المنبرالحر

الشيوعيون وتبدل الأزمان / سلوى زكو

هي بضع عشرات من السنين لا أكثر، انتقلنا فيها من عراق إلى عراق.
كان عراق الألفة والمحبة والتسامح، فغدا عراقا تتقابل فيه متاريس الكراهية والحقد والقتل على الهوية، وعلى غير الهوية.
كان عراقا جاذبا للكفاءات والعمالة الأجنبية وكبريات الشركات الأجنبية، فأصبح عراقا طاردا لكفاءات أبنائه وحاضنة للمغامرين والفاسدين وشركات الاحتيال الوهمية.
كان عراقا صنع روادا في فنون الأدب والتشكيل والمسرح والموسيقى والعمارة، فغدا يعيش في تصحر ثقافي مريع تصحرت معه النفوس وتلبستها قسوة لم يعرفها العراقيون من قبل وهم يعيشون في خرائب يسمونها مدنا.
كان عراقا تنتشر دور السينما في كل مدينة من مدنه وبلداته، لكن أجيالا نشأت وكبرت ولم تعرف متعة أن تجلس مع حشد لا تعرفه من البشر وما إن تطفأ الأنوار حتى يتحول الحشد إلى عائلة واحدة مبهورة بذلك السحر المار أمامها على الشاشة المضيئة.
كان عراقا لا يرى رجاله في نسائه فتنة تسير على قدمين، فغدا مجتمعا تحتجب فيه النساء خلف لفائف من قماش خشية على عفاف الرجال من أن ينتهك.
كان عراقا يرى في المعلم قيمة عليا ويلقبه بمربي الأجيال، فأصبحت الأجيال تربي في المعلم الخوف من البطش والإهانة والتهديد.
كان عراقا يزرع ويصنع ويبني ويحلم بالمستقبل ويتناقل الخبرات من جيل إلى جيل، فأصبح عراقا عاطلا عن العمل وعاجزا عن الحلم وعن استحضار خبرة الماضي.
إذا كانت كل هذه المتغيرات قد طرأت على المجتمع فغيرت معها سلوكيات البشر ونمط حياتهم وأعادت ترتيب أولوياتهم واختزلت أحلامهم وطموحاتهم، فكيف لا يتغير الشيوعيون؟ بل ان ميزة الشيوعيين أنهم، وهم يتابعون مشروعهم، يتغيرون ويغيرون في أساليب عملهم ويعيدون ترتيب أولوياتهم وفقا لما هو متغير وماثل أمامهم ومتاح لهم.
لكن البعض، ومن بينهم من يحترم بصدق تاريخ الشيوعيين، ما زال يتشبث بتلك الصورة النمطية للكادر الشيوعي الذي يعيش على الكفاف في بيوت حزبية فقيرة تخلو من أبسط مستلزمات العيش. حتى أن أحدهم كتب يوما يعيب على (أبو داود) أن (خدوده متفحة) وكأن الشيوعي لا بد وأن يكون مصابا بفقر الدم. مثل هذه الصورة النمطية، المستقاة من سنوات طويلة خلت، تنسحب على أحكام وتقييمات عدة تنشر هنا وهناك عن مواقف الشيوعيين من المشهد الراهن.
والصورة النمطية ذاتها هي التي تشوش على رؤية الحاضر بكل بؤسه ووساخاته وتعقيداته، فتنتظر من الشيوعيين أن يستعيدوا ذلك الزمن الذي كانوا يحشدون فيه الجماهير لتملأ الشوارع بنداء واحد يصدر عنهم. لكن تبدل الأزمان ما عاد يسمح بذلك، وسيكون ضربا من الجنون أن نطالبهم بقيادة ثورة كاسحة تطيح بكل المفاسد والمباءات المعششة في المجتمع لتصنع الوطن الحر والشعب السعيد، هكذا دفعة واحدة بلا شروط ولا مقدمات.
لم يكن ما تقدم مقامة في مديح الشيوعيين، إنما هي كلمة إنصاف بحق آخر من تبقى من النبلاء.
ـــــــــــــــــــــــ
صحيفة «العالم الجديد» الالكترونية
29/9/2014