوهاب الشواف. فقد ارسل جون اس دي ايزنهاور John S. D. Eisenhower تقريراً الى واشنطن في 28 شباط "يشير الى انه من المقرر القيام بانقلاب تنفذه عناصر في الجيش العراقي مدعومة من عبد الناصر في الفترة الواقعة بين 2 و 5 آذار". وخلال اجتماع مجلس الأمن القومي في 5 آذار قال مدير وكالة المخابرات المركزية دلاس ان "هناك تقارير تستمر في الوصول إلينا تحكي عن مؤامرات تحاك ضد رئيس الوزراء قاسم. وسواء أكانت هذه المعلومات صحيحة أم لا، فان الوضع في العراق يتطلب أقصى درجات الاهتمام من الولايات المتحدة وربما يملي على الولايات المتحدة الاتصال بعبد الناصر لمواجهة النتائج المحتملة" ويتابع السيد دلاس قائلا" يبدو إننا نواجه خياراً بين الشيوعية أو الناصرية وإن الأخيرة تبدو أهون الشرين".
ومع تنامي النفوذ السياسي للشيوعيين في الشارع العراقي بعد أحداث الموصل،غلب الشعور بالقلق البالغ على الامريكان. وبدا ذالك واضحاً في اجتماع مجلس الأمن القومي في 12 آذار حيث أشار مدير وكالة المخابرات المركزية الن دلاس"عموما الوضع بالغ الخطورة.ومما يؤكد هذه الخطورة هو قرب الكويت من العراق. في الحقيقة ان عبد الناصر ربما يفكر الآن في تدبير انقلاب مضاد في الكويت. وهنا لفت السيد دلاس الانتباه الى خريطة ورسم خطاً بيانياً عن احتياطات النفط في الشرق الأوسط. وبعد ايراد بيانات الاحصائيات عن طاقات الحقول المختلفة، كرر السيد دلاس تحذيره من اننا نواجه وضعاً كارثياً ينبغي ان يكون موضع اهتمام بالغ من جانبنا بشكل مبكر وعاجل".
بلغ الشيوعيون في العراق ذروة نفوذهم في نيسان وايار عام 1959. وأثار هذا توجساً ليس بالقليل لدى صنّاع السياسة الاميركيين. وجرت مناظرة مفتوحة حول غزو العراق "لانقاذه من الشيوعية". وناقش مجلس الأمن القومي امكانية تغيير النظام بعملية خفية كما حدث مع "مصدق" في "ايران". وفي هذا الوقت القى الن دلاس خطابه الناري امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ولكن الغلبة كانت لذوي الرؤوس الباردة، وتقرر تقديم أقصى ما يمكن من الدعم لعبد الناصر قدر الامكان دون اثارة حفيظة حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وينبغي ان يُغازل قاسم بوصفه ثقلاً مضاداً لنفوذ الشيوعيين(رغم ان الكثيرين كانوا يشكون في قدرته على مقاومتهم)،على أن تبقى نشاطات الولايات المتحدة بعيدة عن الانظار وتواصل ما يمكن تنفيذه من برامج تجارية وثقافية على أمل ان يكونوا البديل عن الاتحاد السوفيتي في مساعدة العراق، ومع ذلك كان القلق من وقوع العراق في أحضان الشيوعية عميقا بحيث ان مجلس الأمن القومي اتخذ القرار رقم 2068 بتشكيل "لجنة خاصة حول العراق" تجتمع وتقدم ما يمكن اعداده من خطط عمل لتبديد هذا القلق خلال السنوات القليلة المقبلة.
أدى انفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة في عام 1961 الى تخفيف حدة التوجس من التعاون مع الاستخبارات المصرية. وفي عام 1961 قدم الامريكان الى عبد الناصر خطة لاسقاط قاسم بانقلاب بعثي، وابدى عبد الناصر موافقته على الخطة. "ومنذ عام 1961 وحتى الإطاحة بقاسم في شباط 1963، كان قسم العراق في المخابرات المصرية يتولى مهمة تسهيل الاتصالات بين وكالة المخابرات المركزية وعراقيين لجأوا الى القاهرة. وعمل الامريكان على زيادة هذه الاتصالات باقامة صلات بين محطات الوكالة في بيروت ودمشق وضباط سابقين في الشرطة العراقية في زمن العهد الملكي وعناصر مسيحية لبنانية وسورية تنتمي الى حزب البعث القومي العربي نفسه الذي يناصب قاسم العداء". وبحسب العاهل الاردني الملك حسين فان "لقاءات كثيرة عُقدت بين حزب البعث والمخابرات الاميركية، حيث عُقدت أهمها في الكويت".
وكان صدام حسين واحداً من الذين اتصلت بهم وكالة المخابرات المركزية في القاهرة. فقد جاء صدام الى القاهرة في شباط 1960. وبحسب سيل، فان صدام "أُسكن في شقة بحي الدقي الراقي، وكان يمضي وقته يلعب الدومينو في مقهى انديانا، حيث تراقبه عيون الوكالة والمخابرات المصرية... ولكن خلال هذه الفترة كان صدام يقوم بزيارات كثيرة للسفارة الامريكية حيث كان يعمل خبراء لدى وكالة المخابرات المركزية مثل مايلز كوبلاند ورئيس محطة الوكالة جيم ايكلبرغرJim Eichelberger، وكانوا يعرفون صدام، بل ان الامريكان المسؤولون عن الاتصال بصدام شجعوا المصريين المسؤولين عنه الى زيادة مخصصاته الشهرية". وسواء أكان هذا صحيحا أم لا، فان كتّاباً آخرين ينقلون ان صدام كان على اتصال مع الاميركيين، وهذا ثابت بلا مراء. وكانت المباحث المصرية تراقب صدام عن كثب وتقوم في احيان كثيرة بتفتيش شقته واحتجزته ذات مرة رهن التوقيف في السجن خلال اقامته التي استمرت ثلاث سنوات في القاهرة. وعلى الرغم من تعاون المصريين مع وكالة المخابرات المركزية إلا انهم كانوا ينظرون الى الاميركيين بريبة شديدة ايضاً، وبالتالي الى اللاجئين البعثيين الذين كان الامريكان يزورونهم. ورغم كل الاتصالات التي اجرتها وكالة المخابرات المركزية مع المغتربين العراقيين فإن هؤلاء لم يكونوا عنصراً مركزياً في المخططات الرامية الى اسقاط قاسم.
