المنبرالحر

عثمان بن عبد الله بن محمد بن جرجيس الموصلي / صادق محمد عبد الكريم الدبش

هو الملا عثمان الموصلي ابن الحاج عبد الله بن محمد بن جرجيس من عشيرة البوعلوان إحدى فروع قبيلة الديلم.
ولد عام 1271هـ ـ 1854م في مدينة الموصل في بابا العراق. توفي والده قبل أن يبلغ السابعة من عمره، ولم يلبث على اثر ذلك أن أصيب بفقد بصره، وكان لهم جار وهو (الوجيه محمود بن سليمان أفندي العمري ) فأخذه إلى بيته وضمه إلى أولاده وجعله موضع عنايته ، وعين له معلما يحفظه القرآن الكريم عن ظهر قلب. ولما تعلم القرآن ومبادىء العلوم الأولية ...درس العلوم العربية والدينية على يد علماء عصره وأفاضل بلده ..ومنهم الشيخ عمر الأربيلي والشيخ صالح الخطيب والشيخ عبد الله الفيضي الخضري وغيرهم من علماء الموصل وشيوخها. وقد بلغ عثمان أشده وهو ما يزال مقيما في البيت الذي آواه صغيرا، ولكن هذا الرجل لم يلبث أن حضرته المنية عام 1282هـ ـ 1865م فكان لذلك وقع كبير في نفس عثمان وأحس بالفراغ مما دفعه إلى أن يترك مدينته الموصل متوجها إلى بغداد بعد أن اكتملت رجولته وأصبح في العقد الثالث من عمره وكان ذلك أول سفر إليها.
وفي بغداد نزل في دار بن المرحوم محمود العمري الأديب والأستاذ أحمد عزة باشا العمري. وفي مكوثه في بغداد استطاع التعرف على كثير من أدباء العراق. وفي بغداد رأى المجال أمامه مفتوحا للاستزادة من العلم والتحصيل ، فلم يشأ أن تضيع منه الفرصة فجعل يدرس صحيح الإمام البخاري على يد المرحوم الشيخ داود أفندي وحفظ نصف صحيح البخاري . ثم توفي مدرسه الشيخ المذكور وعندئذ أكمل حفظ النصف الثاني على يد الشيخ بهاء الحق أفندي الهندي ، المدرس الثاني في جامع الإمام الأعظم.
سافر الى استانبول عدة مرات والى مصر وسوريا واليمن والحجاز وسائر الأقطار العربية التي ساح فيها ليلتقي بعلمائها وقرائها، وكان موهوبا يتمتع بالذكاء والفطنة، يقال إذا لامس يد شخص عرفه ولو لم يتكلم معه ، ومن تكلم معه لا ينساه أبدا ولو بعد سنين. له عدة مؤلفات في الشعر والنثر كما كان وحيد عصره في التجويد ، وله القدح المعلى في الموسيقى ... وله يد في العلوم الفلكية يتفوق بها على علماء عصره. وقد نفاه الوالي تقي الدين شاه سنة 1304هـ ـ 1886م الى سيواس. وبعد منفاه نصب معلما للموسيقى في استنبول وذهب الى مصر وتعلم القراءات العشر وطبع ديوان (الفاروقي) وأحبه المصريون وذاع اسمه وطبع عدة قصائد مخمسة في مدح النبي . أصدر وهو في مصر مجلة سماها "المعارف" ولكن لم تطل حياتها.
ذاع صيته في العراق وتركيا ومصر وبلاد الشام , زار الشام ونال اعجاب المغنين والفنانين , ثم زار بيروت ومنها الى مصر فألتف حوله مشاهير الطرب والغناء أمثال عبده الحمولي ومحمد عثمان , وقد استمع منهم الى الادوار ثم اسمعهم غناء الادوار المصريه فأعجبوا بأداءه , كان عثمان الموصلي موضع حفاوةٍ واجلال واكرام في كل بلد يحل بها التقى عند ذهابه إلى مصر عام 1895 بالموسيقار عبده الحمولي وغيره من رجال الموسيقى والفن ودرسوا على يديه فنون الموشحات، والتقى عام 1909 بسيد درويش في الشام، حيث تعلم سيد درويش منه الموشحات وفنون الموسيقى، وقام بتخميس لامية البوصيري واطلق عليها (الهدية الشامية على القصيدة اللامية).
كان شاعراً باللغه العربيه والفارسيه والتركيه , وان اكثر اشعار المواليد النبويه وتلحينها في العراق هي من نظمه وتلحينه , يجيد الضرب على الدف عالماً بالايقاع والاوزان , ملحناً من احسن الملحنين , وقد الف كتباً كثيراً في شتى العلوم أهمها:
- أبيض خواتم الحكم ( في التصوف)
- الطراز المذهب في الادب
- الابكار الحسان
- التوجع الاكبر في حادثة الازهر
لديه كم لا يحصر من الموشحات والاغاني والتي معظمها موشحات وابتهالات دينيه ، حولت فيما بعد الى موشحات واغنيات عاطفية يتغنى بها مشاهير الغناء العربي وأهمل جهلاً صاحبها واشهرها:
«زوروني كل سنة مرة» ، انتشرت هذه الأغنية بسرعة. وأصل هذه الأغنية موشح «زر قبر الحبيب مرة». والتي اقتبسها سيد درويش هي وأغنية » طلعت يا محلى نورها» التي كانت موشحًا للموصلي بعنوان «بهوى المختار المهدي».
