المنبرالحر

العراق، خيار التوافقية بديلا عن صناديق الاقتراع/ فرات المحسن

رغم تشبث السيد المالكي بموقفه وزعمه البقاء رئيسا للوزراء مع انتهاء ولايته. ورغم لجوئه للمحكمة الدستورية للحصول على ما يشفع له ويعيد له بعض ماء الوجه أمام مناوئيه، فأن جميع جهوده ومحاولاته التي بذلها وبمساندة البعض من أنصاره، ذهبت أخيرا أدراج الرياح، فقد احكم الطوق حوله ، ليس فقط من قبل حلفائه السابقين في التحالف الوطني، وإنما من قبل مناصرين كان المالكي يذخرهم ليوم الشدة. فمنظمة بدر بقيادة السيد العامري فسخت عقد الزواج الكاثوليكي مع المالكي بعد أن تحول وبدوافع الشراكة في البيت الشيعي إلى زواج قابل للانفصام على مذهب أخر، وأصدرت منظمة بدر موافقتها على التغيير بعد أن رأت أن الطرف الإيراني لا يرغب قطعا في طريقة الزواج الكاثوليكي ولا يسمح لقيادة السيد العامري وغيرها أن تمارس مثل هذا الزواج في الواقع السياسي والمصالح العليا للدولة الإيرانية.
وسبق صدور بيان حزب الدعوة الذي تخلى فيه الحزب عن خيار التمسك بالسيد المالكي لصالح تأييد ترشيح السيد حيدر العبادي ،أصدرت قيادة مجموعة عصائب أهل الحق التي دائما ما عدت كذراع عسكري للسيد للمالكي، بيانها الصريح حول رؤيتها التي تتوافق وما قدمه التحالف الشيعي من رؤية رشحت السيد العبادي لترؤس الوزارة العراقية. وكان لكبار قادة حزب الدعوة دور صامت تجاه الحدث، مثل في مجمله شعور بالتشفي من قائد الحزب الذي عاملهم بقسوة وجفوة. لا بل حتى البعض من بطانة المالكي وبعد ساعات من ترشيح السيد حيدر العبادي وجدت من الأفضل لها القفز خارج كابينة دولة القانون والنأي بنفسها بعيدا عن المالكي والذهاب لمسح أكتاف الرئيس الجديد .
وفي نهاية المطاف قدم السيد المالكي تنازله طوعا بعد أن أدرك حجم الضغوط والعزلة التي يواجهها، مشفع قبوله التنازل لصالح السيد العبادي بعرض مظلوميته بالقول، أنه تعرض لهجمة ظالمة أجبرته على التنازل، واستدرك بأنه مارس جميع الآليات السلمية والوسائل الدستورية للحصول على حقه بالفوز بولاية ثالثة . وكان عند خطابه محاط بأغلب قيادات حزب الدعوة ودولة القانون تشجيعا له على تجرع السم .
تدون في سجلات الذاكرة العراقية الطرية، لدورتي حكم السيد المالكي الكثير من الخروقات للدستور العراقي، وكانت قيادته قد وضعت أسفينا بشعا بين مكونات الشعب. وفي عهدة بات الشارع العراقي تحت سطوة المليشيات والقوانين العشائرية غير المنصفة، وعم الخراب مؤسسات الدولة ونخرها الفساد طولا وعرضا وتدهور الأمن مثلما الخدمات. ولكن ما يسجل لصالح المالكي في نهاية عهده، قبوله التنازل لصالح غيره وخطابه الذي وجهه للقيادات العسكرية طالبا منها النأي بعيدا عن الصراعات السياسية
ما الذي حدث بعد أن كان المالكي معتدا بشخصه وبعدد أعضاء كتلة دولة القانون في البرلمان الذي تجاوز سقف المائة عضو.؟!
