المنبرالحر

" مرض " اليساريين وتمنيات العدوى به / د. صادق اطيمش

انتهيت قبل ايام من قراءة كتاب قيِّم اهداه لي مشكوراً الصديق العزيز فالح الزهاوي نجل الشخصية الوطنية العراقية المعروفة المرحوم ناظم الزهاوي موضوع الكتاب. الكتاب بعنوان " ناظم الزهاوي، رجل الدولة والإصلاح " من تأليف الكاتب البارع والإعلامي اللامع الأستاذ عبد المنعم الأعسم، ومن منشورات دار الوراق ومركز الزهاوي للثقافة والتراث لعام 2014. يحتوي الكتاب بين دفتيه على 273 صفحة موزعة بين ثمانية فصول وصور تذكارية للمرحوم ناظم الزهاوي في مراحل مختلفة من حياته الخاصة والعامة. كما يحتوي الكتاب على ملحق مهم للوثائق التي تشير إلى مآثر هذا الرجل الكبير ومساهماته في التأسيس للدولة العراقية. إضافة إلى فهارس الأعلام والأماكن والبلدان وفهرس الشعوب والقبائل والجماعات.
الأستاذ عبد المنعم الأعسم استطاع في هذا المؤلف ان يضع، باسلوبه الجميل وسرده المحكم للأحداث، قارءه في صورة واضحة عن الأحداث التي رافقت المسيرة الأولى لتشكيل الدولة العراقية الحديثة بعد انهيار دولة العثمانيين وتوزيع مناطق نفوذها بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وقد برزت براعة المؤلف حقاً حينما استطاع ان يعطي لهذا الرجل الوطني الشجاع موقعه الذي يستحقه في خدمة وطنه، رغم تباين هذا الموقع في عهدين مختلفين تماماً عن بعضهما البعض ليس بنيوياً فقط. إذ ان معايشة المرحوم ناطم الزهاوي للعهدين الملكي والجمهوري واستطاعته في هذين العهدين المختلفين ان يجعل من مبادءه الوطنية، التي كانت موضع تقدير واحترام قادة هاذين العهدين، الهادي الذي يهتدي به في خدمة وطنه وشعبه بكل ما يمتلكه من قدرات فكرية وتجارب حياتية وتربية عائلية وعلاقات اجتماعية، دون ان يتبادر إلى القارئ اي شعور بانحراف هذا الرجل يوماً ما عما يؤمن به من مبادئ وثوابت في كل حياته وفي مختلف ممارساته. وقد عبر الكاتب القدير عبد المنعم الأعسم عن ذلك بكل وضوح حينما كتب في مقدمته لهذا الكتاب " كيف يمكن لرجل صاحب مبادئ راسخة في الحياة وسجل مهني نظيف ومعارف عميقة في التخطيط والإقتصاد وخبرة عمل غنية في بناء الدولة أن يوظف كل هذه العناصر المهنية والأخلاقية في خدمة مراحل وانظمة سياسية واجتماعية مختلفة، ومتناقضة، ويقدم خبرته خلالها بانسجام عميق مع النفس وبحماسة وإخلاص متناهيين، تاركاً على مسيرتها بصمات لافتة. كل ذلك على الرغم من المسافة الشاسعة بين نزعته الفكرية اليسارية الحرة وطبيعة هذه الأنظمة التي اتسمت بالمحافظة والنزعات الإستبدادية والفردية والوطنية في ادق توصيفات تجمعها؟" (مقدمة الكتاب ص 9).
وانطلاقاً من هذا الواقع الذي لا يستطيع التعامل معه، دون مَيل او انحراف عن المبادئ، سوى ذلك الإنسان الذي لم يضع سوى العراق وليس غير العراق امام بصره وبصيرته، متجنباً كل ما يمكن ان يُشار إليه في عمله كانحياز إلى حزب او طائفة او منطقة او قومية، طبع ناظم الزهاوي مسيرته النضالية والوطنية سواءً بين القوى السياسية التي عمل معها او في المكاتب الحكومية التي قاد من خلالها مؤسسات عراقية مهمة سواءً كمدير عام لهذه المؤسسات او كمدير للبنك المركزي العراقي او كوزير للتجارة في حكومة الجمهورية العراقية الأولى. وهذا لعمري على النقيض مما يمارسه ساسة العراق اليوم الذين ابتلى هذا الوطن الجريح والشعب المظلوم بلصوصيتهم وطائفيتهم ومحاصصاتهم باقتسام الغنائم على حساب الملايين من الجياع والمعوزين والمهمَلين من بنات وابناء هذا الشعب الفقير في اغنى بلد في العالم.
