المنبرالحر

العراقي الحائر / خضر عواد الخزاعي

عرف عن الشخصية العراقية أنها عاشت متلازمة ثنائية منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا وهذه المتلازمة كان طرفاها سمتين مميزتين هما التمرد والإبداع فلقد كانت هذه الشخصية الخلاقة نتاج مراحل تاريخية وظروف بيئية نادراً ما تتوفر لشخصية إنسانية أخرى ويعزوا الكثير من المؤرخين والمهتمين بعلم الإجتماع ومنهم العلامة الأستاذ علي الوردي ( 1913- 1995) الذي أطلق تسمية ( الشعب الحائر) في كتابه ( دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ) وهو يصف ويحلل شخصية الإنسان العراقي أن السبب المباشر لوجود ونمو خاصية التمرد لدى الإنسان العراقي يعود لكونها شخصية عاشت في مرحلتين مهمتين من تاريخ حياته هاتين المرحلتين كانتا على درجة عالية من التناقض وهما حياة البداوة وحياة التحضر حيث أن مرحلة البداوة بكل أشكالها البدائية في وسائل العيش وعلاقتها الإجتماعية القبلية التي سبقت إستقراره ظلت ملازمة لبناء ونمو الشخصية العراقية حتى بعد تحوله في بداية الأف السادس قبل الميلاد إلى حياة أكثر إستقراراً عرف من خلالها الزراعة وتدجين الحيوانات وصناعة الفخار التي قادته لأن يؤسس لأول حضارة مدنية إنسانية في بلاد وادي الرافدين في وسط وجنوب العراق في سومر لكن ذلك لم يلغي ماكانت تعانيه هذه الشخصية من الإزدواجية النفسية والإجتماعية وإذا كانت عملية التطور والبناء الحضاري التي شهدتها بلاد وادي الرافدين قد غلّبت صفة الإبداع والخلق لدى العراقيين لآلاف السنين فأن المراحل اللاحقة التي تلت نهاية الحقبة التاريخية لحضارة بلاد وادي الرافدين في القرن السادس قبل الميلاد قد أعادت الإحساس بازدواجيته القديمة لكنها هذه المرة لم تنشأ من حالة التناقض بين حياة البداوة والتحضر بقدر ماكانت نتيجة مباشرة لما لحق بهذه الشخصية من ظلم وحيف على يد أقوام وحكام غير متحضرين فرضوا بقوة السيف فكرهم وطريقة عيشهم على العراقيين والتي كانت بعيدة كل البعد عما تعوده العراقيين من إسلوب حياتي ومعيشي كان يعتمد بالأساس على القدرة الخلاقة لهذه الشخصية ومدى قابليتها على التأقلم مع كل الظروف القاسية المحيطة بها واستجابتها لكل أشكال التحدي التي واجهتها في أسوء ظروفها الحياتية والتكوينية .
ففي نظريته التاريخية (الإستجابة والتحدي) التي يوضح بها كيفية نشوء الحضارات وقيامها يتبنى المؤرخ البريطاني توينبي ( 1889- 1975 ) نظرية أن قيام الحضارات لم يكن لولا قبول الشعوب الحضارية في بلاد واي الرافدين ووادي النيل جولات التحدي التي فرضتها عليها الطبيعة في نهاية العصور الجليدية وبداية الإنحسارالتدريجي للخصوبة في مقابل زحف صحراوي كان يمتد في ربوع تلك المساحات الشاسعة من بلاد وادي الرافدين مما حدى بشعوب الوادي إلى الإستقرار في المنطقة الواقعة بين شمال بغداد وحتى وسط الخليج العربي في دلمون ( البحرين ) .
ان ما يهمنا اليوم من موضوع شخصية الإنسان العراقي هو هذا التجاذب الذي بات يتنازع هذه الشخصية ويحولها إلى شخصية مستلبة لا مبالية تنحى بعيداً عما يواجهها من مخاطر جسيمة تهدد مستقبل العراق ووجوده فلقد أصبحت سمة التشظي والإختلاف والتناحرالعرقي والديني والأثني بارزة وعميقة في كينونة هذه الشخصية وتحولت من شخصية مبدعة متحدية صانعة للقرار إلى شخصية متخلفة منتكسة سلمت أمرها للآخرين في صناعة قرار مصيرها وتشكيل هويتها الوطنية وأصبح النسيج الوطني الذي كان يعتبر حالة من حالات التميز التي عرف بها المجتمع العراقي سبباً من أسباب تعطيل مسيرة البناء والتطور بل تحول إلى سبب من أسباب التناحر وظهور عقدة الكراهية والتخندق بين مكونات هذا الشعب .
إن مصطلح ( الشعب الحائر ) الذي أطلقه العلامة الوردي قبل عقود من السنين يبدو اليوم أكثر حضوراً في الواقع العراقي ولم تعد الظروف البيئية والجغرافية التي ضبطت منهج الإنتقال الحضاري لشعب العراق من البداوة إلى التحضر وحدها المؤثرة في البناء النفسي والعضوي لهذه الشخصية بل أن مجمل ظروف كان أهمها إستهداف هذه الشخصية في صميمها الوطني والمحلي في فترات متعاقبة من تاريخ العراق يبدو هو السبب المباشر لتبلور لنا مفهوم هذا ( الشعب الحائر) بين العبودية والحرية بين الدكتاتورية والديمقراطية بين الدين والعلمانية بين الوطنية والقومية بين الإنتماء والتغريب كل هذه الاسباب مجتمعة خلقت النموذج السلبي لشخصية ربما كان مقدراً لها بأن تتسيد المنطقة لحقب طويلة من التاريخ الحديث .