بعد الصراعات داخل التحالف الشيعي والتي امتدت لفترة زمنية غير قليلة وأقلقت الشارع العراقي ، حسم الصراع في عملية مفاجأة لصالح أبعاد المالكي وترشيح العبادي برعاية عراب التحالف السيد الجعفري الذي لعب لعبته مستغلا الوضع ليرد للمالكي فعلته في سلب قيادة حزب الدعوة منه.
ما دار داخل بيت التحالف كان إعادة لنهج الرهانات السابقة التي دارت رحاها عام 2010 حين فازت القائمة العراقية بقيادة السيد أياد علاوي بمجموع 91 مقعدا وحصلت كتلة دولة القانون على 89 مقعدا وعندها ائتلف البيت الشيعي ليكون الكتلة الأكبر حسب توصيف المحكمة الاتحادية الدستورية وأقصي السيد علاوي بعيدا. اليوم تكرر ذات المشهد داخل التحالف الشيعي فحل المالكي ولغرائب الصدف بدلا عن أياد علاوي ليضع نفسه في خصومة حول من يملك الحصة الأكبر، هل التحالف الوطني الشيعي بعمومه أم دولة القانون المنضوية تحت لوائه. وفي خضم معركة طاحنة ألتف شركاء المالكي في التحالف على مجمل العملية وأذاقوه ما أذاقه سابقا للسيد أياد علاوي، حين قصوا أجنحة من قائمته تمثلت بالسيد الشهرستاني وحزب الفضيلة وبعض أعضاء الدعوة ليكون في النهاية غير قادر على جمع ما يفي لتكون كتلة دولة القانون هي الأكبر ، بعدها قدم التحالف الوطني نفسه لرئاسة الجمهورية كونه الكتلة الأكبر.
هل الذي حدث داخل التحالف الوطني الشيعي كان إجراءا شرعيا سلك مسلك الديمقراطية في خياراته. مازال البعض يشكك بذلك رغم الطبيعة الواضحة للأجراء والذي ذهب وفق صياغات القوة التصويتية داخل التحالف الوطني الشيعي الذي يضم في عضويته كتلة دولة القانون. فالخيار الذي قدمه التحالف الوطني جاء وفق القوة التصويتية لعدد المنضوين تحت سقف التحالف، ودائما ما قدمت كتلة دولة القانون نفسها جزءا من هذا التحالف، لذا فهي خاضعة لطبيعة ومنهجية عمل التحالف الوطني وعليها أن تكون قابلة لما يقرره الحلفاء مجتمعا في البيت الشيعي.
هل أن ما حدث في عملية إقصاء السيد المالكي وكتلة دولة القانون تم بناءا على صيغ وخيارات صناديق الاقتراع؟! أي القوة التصويتية ؟!. يبدو أن هذا مشكوكا فيه ،وكانت وقائعه تكرار لما طرح وغلفه الشك وقتها حول أحقية كتلة أياد علاوي عام 2010 في تأليف الوزارة. فالسيد المالكي ودولة القانون وحسب القوة التصويتية كان من الموجب أن يرشحه التحالف الوطني أي البيت الشيعي كرئيس وزراء للدولة العراقية. ولكن ومنذ تأريخ تنصل السيد المالكي عن اتفاقية أربيل تصاعدت حدة الخلافات وبات المالكي خصما لجهات عديدة منها شركائه في البيت الشيعي أي التحالف الوطني حين أنقسم التحالف على نفسه برفض الكتلة الصدرية وكتلة المواطن وشخصيات أخرى داخله ترشيح المالكي للمنصب، ووقف الشريك الكردي موقفا مماثلا أما الكتل السنية فقد حسمت أمرها بإعلانها عن النأي بعيدا عن أية حكومة يرأسها مستقبلا السيد المالكي، وكان هناك أجماع داخل الكتل البرلمانية الصغيرة على الرفض لولاية المالكي ثالثة.ولذا كانت فترة رئاسته الثانية حافلة بالتوتر وتخندق الجميع خلف متاريسهم وراحوا يتراشقون الاتهامات ويرفعون من سقوف مطالبهم. وبدوره فضل السيد المالكي لغة العنت والتعالي، وراح يلوح بسلطاته وبقوى خفية يضمرها ليوم الشدة، ودفع بعض مستشاريه وحاشيته لفتح ألسنتهم السليطة لتسوط خصومه بأبشع التهويشات والشتائم. ولم يبخل الخصوم بالرد العنيف وتضخمت حجوم العداوات ومعها الرفض لولاية ثالثة، كان المالكي يسير واثقا نحوها، وهذا ما أفصحت عنه صناديق الاقتراع في انتخابات 2014 حيث حصلت دولة القانون على مجموع 93 مقعدا وتصدرت قوائم الانتخابات، وكانت القوة التصويتية التي نالها السيد المالكي قد تعدت 750 ألف ناخب.