وبدأ الامريكان يفكرون بجدية للاطاحة بقاسم بعد المستجدات التي طرأت على المشهد العراقي ومن بينها قانون النفط والمطالبة بالكويت التي اقلقت مضاجع الامريكان ووجدوا من الضروري الاطاحة بقاسم بعد سلسلة من الاتصالات اجرتها السفارة الامريكية في بيروت مع بعض السياسيين العراقيين وبضرورة التخلي عن قاسم كما حدث مع فؤاد عارف.
وتحقق الدور الامريكي في صبيحة الثامن من شباط 1963 عند القيام بانقلاب البعث على قاسم وفي الاسابيع التي اعقبت الانقلاب قام المدنيون المسلحون (الحرس القومي) بملاحقة الشيوعيين واليساريين والمتعاطفين معهم وسجنهم وتعذيبهم وإطلاق النار عليهم. واستمر سفك الدماء لعدة اشهر. وتتراوح التقديرات بشأن اعداد الذين طالتهم التصفيات من سبعمائة الى خمس وثلاثون الفا مع الاجماع عموما على رقم يقرب من خمسة آلاف، وقُتل عراقيون ابرياء، وتعرض للتعذيب شيوخ ونساء حوامل حتى الموت أمام ذويهم. ويتفق سائر الكتاب والشهود على ان شريحة واسعة من نخبة المجتمع العراقي، بينهم أطباء ومحامون وبرفيسورون واساتذة جامعة وطلاب، كانوا من بين القتلى كما احتُجِز الآلاف، وكان التعذيب ممارسة شائعة في المعتقلات. وكتب كون كوغلن Con Coughlin الصحفي في صحيفة الديلي تلغراف قائلاً"كانت واحدة من أسوأ غرف التعذيب صيتاً تقع في سجن قصر النهاية الذي كان اسماً على مسمى... وكان ناظم كزار من أشهر الجلادين في ممارسة فن التعذيب، والذي أصبح لاحقا مدير أمن صدام. وذاع صيت كزار بتلذذه في ممارسة العنف العبثي حتى انه نجح في ترهيب رفاقه في الحزب. كان يستمتع على الأخص بإجراء التحقيق بنفسه واطفاء سيجارته في عيون ضحاياه.
وذكر العديد من الكتاب ان وكالة المخابرات المركزية (سي آي أي) وفرت قوائم بأسماء اليساريين المطلوب تصفيتهم. وبحسب ابو ريش"كان مصدرهم الأول هو ويليام ماكهايل، وهو عميل في السي آي أي ينتحل صفة مراسل لمجلة تايم وشقيق دون ماكهايل، الذي أصبح بعدئذ من كبار ضباط الوكالة في واشنطن. وحصل ماكهايل على هذه الأسماء في بيروت من ضابط أمن سابق في العهد الملكي، ونائب مدير الأمن في زمن النظام الملكي بهجت العطية الذي أُعدم شنقا في عام 1959، وكانت المعلومات قديمة. ولكن ماكهايل وإن كانت قائمته أطول القوائم، فانه لم يكن الوحيد. فقد ساهم في هذا العمل المشين ضابط مباحث مصري كبير وبعثيين مسيحيين في لبنان ومجموعة صدام الصغيرة في القاهرة وأفرادا وجماعات أخرى".
وطبقا لما يورده الكاتب مالك مفتي فان أسماء المطلوب قتلهم بُثت ايضا عبر مركز القيادة الالكتروني من الكويت.وبحسب كون كوغلن فان "البعثيين أعطوا (ضمانات) لوكالة المخابرات المركزية بأن جميع المعتقلين ستُجرى لهم محاكمات عادلة. وقد كشفت الولايات المتحدة تواطؤها في الانقلاب بخرق البروتوكول الدبلوماسي والايعاز الى القائم بأعمالها في بغداد بالاتصال بالمتمردين بعد ساعات على الانقلاب والتعهد بالاعتراف بحكمهم. وكان دور السي آي أي معروفاً على نطاق واسع قبل ذلك. وكتبت صحيفة لاكسبرس " LExpress "، ان انقلاب العراق جرى بوحي من السي آي أي. وإن الحكومة البريطانية وعبد الناصر نفسه على علم بالتحضيرات للانقلاب". وبعد سبعة أشهر على الانقلاب، نقلت صحيفة "الاهرام" عن الملك حسين قوله"تقول لي أن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء الأحداث التي جرت في الأردن عام 1957. أسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط 1963 قد حظي بدعم الاستخبارات الأمريكية. ولا يعرف بعض من يحكمون بغداد اليوم هذا الأمر، ولكنني اعرف الحقيقة. لقدُ عُقدت عدة اجتماعات بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعُقد أهم تلك الاجتماعات في الكويت. هل تعلم بأنه... في يوم 8 شباط/فبراير، كانت محطة إذاعة سرية موجهة إلى العراق، وكانت تزود رجال الانقلاب بأسماء الشيوعيين وعناوينهم للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث واكاديمي