المنبرالحر

اليسار العراقي والثورة الحسينية / رضي السماك*

على الرغم من مرور ما يقرب من أربعة عشر قرناً على استشهاد سيد الشهداء وأبو الثوار الإمام الحسين بن علي (ع) ، إلا إن ثورته ضد الدولة الأموية ، التي أراد أن يحولها مؤسسها إلى دولة وراثية وملك عضوض ، بدءاً من ابنه يزيد الذي رفض الحسين أن يبايعه بإباء وشموخ وعزة ، ما زالت هذه الثورة تمثل نبراساً وقدوة والهاماً حياً للعديد من الثورات والانتفاضات الشعبية في عالمنا العربي والاسلامي .
وطوال تاريخنا الحديث لم تتوان قوى اليسار والتقدم العربية حيثما سنحت الظروف لها عن مشاركة شعوبها في مناسباتها الدينية الشعبية طالما يمكن توظيفها وأحياؤها في خدمة مصالحها ومطالبها الآنية، والتفويت على قوى الثورة المضادة فرصة استغلالها لتقسيم الجماهير طائفياً او توجيهها ضد ممثليها الحقيقيين من قوى التقدم الاجتماعي بما يخدم الانظمة الاستبدادية والطائفية و القوى الامبريالية.
و لربما تُعد مناسبة عاشوراء واحدة من ابرز المناسبات الدينية التي تفاعلت معها قوى اليسار والشيوعيون بوجه خاص لتكون مناسبة لتجسيد شعارات الحسين من أجل الحرية والعدالة ورفض الاستبداد والفساد واسقاطها على أرض الواقع الراهن المعاش . و اتذكر في هذا السياق ان رفيقنا الاستاذ عبد الرزاق الصافي ( أمد الله في عمره ) قد نشر جانباً من الردات التي تخللتها شعارات سياسية، وكان للشيوعيين العراقيين دور في صياغتها وترديدها في مجلة «رسالة العراق» في اواخر العقد الاخير من القرن الماضي. ووجه نداءً بهذا الشأن الى كل من تحفظ ذاكرته أي ردات تتخللها شعارات سياسية في مواكب الحسينيات بكل محافظات العراق ان يبعثها للمجلة التي كانت تصدر في لندن.
ويمكننا في هذا الصدد أيضاً أن نشير إلى أن البحرين هي من الدول العربية التي ساهم فيها الشيوعيون والوطنيون في مواكب عزاء عاشوراء ورفعوا الشعارات السياسية والمطلبية خدمة لمطالب الشعب بأسره وحركته الوطنية، وذلك لما لهذه المواكب آنذاك من حصانة دينية في المسيرات العزائية في ظل مصادرة الحريات العامة من قبل السلطات الاستعمارية والنظام الدكتاتوري القائم .
ومع مطلع شهر محرم الجاري انتشرت في البحرين على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لشباب من الشيوعيين العراقيين وهم يهمون بتعليق لافتات سوداء على حائط تحيي مناسبة عاشوراء واستشهاد الامام الحسين ، وقد ارفق مع هذا التداول تعليقات بعضها بدا ساخراً وبعضها الآخر بدا مذهولاً أو مندهشاً. لكن ليت هؤلاء الساخرين والمذهولين يعلمون ان هذا التقليد في مشاركة الحزب الشيوعي العراقي افراح وأتراح شعبه ليس جديداً على تقاليده وتراثه السياسي، ربما منذ العقد الاول من تأسيسه تقريباً.
فالشيوعيون لم يكونوا يوما ضد الدين كدين، الشيوعية كغاية سامية من غايات العدالة الاجتماعية القصوى هي انبل وأسمى من هذا المفهوم السطحي الضيق الذي تحاول ان تروج له الطبقات الحاكمة والرجعية والقوى الامبريالية، بغرض التشويه وتنفير بسطاء الناس من ممثلي مصالحهم الحقيقية وبما يخدم مصالح تلك الطبقات والانظمة والقوى المعادية. فالشيوعيون هم ابناء نجباء لشعوبهم ومرتبطون أهلياً وشعبياً بثقافات شعبهم و بضمنها الدينية .
ولا يمكن لهم في محافظات ومناطق ومدن تخرج عن بكرة ابيها للاحتفال بمثل هذه المناسبات الدينية الجليلة ان يكونوا متفرجين أو أن يعزلوا أنفسهم عن جماهيرهم ويتعالوا عليها في مناسباتها تلك، خاصة و انها تحمل معانٍ روحية و انسانية سامية .
معلوم ان الثورة الحسينية هي مصدر إلهام لمفكري وفلاسفة وأدباء الثورات أيضاً . يقول الكاتب التقدمي المصري الراحل أحمد عباس صالح ان: «الحسين منذ اللحظة الاولى اختار دوره او على الأصح اختاره دوره ، فطبيعته ترفض كل ما يحدث وهي ترفض لحد الأزمة ، ان السيف والارهاب يطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يبايع ويأوي لمكة « .. ويضيف قائلاً: « لكن الحسين كان يعلم انه لا بد من فدية ضخمة . فدية تتوهج بالدم وكان هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم كفدية تهز الضمير شبه الميت في قلب الامة « ... ويستطرد قائلاً : « وبذلك انتهت اول جولة للعدل مع الظلم انتهت بأروع استشهاد واعظم بطولة وكانت شهادة الحسين اعظم انتصار للثورة. لانها تغلغلت في الضمير العربي والاسلامي و احيت الضمائر التي خنقها الارهاب لتسقط بعد ذلك بستين عاماً فقط دولة بني امية « .
و هنا يتجلى بالضبط الانتصار العظيم الذي حققه الحسين (ع) في معركة كربلاء في مواجهة جيش الطاغية يزيد ليس بالمعايير العسكرية المجردة ، بل بالمثال العظيم - القدوة الملهم في تحديه قادة الجيش، ورفضه رفع الراية البيضاء لهم والاستسلام. فلولا هذا المثال لما انتهت دولة الامويين بالسرعة التي أشار صالح اليها عن حق آنفاً. ولولا ذلك المثال لما عرف تاريخنا الاسلامي العديد من الثورات التي انتصرت او نازلت دول الطغيان، وتركت تأثيرها في زعزعة الدول التي ثارت ضدها، بدءاً من دولة العباسيين التي سرقت ثورة العلويين بانتهازيتها وركوبها الموجة، وليس انتهاءً بدولة سلاطين بني عثمان الاتراك الفاسدين الذين استعمروا عالمنا العربي أربعة قرون ونيف .