خيار أبعاد السيد المالكي عن الحكم ومنعه من الحصول على ولاية ثالثة كان ومنذ بداية ولايته الثانية قد أصبح هاجس جميع الفرقاء في العملية السياسية، ولم تكن نتيجة الانتخابات وفوز قائمة دولة القانون في الانتخابات الأخيرة لتعنيهم بشيء، بقدر تحشدهم لتغيير طابع العملية برمتها لصالح منهج التوافق في ترتيب الكابينة الحاكمة. بناء على هذا التوجه تقاسم الشركاء الأقوياء سلطة رئاسة الجمهورية والبرلمان ليكرس مبدأ سلطة المكونات الثلاثة، الأثنية والطائفية .
وتبقى أسئلة وشكوك كبيرة يفترض أثارتها حول مجمل العملية السياسية وطبيعة مسار الديمقراطية .حيث تظهر العملية برمتها مجافية للواقع وتضع البناء الحديث بعيدا جدا عن السكة الحقيقية التي من المفترض أن تسير عليها وهي في طور النشوء في العراق الجديد.
في أطر البحوث التي توصف النموذج الأمثل للديمقراطية يتقدم اللوحة التعريف الكلاسيكي لمفهوم سلطة الشعب، أي خيار صناديق الاقتراع. ولكن ما حدث في العراق كان خروجا مبسترا ومعدا سلفا لتغيير خارطة الوضع السياسي عبر الالتفاف على مشروع تداول السلطة السلمي وإفراغ العملية الديمقراطية من محتواها بإجهاض ملمحها الأول، وذلك بتفضيل الذهاب لنموذج التوافقية لحسم النتائج النهائية ، وهي في ذلك تبدو نموذجا يبتعد كثيرا عن ديمقراطية الخيار الشعبي ويطعن في شرط التداول السلمي الرضائي للسلطة بقبول نتائج صناديق الاقتراع. هذا الموقف الجامع لقطاعات عريضة من السياسيين العراقيين وكتلهم البرلمانية حتم على التحالف الوطني الذهاب في شوط التوافقات السياسية وتلبية مطلب إقصاء المالكي، ليعاد تكرار عملية إبعاد السيد الجعفري عن رئاسة الوزراء التي جاءت وقتذاك وفق رغبة خصومه من التحالف الكردي. أذن فأن عموم مسيرة الديمقراطية في العراق في إطارها العام لن تجد لها منفذا يقربها لتكون صيغة لحكم الشعب، وإنما خضعت وسوف تخضع ولزمن طويل، لرغبة الأطراف السياسية لتكون قانونا للتوافقية بين النخب السلطوية، أي خيار الكتل السياسية الأقوى كما سماها السيد همام حمودي ، والتي تذهب برغبة جامحة ومشروع ناجز لتقاسم مصادر الثروة والقوة في العراق. ومثل هذه العملية التوافقية التي تتزامن في سيرها ونتائجها مع برلمان يخضع في قراراته لمشيئة رؤساء الكتل ذاتها، فمن الصعب منح النتائج التي أسفرت عنها مجمل العملية السياسية صفة أو مسمى نجاح ديمقراطي وهي في حقيقة الأمر بعيدة كل البعد عن ما يمثله مفهوم سلطة الشعب .