المنبرالحر

عبقرية أبو الغباني / مرتضى عبد الحميد

المقصود بأبي الغباني ليس الطير المعروف بطريقة طيرانه وسلوكه، الذي ينطبق على موضوع حديثنا اليوم، وإنما المقصود به احد الأشخاص الظرفاء والأذكياء. ودليل ذكائه وألمعيته، انه لم يكمل الابتدائية، وظل خمس سنوات في الصف السادس، دون أن يتمكن من اجتيازه، واضطر إلى ترك المدرسة والتحول إلى الأعمال الحرة. فأشتغل اولاً بائعاً للخضروات، ثم عاملاً في متجر صغير لبيع الملابس النسائية، وفي العملين فشل فشلاً ذريعاً ايضا، وهو يعزو هذا الفشل إلى سوء الحظ والى الحسد.
جاءته الفرصة الذهبية عند مجيء البعث إلى السلطة مرة ثانية في عام 1968، فبادر إلى الانتساب مبكراً، في وقت كان المنتسب فيه يخجل من إشهار انتسابه للبعث، بسبب سمعته الما دون سيئة. كانت إستراتيجية البعث في ذلك الوقت تقتضي استبدال موظفي الجهاز البيرواقراطي للدولة برجال «كفوئين» من شباب البعث، وخاصة في مجال السلك الديبلوماسي، وكانت المفاجأة التي أبهرت المدينة بكاملها أن «جاسم أبو الغباني» اختير ليكون موظفاً في السفارة العراقية في إحدى دول الجوار، نظراً لكفاءته طبعاً، وإخلاصه اللامتناهي للوحدة والحرية والاشتراكية، ?قدرته على رفع سمعة العراق عالياً في سماء الغربة! وكان عند حسن الظن به، فواصل جهوده ليلاً ونهاراً، لكي ينجز المهمة المكلف بها، وهي التجسس على موظفي السفارة الآخرين ، وبذلك كسب رضا رؤسائه ومسؤوليه، وجرى تثمينه مرات عديدة.
عند تمتعه بالإجازة، لم ينسَ أصدقاءه ومعارفه، وكان يتوسطهم في مقهى الطرف ليقص عليهم ما شاهده في الدولة الاجنبية التي يعمل فيها، ولأنه قوي الملاحظة ولا يفوته شيء، كان يكرر في كل أحاديثه أن العاهرات لا يشعرن بالخوف ولا يخفين مهنتهن في هذا البلد، ثم يسهب في الحديث عنهن، وعن مغامراته الدونجوانية، وكيف يدلعنه بكلمة «جسومي» وهو من جانبه متمسك بتقاليد البعث وأزلامه في نثر ما تحتويه جيوبه من أموال على رؤوسهن.
كان لا يمل من الحديث عن هذه الفعالية «النضالية» ويتطرق إليها بمناسبة وبدونها، حتى عندما يسألونه عن أسعار الفواكه والخضروات أو عن أسعار الأحذية والطكَاكَيات حيث يقوم بلوي أعنة الحديث عائداً به إلى النقطة إياها.
مناسبة هذا الحديث الشيق! هي أن البعض من ساستنا لا يختلفون كثيراً عن «أبي الغباني» فيذكرون أو يتذكرون بلغة اقل ما يقال فيها أنها منقرضة أو متخشبة، وبتكرار عجيب، ما سمي «بثورة الشواف» في الموصل في آذار 1959 وهي في حقيقتها إحدى المؤامرات الكبرى على ثورة 14 تموز المجيدة، كما يذكرون «المناضلة» الجسور «حفصة» التي أطلقت الرصاص على المتظاهرين السلميين والمدافعين عن الثورة والزعيم عبد الكريم قاسم، فحصدت أرواح العديد من هؤلاء الأبرياء. هذا البعض ورغم مسؤولياته لا يريد ان يتخلى عن ضيق أفقه، وقصر نظره السياسي، ويصر مع الأسف الشديد على بقاء العراق مسرحاً للكراهية والحقد الدفين، والطائفية المقيتة.