المنبرالحر

الدولة :عوامل تكوينها وعوامل انحلالها كما يراها ابن خلدون / علي عبد الواحد محمد

لم يجد الباحثون في شأن الدولة تاريخا محددا لنشوئها، واختلفوا في تأويل اسباب نشوء الظاهرة وتاريخها، فمنهم من عزا ذلك الى مشيئة الآلهه والى الأسباب الغيبية، مستندين على ان المدن القديمة كانت تعرف باسم الآله ومعبده الذي يكون مركز المدينة واساس تكوينها، ولذلك فأن حاكمها يكون الآله او من يتلقى التفويض منه، بواسطة الكهنة. ويرى آخرون ان الدولة تكونت نتيجة لنضوج ظروفها الداخلية، الذي يعزي بعضهم هذا النضوج الى القوى الغيبية، فقد كانت معظم الأمبراطوريات الغارقة في القدم كالسومريين والبابليين والفراعنة والفرس والرومان واليونانيين والأحباش والصينيين وغيرهم ، يطلقون على ملوكهم القابا توحي بانهم آلهه او ابناءهم ،وفي القرآن ، نجد ان النمرود يدّعي الربوبية ، وكذلك ما ورد عن فرعون مصر، ولدينا مثال تأريخي فريد، عن الملك البابلي حمورابي الشهير بسنه القوانين المدنية، والذي رفض تسميته إله، واصرعلى كونه بشر، ورفض تدخل الكهنة بشؤون الدولة، الا ان اسمه يعني المتعالي وهو احد اسماء الأله وفي مسلته المشهورة نراه يأخذ التعاليم من الرب شمس وهو كبير الآلهه عند البابليين.
في اللغة العربية ، تأتي كلمة الدولة بمعنى الملك او الحاكم ، ولذلك نجد باحثا اسلاميا مثل ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي (توفي سنة 450 للهجرة) ، يؤكد هذا المعنى ونجد كذلك في الحكايات الشعبية وقصص الف ليلة وليلة تأكيدا لذلك ، ففي احدى الحكايات ان زوجة الملك تموت وهي تضع مولودها البكر وكان صبيا ليلة العيد، فأحتارت الحاشية، أتعزي الملك بوفاة الملكة ام تهنئه بمجئ ولي العهد ام بحلول العيد، فأقترح حكيم عليهم القول (دولة ظهرت وأمة رحلت والعيد مبارك ) ،امة بفتح الألف والميم. إذن الدولة هنا بمعنى الملك القادم. واعتقد لازال هذا الأستعمال ساريا الى اليوم ( لاحظ دولة رئيس الوزراء ، سعادة ، معالي ، فخامة ..... الخ )
وما دام الحديث قد دار عن الماوردي ، ارى من الضروري ذكر تصوراته عن الدولة :
ففي بحث للإستاذ الدكتور حامد طاهر الموسوم (سيادة الدولة الرشيدة عند الماوردي)
رابط البحث
http://www.hamedtaher.com/index.php?option=com_content&view=category&layout=blog&id=217&Itemid=66
يورد الدكتور حامد ما يلي :
قواعد الحكم انما تستقر في الدولة على امرين : تأسيس وسياسة
اما التأسيس فيشمل ثلاث قواعد :
1) تأسيس الدين
2) تأسيس القوة
3) تأسيس المال والثروة
اما السياسة فتشمل اربع مجالات :
1) اعمار البلاد
2) حراسة الرعية
3) تدبير الجند
4) تقدير الأموال
في هذه العوامل يضع الماوردي الأسس التي تضمن تأسيس وسياسة الدولة ، والتي كما يرى تشد من توجه الدولة نحو العدالة وتمنع جور الحاكم ، خاصة إذا غرق الحكام بشؤونهم الذاتية، وساد الفساد وانتشرت الرشاوي ، الأمر الذي يمهد لتربص الآخرين بهم وبالتالي لسقوطهم، والماوردي في مذهبه هذا يستخلص آراءه من التجارب المعاصرة له ويرى ان الدولة تمر بمراحل ثلاث هي :
أ‌) ان الدولة تبتدئ بخشونة الطباع وشدة البطش لتثبيت سلطتها (لاحظ سلوك ابو العباس السفاح باني الدولة العباسية)
ب‌) ثم تتوسط باللين والأستقامة لإستقرار الملك وحصول الدعة
ت‌) ثم تختتم بإنتشار الجور وشدة الضعف لقلة الحزم
خلاصة القول عن الماوردي إنه لم يذكر العامل الإقتصادي كعامل حاسم في رؤيته عن تكوين الدولة وانما تحدث عن دور الريف في رفد الدولة بالغذاء ودعى الى بناء الحواضر (المدن) وسط الريف إن أمكن ذلك ، كما ذكر اصحاب الحرف والتجار والجند كسكان اساسيين للمدن ، واشار الى علاقة سكان المدن بالريف وبالعكس كعلاقة سوق في الأغلب .
