المنبرالحر

سياجٌ للوطن.. في شارع 52 / عبد المنعم الاعسم

يحدث ان تتشابه وتتداخل الدلالات والمرارات وإن كانت متباعدة في المكان والزمان واسماء اللاعبين، كما يحدث ان يكون اي واحد منّا بطلَ قصةٍ، أو مفارقة، اختارته لها الصدف او الاحداث اليومية التي تصنعها الاقدار، أو سعى اليها برجليه عن سابق تصميم.
في المشهد الدرامي الذي ينقذف اليه العراق تتشابك المفارقات النحسة، والفاجعة، بحيث يصبح اي واحدا منا بطل قصة، او كارثة، تحتاج الى اي سينمائي، ولو مبتدئا، لكي يجعل منها فيلما ناجحا تتشابك فيه التواريخ والمهازل، مثيرا وآسياً: وأصل القضية يتمثل في كيفية حماية الوطن من الاستباحة، من خلال مشهد جرى امام دائرة حكومية حساسة (ومغرية للعصابات الفاجرة) يراجعها المئات يوميا، كانت من غير سياج يدرأ عنها السيارات الانتحارية.. اكرر: من غير سياج.
الاسبوع الماضي كان فرع الرصافة لمؤسسة السجناء السياسيين في شارع 52 بالكرادة مسرحا مفتوحا لقضية تداخلت فيها كل عناصر الاثارة والخوف والإستدلال، وكنت قد اختارني تاريخ القمع في هذه البلاد لأكون على منصة هذا المشهد، شاهدا على فصول القضية، ومراجعا احمل بيميني اضبارة لظلم سابق لحقني وموثقا بختم المحكمة وقرار الحكم الذي يقضي بحبس المجرم (الذي هو أنا) وفق المادة (31) من قانون العقوبات، وشاءت المناسبة ان تجمعني، هنا، بالكثير من أولئك الذين قضوا معي اجمل سنوات شبابهم وراء القضبان، وجاءوا الى مؤسسة السجناء يطالبون بحقوقهم، وهم كهولاً، مثلي.
ألا يصلح هذا «باك كراوند» لفيلم من افلام التعبيرية السوداء، إذ تنفتح الستارة عن مشكلة تبدو غاية في السهولة: بناية المؤسسة التي يراجعها المئات من المواطنين لا يقيها سياج يمنع عنها التفجيرات، او يقلل من عدد الضحايا على ايدي اصحاب اللحى والدشاديش القصيرة من فضلات البشرية الجديدة، ويوفر للمنازل العراقية عويلا مضافا الى سمفونية الموت اليومية، وطابورا آخر من طوابير الجنائز، او جيلا من الجرحى والمعوقين ومبتوري الايدي والارجل.
على انه ليس مشهدا متخيّلا، حين تهاجِم عصابة داعشية صفا طويلا من المراجعين امام بناية لا سياج لها(اليس الوطن نفسه، هكذا؟) آنذاك سنكتب عن الجريمة مسلسلات من الخواطر الغاضبة، وعن الضحايا مطولات من المراثي، وقد تساعدنا المفارقات ان نجلد انفسنا، كما سبقَنا الى جلد النفس الموسيقي الالماني كارلينز ستوكهاوزن معلقا على مشهد المذبحة في بناية مركز التجارة الدولي في 11 سبتمبر بقوله «انه مشهد من فصل واحد أدركته مجموعة مسعورة ركزّت جهدها على إداء مشهد واحد فأرسلت به 5 آلاف شخص الى الهلاك، وهلكت.. اننا، إزاء عمل كهذا، لا نستحق ان نكون موسيقيين».
وهكذا..امام بناية مؤسسة السجناء السياسيين في شارع 52، المتوقفة لاكثر من شهر عن استقبال المراجعين بسبب اصرار «الحكومة» على عدم بناء سياج يقيها من التعديات الارهابية، احتشد جمع من النساء والرجال، في توليفة من الاسى والشكوى والجدال وتبادل الملامة والاتهامات ونفاذ الصبر: الموظفون يرفضون الدخول الى مكاتبهم خشية ان يكونوا طعما للحرائق، والمواطنون يصرون على تمشية معاملاتهم المتوقفة منذ اكثر من خمسة اسابيع. الموظفون يؤكدون انهم ناشدوا الجهات الحكومية بوجوب تشييد سياج للبناية من دون جدوى، فيما الجمع من المواطنين يلومون الموظفين ويتهمونهم بالتهرب من اداء الواجب بذريعة السياج.
في الفيلم السينمائي الواقعي، والمتخيَّل، تنفجر سيارة مفخخة في المكان. تتطاير اشلاء البشر من النساء والرجال.. ثم تعلن الجهات الامنية عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن سبب عدم تشييد سياج للبناية المنكوبة.. او للوطن المستباح.
**********
« لكي تخلق الموسيقى التناغم يجب أن تدرس النشاز».
بلوتارخ- مؤرخ اغريقي