في الحقيقة لا يغني اي وصف، مهما كان متقناً لمحتويات هذا الكتاب القيِّم، عن قراءته، لا بل ودراسته، خاصة من قِبل اولئك المهتمين بالمراحل الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة، وما رافق كل هذا التأسيس من أحداث تنازعت فيها قوى مختلفة حاول كل منها ان يبلور مفاهيمه عن طبيعة الدولة الجديدة ليجعلها واقعاً عملياً ونهجاً ثابتاً ليس للجيل المؤسس فقط، بل وللأجيال القادمة ايضاً. ومن كل هذه الأحداث وهذه التصورات اخرج الكاتب القدير مؤلف هذا الكتاب اشبه ما يكون بفلم سينمائي تتجلى فيه صورة بطله وهو يصارع بالقلم تارة وبالعمل تارة اخرى ناقلاً معه المتابع لصراعه هذا إلى اجواء تلك المراحل التي لم تكن تخلوا من التعقيدات ليس السياسية فقط، بل والعشائرية الإجتماعية والثقافية والإقتصادية، في محيط دولي واقليمي كان ينظر الى العراق نظرة خاصة ويعطي لأهميته السياسية وامكانياته الإقتصادية موقعاً خاصاً بين دول المنطقة.
إلا ان ما وددت التطرق إليه فيما جاء في هذا المؤلَف القيم ينطلق فعلاً من واقعنا المرير اليوم والذي يمر به وطننا ويعاني منه شعبنا منذ تولي البعثفاشية المقيتة على امور هذا الوطن، واستمرار ذلك حتى بعد سقوط دكتاتورية البعث من خلال الإحتلال الأمريكي لوطننا وكل ما انتجته السياسة الأمريكية وجلاوزتها من احزاب الإسلام السياسي وتجمعات التعصب القومي الشوفيني وتجار الإنتماءات العشائرية ومجرمي التمحور المناطقي، بكل ما انتجوه في هذا البلد المغلوب على امره وعلى قمة ذلك كل مظاهر الفساد الإداري والمالي.
" وقد اصبح معروفاً كما كان يُقال في اروقة الحكومة: " عندما يتم تعيين الزهاوي في اي منصب يهرب المرتشون "(الكتاب ص. 166) هذا بعض ما كان يوصَف به ناظم الزهاوي حينما شغل المناصب الحكومية المتعددة والهامة حيث " ترك ناظم الزهاوي خلال عمله في ادارة مؤسسة اموال القاصرين ووظيفة المفتش العام المالي والمدير العام للبنك الصناعي والمدير العام لوزارة الإقتصاد بصمات واضحة على بنية هذه المؤسسات من خلال الطريقة التي استعملها في تشغيلها وإدارتها" ( الكتاب ص. 166).
" الكثيرون من شهود تلك الأيام أجمعوا على ان ناظم الزهاوي حقق ما لم يستطع ان يحققه موظف كبير على رأس مرفق حكومي حساس في حال إصطفاء الكادر النزيه، وشاءت النزاهة، آنذاك، ان تتوفر بطبقة الإصلاحيين واليساريين وذوي الميول الوطنية، بخلاف الموظفين المسلكيين الذين توارثوا المناصب وعاثوا فيه فساداً. " ( الكتاب ص. 151ـ152) " ايام الحرب الثانية كانت وزارة التموين تقوم باستيراد الحبوب والمؤن الغذائية، وحين انتهت الحرب اصبح هناك لغط عن رشى وتجاوزات ومخالفات، فتأسست مديرية الأموال المستوردة وانتخبت عدد من الموظفين، معظمهم من اليساريين. " ( الكتاب ص. 152) " لجوء السلطات الأمنية إلى تشديد المراقبة على بناية المديرية، وكان ذلك امر طبيعي مع وجود موظفين يحملون افكاراً يسارية او شيوعية او معارضة للحكم، ويؤكد ذلك حارث الزهاوي بالقول: ان المديرية بقدر ما كانت تحظى برضى واعتزاز التجار الذين يعتبرون زبائنها الرئيسين، فإن الطبقة اليمينية بالحكم كانت تنظر لها بعدم الإرتياح." (الكتاب ص. 154)