وتزدان المكتبة العربية أيضا بالبحث القيم لإبن خلدون والموسوم مقدمة بن خلدون، لمؤلفها عبد الرحمن محمد بن خلدون المولود في تونس عام 1332م والمتوفي في مصر عام 1404م ، له كتب وتراجم كثيرة ، وتميزت مقدمته بشهرتها الواسعة لأحتوائها على عدة مواضيع مهمة ولمن يريد دراستها او الإطلاع عليها ، نهديه هذا الرابط
http://www.mohamedrabeea.com/books/book1_3227.pdf
تضم المقدمة مبحثا هاما عن الدولة وعوامل تكونها ابتداء من الصفحة 64 حسب الرابط اعلاه . وقبل هذه الصفحة يتحدث ايضا عن التاريخ كعلم بعيدا عن الخرافات وعن الجغرافية وعن كروية الأرض وتأثير البيئة على سلوك وطبائع البشر فيذكر البدو وطباعهم وسكان المدن وأهوائهم وتأثير ذلك على الدولة والحكام وفي سياق دراستة هذه يستند على التجارب الملموسة التي شاهدها او اطلع عليها. ولكنه يؤكد مسائل مهمة استخلصها من الحياة
فلديه ان الحكام ورؤساء القبائل والأنبياء حتمتها ضرورة طبيعة الإنسان الإجتماعية، هذه الطبيعة حتمها عدم إستطاعة الإنسان مواجهة متطلبات وصعوبات الحياة لوحده ، فالناس يعتمدون على بعضهم البعض في ترتيب حياتهم وفي الدفاع عن وجودهم ، فلكي يواجهوا الحيوانات المتوحشة يحتاجون الى خبرة ومعاونة بعضهم لبعض ، وكذلك فأن الإنسان لا يمكنه إنتاج كل غذائه والمواد التي يحتاجها، فيتم إجتماع الناس ويقسم العمل بينهم وتزداد الثروة ، فتتولد الحاجة للحماية من ما يسميه ابن خلدون الطبيعة الحيوانية لدى الناس فيكون لهم الحاكم الذي يحميهم داخليا ومن هجمات الأقوام الأخرى ، وكأن الرجل تحدث عن اساسيات تكون الدولة وهي المال ، والقوة والحاكم .
ولكي يكون الحاكم قويا يجب ان يكون من اقوى القبائل، وأن يستند على قبيلته وهو ما يدعوه بن خلدون "العصبية ". ويرى ان غاية العصبية هي المُلك ( بضم الميم وتسكين اللام ) ،وإن عوائق الملك هو ان يدير الملك (فتح الميم وكسر اللام) ظهره على قبيلته وينقاد الى سواها . ويستمر بن خلون في دراسته المطولة للدولة في شرح عوامل قوتها وعوامل ضعفها وسلوك الحكام المقوية للدولة والمضعفة لها، واهمها إنغماس الحكام في اللهو واهمال شؤون الرعية ، والإبتعاد عن السند الحقيقي للحاكم ( قبيلته ) والإعتماد على المرتزقة والموالي ونلاحظ انه في الفصل الرابع عشر صفحة 72 يذكر:
في ان الدولة لها اعمار طبيعية كما للأشخاص ويستخلص ان عمرها تقريبا 120 سنة .
وفي الفصل السابع عشر الصفحة 73 يرى :
ان الدولة تمر بخمسة اطوار تختلف فيها احوالها وخلق اهلها باختلاف هذه الأطوار وهي :
1) الطور الذي يتم فيه الإستيلاء على الملك واكتساب المجد وجباية الأمال والحماية من قبل العصبية ( قبيلة الملك )
2) طور الإستبداد على الأهل والإنفراد عنهم بالحكم
3) طور جني ثمار الحكم ، تحصيل المال والترف
4) طور الإقتناع بما انجز
5) طور الإسراف والتبذير وصنع البطانية والصرف عليهم .