ومن موشحات عثمان الموصلي المشهورة «أسمر أبو شامة» وأصلها «أحمد أتانا بحسن وسبانا»، و«فوق النخل فوق» التي هي بالاصل ابتهال «فوق العرش فوق»، و»ربيتك زغيرون حسن» الذي كان في الأصل «يا صفوة الرحمن سكن». أما أغنية «يا أم العيون السود» فقد اشتهرت بصوت ناظم الغزالي وانتشرت في معظم أنحاء العالم العربي، وهي من ألحان... الموصلي.
من شعره
قدك المياس يا عمري يا غصين البان كاليسري أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا قمري
قدك المياس مد مال لحظك الفتان قتالا هل لوصل خلدك لا لا فاقطع الآمال وانتظري
أنا وحبيبي في جنينة والورد مخيم علينا إن طلب مني وصالو يا رب تستر علينا
عيونك سود يا محلاهم قلبي تلوع بهواهم صار لي سنتين بستناهم حيرت العالم في أمري
عاد من مصر إلى الموصل، وكان قد درس في بغداد على يد الشيخ محمود شكري الآلوسي ولما عاد الى بغداد عكف على ما كان عليه.
عام 1920م وقيام الثورة العراقية حيث قام يخطب في جامع الحيدرخانه ويحثهم على المطالبة بالاستقلال. وفي جمادي الآخرة من عام 1341هـ ـ 30 كانون الثاني عام 1923م وهو يوم الثلاثاء وكان يوما شديد المطر وافاه الأجل وفجعت بغداد بوفاته ودفن في مقبرة الغزالي الواقعة في الجهة الشرقية من بغداد.
ذكرت «رويترز» أن ما تسمى (الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) )دمرت تمثالًا لعثمان الموصلي في الموصل بعد احتلالها المدينة في 10/6/2014. واكتفت (رويترز) بالقول إن صاحب التمثال هو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر. وقد نُشر هذا الخبر المقتضب جدًا في بعض الصحف العربية من دون أي إيضاح أو شرح أو إضافة، كأن عثمان الموصلي مجرد مغن عابر من المغنين المجهولين، في حين إنه يُعـد لدى عارفي فضله أحد أهم عباقرة الغناء العربي في المائة سنة الأخيرة، فهو أستاذ سيد درويش وعبده الحامولي، وكامل ألخلعي وأبو خليل القباني، وواضع أشهر وأجمل الألحان العربية التي ما برحت شديدة الحضور في القرن الحادي والعشرين.
مع شديد الأسف يتم الأستهتار والعبث بالتراث العراقي وبحضارة هذا البلد الزاخر بالثقافة والمعرفة ويضرب بأطنابه في بطون التأريخ ، مهد أولى الحضارات والذي كان مقرا ومفرا لكل الباحثين عن العلوم والأدب والفنون ، وقد أنجب كبار العلماء والأدباء والشعراء والفنانين من أمثال زرياب والملا عثمان الموصلي والمتنبي والجواهري والنواب وعلي الوردي ومصطفى جواد والقائمة تطول ، وتمتد على طول تأريخ وطن الحضارات الأول في التأريخ . الظلام والظلاميون والمعادين للثقافة وللحرية والأنعتاق والمتحجرة عقولهم وقلوبهم ، مزهقي أرواح الألاف من أبناء وبنات شعبنا وبغل وحقد قل نظيره في التأريخ ، يفعلون كل هذا على مسامع ومرئى العالم بأسره ، وهناك من يمد هذه القوى الأرهابية بكل الأمكانات المادية والأعلامية ويكونوا لهم حواضن ومأوى لكي يستمر مسلسل الموت والدمار والخراب في العراق وسوريا ومناطق أخرى .
أقول لكل هؤلاء توقفوا عن المساهمة في الأبادة الجماعية لشعبنا ومكوناته ، توقفوا عن تدمير ماضي وحاضر ومستقبل هذا البلد المنكوب والذي يتلقى الضربات من خارج الحدود ومن جهات عديدة ..وكأن لهم ثأر مع شعبنا !...أو لهم استحقاقات بذمة العراق ، أكرر القول أذهبوا وتصارعوا بعيدا عن العراق وشعبه ، فمهما طال الزمن ستدركون وبشكل قاطع ؟...بأنكم أخطأتم العنوان والهدف ، فالعراق سينهض من كبوته ويستعيد ألقه وبناء نفسه وكما يقول الجواهري الخالد ( ينهض من صميم اليأس جيلٌ
مريـدُ البـأسِ جبـارٌ عنيد
يقـايضُ ما يكون بما يُرَجَّى
ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريد"
المجد لكل من وضع لبنة في ماضي وحاضر العراق في رفعة شأنه وسموه وعلاه ، المجد للذائدين عن حياضه ، والخزي والعار لكل من يزرع الموت ويوئد كل ما فيه حياة وضياء .