لم تكن مديرية الأموال المستوردة فقط والتي ترأسها ناظم الزهاوي وانتخب موظفيها من اليساريين لثقته بنزاهتهم في وقت كانت فيه الرشاوى والقفز على القوانين قد بدأت تلعب لعبتها في مفاصل الدولة العراقية، بل ان الشخصية الوطنية الديمقراطية ناظم الزهاوي دأب على تنظيم المؤسسات التي اُنيطت به إدارتها من خلال المساهمة الفعالة والنزيهة من الموظفين اليساريين الذين اختارهم لمثل هذه المهمات والذين لم يخيبوا امله فيهم حيث انه سبق وان اشترط على نوري السعيد " انه مستعد لتولي هذا المنصب شرط إعطاءه صلاحيات تعيين موظفيها دون اعتراض عليهم، وسيكون تحت العتاب إذا ما ظهر قصور في عملها." ( الكتاب ص. 153). وقد برَّ الزهاوي بوعده فعلاً حينما علِمَ القاصي والداني ان النزاهة والإخلاص المتفاني في العمل والعلاقة الطيبة مع المواطنين كانت السمات التي رافقت كل المؤسسات التي عمل فيها وعلى ادارتها الموظقون اليساريون والذين لم ينجوا من ملاحقات الجهات الأمنية حتى في ذلك الوقت الذي كانوا يؤدون فيه عملهم بامانة ووطنية ونزاهة واخلاص. حتى ان ناظم الزهاوي نفسه لم ينج من الملاحقات وحتى الإعتقال من قبل اجهزة الأمن التي كانت تضمر العداء لليساريين العراقيين بالرغم من كل الخدمات النزيهة التي كانوا يقدمونها للوطن.
ماذا يمكن ان نستنتجه من هذه الحالة التي عاشها وطننا في المراحل الأولى من تأسيس الدولة العراقية الحديثة؟ إن اهم الإستنتاجات، من وجهة نظري، تتعلق بإمكانية تغليب القناعة المبداية على كافة ما يواجهه المرء من مغريات في حياته الوظيفية تريد له التخلي عن الإلتزام الوطني مقابل الحصول على المنافع الشخصية. والظاهر ان مسألة الفساد المالي والإداري وانتشاره في مؤسسات الدولة العراقية رافق تأسيس هذه الدولة، وإن اختلف مده وجزره في فترات مختلفة من تاريخها. إلا ان الظاهر والمؤكد ايضاً ان اليساريين كانوا سابقاً، كما هم عليه اليوم، حملة مبادئ لم ولن تسمح لهم بالقفز عليها مقابل إغراءات وظيفية، مهما كان نوع هذه الإغراءات. وكما يبدو فإن النزاهة في العمل الوظيفي والإستقامة الخلقية والتعامل الإنساني مع المواطن كان الصفة الملازمة لليساريين الذين اراد ناظم الزهاوي لهم ان يكونوا في مقدمة المؤسسين للعمل الوظيفي النزيه في الدولة العراقية، وقد كان له ذلك فعلاً، كما تشير المواقع المختلفة في هذا السفر التاريخي القيِّم الذي يقدمه لنا الكاتب القدير عبد المنعم الأعسم كوثيقة تاريخية هامة تسجل المراحل الأولى وما بعدها من تاريخ تاسيس الدولة العراقية.
يبدو ان المثل العراقي القائل " الطبع البلبدن ما يغيره غير الجفن( الكفن)" قد تحقق لدى اليساريين العراقيين الذين اثبتوا، منذ القِدم وليس اليوم فقط، اهليتهم لتبوأ المناصب الحكومية القيادية كما اظهروا كذلك مدى ما يتمتعون به من نزاهة وابتعاد عن المغريات المادية بالإضافة إلى تميُز المؤسسات العاملين فيها ببروز العلاقات الإنسانية بينهم وبين مَن يتعاملون معهم من المواطنين.
يبدو ان هذا " المرض " اليساري لم يكن وليد اليوم من خلال ما عكسه اصحاب الأيادي البيضاء في العراق الجديد سواءً في المناصب الوزارية التي شغلوها او في المقاعد البرلمانية او من خلال قيادتهم لبعض المؤسسات الحكومية، في الفترة التي اصبح التفتيش فيها عن النزيه في الدولة العراقية الجديدة، دولة الإسلام السياسي ومريديه، اشبه بالتفتيش عن الإبرة في اكوام القش.
ما احوجنا اليوم إلى هذا " المرض " اليساري، وما احوج سياسيينا إلى العدوى به. العدوى التي لا تجدي نفعاً معها كل تعاويذهم وبسملاتهم وحوقلاتهم التي ملئوا الدنيا بها حتى اصبحت كل مقولاتهم التجارية بالدين مزعجة كإزعاج طنين الذباب في قيلولة صيفية.