ان هذه الأطوار توضح صعود الدولة وانحدارها نحو السقوط
والآن لو جمعنا الفصلين الرابع عشر والسابع عشر الى بعضهما البعض نرى إن الدولة عند ابن خلدون غير ابدية وانها خاضعة للتبديل عند توفر عوامل هذا التبديل ، كما إنها نفسها لا تسير على نمط واحد وانما تتطور مع توفر عوامل التطور وهذه نظرة متقدمة في تحليل ظاهرة الدولة، كما يلاحظ من سياق البحث ان الرجل وإن اشار الى عوامل قيام الدولة وذكر العامل الديني من ضمن هذه العوامل الا إنه وضع الغلبة للعوامل الداخلية والظروف المؤدية لتأسيسها، انه حتى وإن اشار الى العوامل الدينية ربطها بالعصبية وهي عامل دنيوي ، وفي انهيار الدولة وضعفها لم يشر الى دور للقوى الغيبية في الحماية من الإنهيار . وهناك نقطة هامة انه اكد وفي اكثر من موقع في المقدمة إن الدولة جاءت نتيجة حاجة الأنسان للحماية ، ولكنه في سياق دراسته القيمة يشير الى استبداد الحكام وغدرهم بمن آزرهم وإنغماسهم في ملذاتهم وإنقياد بعضهم لآخرين يحكمون بأسمهم ، ادى في ضمن ما اداه الى انتهاء الدولة وذهاب الحكم الى حاكم آخر، ان حاجة الناس للحماية حتمت وجود الدولة في نهاية المطاف وابتعاد الحاكم عن هذا الهدف ازال مبرر وجوده كحاكم ، كما ان الإسراف وتبذير الأموال على المباهج والمظاهر، دفع لزيادة الخراج من الرعية وزيادة تذمرها وبحثها عن منقذ لها، هذه الملاحظات لم تأت من فراغ وانما كانت هناك مشاهدات من الواقع ينقلها بن خلدون في مقدمته ، وهذا يعتبر فكر متقدم قياسا للزمن الذي كتبت فيه المقدمة ولمستوى التطور والبحوث الإجتماعية والسياسية في عصره ، فهو لم يتوصل الى قضية الطبقات والصراعات المستعصية بينها ، إذ لم يكن العمل المأجور واضحا كما هو الحال في المجتمعات الصناعية المتطورة الا إن الصراع يكون بين الحاكم والرعية، عندما يخل الحاكم بالقواعد التي بموجبها دانت له الناس ، فعندما يدير الملك ظهره لقبيلته ، او عندما يسمح لقبيلته ولغيرها في تسيير امور الدولة من وراءه تنتهي الدولة .
خلاصة القول ان الأسس التي وضعها الباحثون الأوائل، وخاصة الدراسة القيمة التي جاد بها بن خلدون في مقدمته موضوعنا ، تضع المهتمين بشؤون الدولة الحديثة ، القواعد المتينة لبناء تلك الدولة وفق الظروف الحديثة وخاصة في دولة كالعراق الحديث، حيث التطورات العالمية الجديدة التي تجد انعكاساتها داخل الدولة الوطنية ، وسيادة مفاهيم العدالة والديمقراطية في ارجاء الدنيا، وتطور وسائل الإتصال والتواصل الإجتماعي، التي حوّلت العالم الى قرية صغيرة، والمفاهيم الفكرية المتبادلة عالميا ، وجدت طريقها لدفع بلدانا وشعوبا نحو التطور وحملها من زوايا النسيان لتصبح قوى سياسية واقتصادية ، ذات تأثير في المسار العالمي ، والعراق على الرغم من المصاعب والمعوقات التي تسيطر على المشهد السياسي والمعيشي فيه ، والمتعلقة بممارسات قوى الإرهاب واستهدافهم المواطنين بشكل يومي بالقتل والتفخيخ وكواتم الصوت، والذي توّج بالهجوم الداعشي وما رافقه من اعمال همجية ضد المسيحيين والأزيديين والتركمان والشيعة وغيرهم والترويج لقيم وافكار لا تمت الى العالم المعاصر بصلة ، كالسبي والغزوات والجواري والذبح. ليواصل ما بدأه المخربون في الدوله ومرافقها ومؤسساتها من فساد ورشاوي ونهب للمال العام واهمال متعمد للخدمات وتخريب المؤسسات المنتجة التي كانت قائمة ، وترك الشباب وخاصة الخريجين عاطلين عن العمل ، اقول رغم ذلك فإن بلادنا قادرة على تجاوز ذلك لما تملكه من إمكانيات في المجال الإقتصادي والمجال البشري وظهور المفاهيم السياسية المعاصرة ، وتصاعد الأهتمامات ببناء منظمات المجتمع المدني التي ستكون البديل الجيد عن العصبية التي حددها بن خلدون بالقبيلة ، ووضعت الأسس في بلادنا للحياة البرلمانية رغم ما شاب عملها من هفوات ونواقص ومحاصصة ، كما ساد مفهوم التداول السلمي للسلطة ، صحيح ان التجربة لازالت جديدة ، الا ان الدورات الجديدة للبرلمان ربما ستضعنا على جادة الصواب . لا اريد ان اطيل الحديث واشعبه ، ولكن اؤكد اهمية الإقتصاد في حياة الدولة العراقية، واهميته تكمن في تنويعه لصالح تطوير الصناعة والزراعة وتخليص اقتصادنا من احادية الجانب والإعتماد الأساسي على الدخل الناتج من الصناعة الإستخراجية للنفط خصوصا، اي تخليصه من صفته الحالية كونه إقتصاد ريعي، هذه العوامل اضافة الى الجهد العسكري ، في محاربة الأرهاب وفي المقدمة منها ارهاب داعش بالتعاون مع الشكل الذي يؤدي الى التطور والنجاح .